عناصر الخطبة
1/ذكر الله من أيسر الطاعات وأعظمها أجرا 2/فضيلة ذكر الله في الأماكن والأزمان الفاضلة 3/من أسرار التوجيه الرباني لكثرة ذكره في عشر ذي الحجة.اقتباس
لَا زَالَ ذَلِكَ النِّدَاءُ يَجُوبُ الْقُلُوبَ يُحَرِّكُ أَشْوَاقَهَا، وَيُهَيِّجُ لَهْفَتَهَا وَيَبْعَثُ شُجُونَهَا؛ حُبًّا فِي زِيَارَةِ تِلْكَ الْبِقَاعِ الطَّاهِرَةِ، وَرَغْبَةً فِي مُشَاهَدَةِ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ الْمُقَدَّسَةِ؛ كُلُّ ذَلِكَ يَحْمِلُ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ اللَّهَ كَبِيرٌ يَسْتَحِقُّ التَّكْبِيرَ وَالتَّعْظِيمَ؛ فَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يَلِيقُ بِكَمَالِ عَظَمَتِهِ، وَيُوَازِي جَلَالَ عِزَّتِهِ، مُسَلِّمًا بِحُكْمِهِ وَقَضَائِهِ، وَطَامِعًا فِي قُرْبِهِ وَلُطْفِهِ؛ (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ)[مَرْيَمَ: 65]، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً نَرْجُو بِهَا الْفَوْزَ يَوْمَ مَجِيئِهِ، وَالنَّجَاةَ يَوْمَ لِقَائِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَسُولُهُ، سَيِّدُ أَوْلِيَائِهِ وَخَيْرُ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، خَلِيلُهُ وَمُصْطَفَاهُ وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَصَحَابَتِهِ، وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ؛ ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]؛ فَتَقْوَاهُ سَعَادَةٌ فِي الدُّنْيَا وَنَجَاةٌ فِي الْأُخْرَى.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ مِنْ أَيْسَرِ الطَّاعَاتِ أَدَاءً وَقِيَامًا، وَأَعْظَمِهَا أَجْرًا وَثَوَابًا عِبَادَةَ الذِّكْرِ؛ إِذْ لَمْ يُحَدِّدِ الشَّرْعُ لَهَا مَكَانًا وَلَا زَمَانًا، وَلَمْ يَشْتَرِطْ لَهَا هَيْئَةً وَلَا عَدَدًا، كَمَا لَا تَتَطَلَّبُ جُهْدًا وَلَا مَالًا وَلَا تَضْحِيَةً وَلَا إِقْدَامًا؛ لِذَا دُعِيَ الْعَبْدُ إِلَيْهَا فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ وَشُؤُونِهِ، وَعَنْهَا قَالَ الْحَقُّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) [آلِ عِمْرَانَ: 190-191].
وَمِنْ هُنَا كَانَتْ هَذِهِ الْعِبَادَةُ الْيَسِيرَةُ الْمَيْدَانَ الْفَسِيحَ لِمَنْ أَرَادَ السِّبَاقَ، وَالْمِضْمَارَ الْوَاسِعَ لِمَنْ طَمِعَ فِي اللَّحَاقِ، وَعَلَى الْحَصِيفِ اللَّبِيبِ اسْتِغْلَالُ سَاعَاتِ عُمُرِهِ، لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَظَعْنِهِ وَإِقَامَتِهِ، وَصِحَّتِهِ وَسَقَمِهِ، وَفَرَاغِهِ وَشُغْلِهِ، فِي تَحْصِيلِ مَا يُحِبُّ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَكَسْبِ الْقَدْرِ الْكَبِيرِ مِنَ الْأُجُورِ مِنْ خِلَالِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْجَلِيلَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟!، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ".
وَقَدْ جَاءَ الْحَثُّ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ -تَعَالَى- بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ وَسِيَاقَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ؛ أَمْرًا وَفَضْلًا وَجَزَاءً وَعَدَدًا وَإِشَادَةً وَصِيَغًا، وَالنُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ مُسْتَفِيضَةٌ وَصَرِيحَةٌ، وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَخُصُوصًا فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ.
إِلَّا أَنَّ الْحَثَّ عَلَى عِبَادَةِ الذِّكْرِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ بِمَا فِي ذَلِكَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، كَانَ أَصْرَحَ وَأَوْضَحَ، وَالتَّوْجِيهُ إِلَيْهِ أَنْدَبَ وَآكَدَ، وَالدَّلَائِلُ مِنْ ذَلِكَ صَرِيحَةٌ فِي حَثِّ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا، وَالْحُجَّاجِ خُصُوصًا، وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى صِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ أَلَا وَهِيَ صِيغَةُ التَّكْبِيرِ وَالْحَمْدِ وَالتَّهْلِيلِ؛ مِثْلُ صِيغَةِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَبِكُلِّ مَا فِيهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ وَتَمْجِيدُهُ.
وَلِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ: مَا سِرُّ التَّوْجِيهِ الرَّبَّانِيِّ وَالنَّبَوِيِّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ إِلَى عِبَادَةِ الذِّكْرِ وَتَحْدِيدًا لَفْظَ التَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ؟!
وَالْجَوَابُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: أَلَيْسَ الَّذِي أَسْمَعَ الْبَشَرِيَّةَ كُلَّهَا بِنِدَاءٍ وَاحِدٍ حَيْثُ وَجَّهَ خَلِيلَهُ فِي قَوْلِهِ: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الْحَجِّ: 27]، فَلَبَّى الْخَلِيلُ تَكْلِيفَ رَبِّهِ وَقَامَ مِنْ حِينِهِ: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا"؛ فَدَوَّى صَوْتُهُ فِي أَرْجَاءِ الْمَعْمُورَةِ، سَمِعَهُ كُلُّ حَيٍّ حَتَّى مَنْ كَانَ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ وَأَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ؟!
وَلَا زَالَ ذَلِكَ النِّدَاءُ يَجُوبُ الْقُلُوبَ يُحَرِّكُ أَشْوَاقَهَا، وَيُهَيِّجُ لَهْفَتَهَا وَيَبْعَثُ شُجُونَهَا؛ حُبًّا فِي زِيَارَةِ تِلْكَ الْبِقَاعِ الطَّاهِرَةِ، وَرَغْبَةً فِي مُشَاهَدَةِ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ الْمُقَدَّسَةِ؛ كُلُّ ذَلِكَ يَحْمِلُ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ اللَّهَ كَبِيرٌ يَسْتَحِقُّ التَّكْبِيرَ وَالتَّعْظِيمَ؛ فَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ.
أَلَيْسَ الَّذِي حَرَّكَ مَشَاعِرَ قُلُوبِ الْمَلَايِينِ اسْتِجَابَةً لِذَلِكَ النِّدَاءِ الْمُبَارَكِ فَأَقْبَلُوا مُلَبِّينَ زُرَافَاتٍ وَوُحْدَانًا مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وَصَوْبٍ، يَرْكَبُونَ الْأَجْوَاءَ، وَيَعْبُرُونَ الْبِحَارَ، وَيَقْطَعُونَ الْفَيَافِيَ وَيُجَاوِزُونَ الْقِفَارَ، مُسْتَغْرِقِينَ آلَافَ الْأَمْيَالِ وَمِئَاتِ السَّاعَاتِ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، دَلِيلًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ كَبِيرٌ يَسْتَحِقُّ التَّكْبِيرَ؟! فَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ.
عِبَادَ اللَّهِ: أَلَيْسَ الَّذِي قَذَفَ فِي قُلُوبِ الْمَلَايِينِ الرَّغْبَةَ فِي حَجِّ بَيْتِهِ وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ رَغْمَ مَا يَشْغَلُهُمْ فِي أَوْطَانِهِمْ مِنْ كَسْبٍ وَتِجَارَةٍ وَمَالٍ وَوَلَدٍ، وَرَغْمَ مَا يَكْتَنِفُهُمْ فِي أَسْفَارِهِمْ مِنْ عَوَائِقَ وَعَوَالِقَ، وَيَعْتَرِضُهُمْ مِنْ مَتَاعِبَ وَمَصَاعِبَ؛ دَلَالَةً عَلَى عُلُوِّ قَدْرِهِ -سُبْحَانَهُ-؛ فَاسْتَحَقَّ أَنْ يَكْبِّرَهُ الْعِبَادُ فِي عّشْرِهِمْ وَمَنَاسِكِهِمْ؟! فَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ.
أَلَيْسَ الَّذِي مَلَكَ قُلُوبَ الْمُلَبِّينَ وَتَحَكَّمَ فِيهَا، وَفِيهِمْ ذُو الْجَاهِ وَالسُّلْطَانِ وَصَاحِبُ الثَّرْوَةِ وَالْغِنَى وَمَالِكُ الْقُوَّةِ وَالْمَنَعَةِ؛ فَأَلَانَهَا وَأَذْعَنَهَا حَتَّى أَخْرَجَهَا مِنْ قُصُورِهَا وَأَبْرَاجِهَا، وَأَفْرَغَهَا مِنْ حَشَمِهَا وَخَدَمِهَا، وَجَرَّدَهَا مِنْ زِينَتِهَا وَحُلَلِهَا، وَأَلْبَسَهَا ثِيَابَ الْإِحْرَامِ الرِّدَاءَ وَالْإِزَارَ، وَحَدَّدَ لَهُمْ مَوَاقِيتَ زَمَانِيَّةً لَا يَتَعَدَّوْنَهَا، وَرَسَمَ لَهُمْ مَوَاقِيتَ مَكَانِيَّةً لَا يَتَجَاوَزُونَهَا إِلَى بَيْتِهِ وَنُسُكِهِ إِلَّا مِنْ خِلَالِهَا، دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ كَبِيرٌ عَظِيمٌ يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ وَالتَّكْبِيرَ؟! فَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ.
أَلَيْسَ الَّذِي انْقَادَتْ لَهُ تِلْكَ الْجُمُوعُ الْغَفِيرَةُ، وَذَلَّتْ لَهُ تِلْكَ الْحُشُودُ الْهَادِرَةُ، فَوَفَدَتْ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ قَاصِدَةً مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ، وَبِلِبَاسٍ أَبْيَضَ جَعَلَتْ تَدُورُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ عَلَى بَيْتٍ مِنْ حَجَرٍ، ثُمَّ بَيْنَ جَبَلَيْنِ صَغِيرَيْنِ صَارَتْ تَسْعَى سَبْعَةً بَيْنَهَا كَذَلِكَ؛ كُلُّ ذَلِكَ بِرَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ وَتَسْلِيمٍ وَرِضًى؛ فَقَطْ لِأَنَّ اللَّهَ الْكَبِيرَ الْعَظِيمَ أَمَرَهُمْ وَلَا يُرِيدُونَ سِوَى إِرْضَاءِ ذَلِكَ الْآمِرِ الْكَبِيرِ الْعَظِيمِ؟! أَفَلَا يَسْتَحِقُّ تَكْبِيرَاً وَتَعْظِيمَاً؟! اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ؟!
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مَنْ يُشَاهِدُ الْحَجِيجَ وَهُمْ بَيْنَ فِجَاجِ مَكَّةَ يَسِيرُونَ، وَفِي شِعَابِهَا يَتَنَقَّلُونَ، يَقْصِدُونَ الْمَشَاعِرَ وَيَغْبِطُهُمُ النَّاظِرُ، مَقْصِدُهُمْ وَاحِدٌ وَوُجْهَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، يَمْلَؤُونَ الْمَكَانَ وَيَضْبِطُهُمُ الْمَسَارُ وَيَحُدُّهُمُ النُّسُكُ، وَهُمْ بَيْنَ فَتْرَةٍ وَأُخْرَى يَتَحَوَّلُونَ مِنْ نُسُكٍ لِآخَرَ؛ فَهُنَا يَقِفُونَ، وَهُنَاكَ يَبِيتُونَ، وَهُنَا يَرْمُونَ، وَهُنَاكَ يَتَوَجَّهُونَ، وَهُنَا يُلَبُّونَ، وَهُنَاكَ يُكَبِّرُونَ، أَدْرَكَ يَقِينَاً أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يُكَبِّرُوهُ وَيَحْمَدُوهُ؟!
بَلَى؛ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ -سُبْحَانَهُ- وَهُوَ الْعَظِيمُ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ؛ فَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ.
قُلْتُ مَا قَدْ قُلْتُ فَإِنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ خَطَأً فَمِنِّي وَالشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِمَّا قُلْتُ خَطَأً، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ، وَاهْتَدَى بِهُدَاهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، عِبَادَ اللَّهِ: أَلَيْسَ مَنْ وَحَّدَ تِلْكَ الْمَلَايِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فَأَذْهَبَ فُرُوقَهُمْ، وَمَحَا اخْتِلَافَهُمْ رَغْمَ التَّبَايُنِ فِي الْمُسَمَّيَاتِ وَالتَّسْمِيَاتِ، وَالْحُدُودِ وَالرَّايَاتِ، وَاللَّهَجَاتِ وَاللُّغَاتِ، وَالْخُصُوصِيَّاتِ وَالذَّوَاتِ، وَالْأَلْقَابِ وَالصِّفَاتِ، وَالْأَحْسَابِ وَالْأَنْسَابِ، وَالْأَعْرَاقِ وَالْأَذْوَاقِ، وَالْأَلْوَانِ وَالْأَجْنَاسِ، الْجَمِيعُ مَشْغُولٌ بِتَعْظِيمِ رَبِّهِ يُكَبِّرُهُ وَيَحْمَدُهُ وَيُمَجِّدُهُ وَيُهَلِّلُ لَهُ، يَسْتَحِقُّ أَنْ يُكَبَّرَ وَيُعَظَّمَ؟! فَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ.
عِبَادَ اللَّهِ: أَلَيْسَتْ شَعِيرَةُ الْحَجِّ هِيَ الْجِهَادَ الَّذِي لَا قِتَالَ فِيهِ، يَتَحَمَّلُ الْحَاجُّ فِي بُلُوغِهَا وَتَحْقِيقِهَا الْمَشَاقَّ مُنْذُ خُرُوجِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ حَتَّى يَعُودَ؛ وَأَمَّا فِي الْمَنَاسِكِ فَتَبِعَاتٌ أُخْرَى؛ فَرُبَّمَا وَافَقَ مَوْسِمُ الْحَجِّ صَيْفًا شَدِيدَةً حَرَارَتُهُ، لَافِحٌ سَمُومُهُ، نَاهِيكَ عَمَّا يَعْتَرِي الْحَاجَّ فِي مَنَاسِكِهِ مِنَ الْعَطَشِ وَالْجُوعِ وَالتَّعَبِ وَالْمَرَضِ وَالْعَنَاءِ وَالنَّصَبِ؛ وَكَمْ يَغْمُرُهُ الْعَرَقُ بِسَبَبِ الْمَشْيِ وَالْحَرِّ وَالزِّحَامِ؛ بَيْنَمَا الْحَاجُّ مَعَ كُلِّ هَذِهِ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ رَاغِبٌ رَاهِبٌ، يَشْعُرُ بِاللَّذَّةِ وَيُحِسُّ بِالِاسْتِمْتَاعِ؟! مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَمَّلَ ذَلِكَ أَوْ يَصْبِرَ عَلَيْهِ لَوْلَا إِدْرَاكُهُ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَ يُحِبُّهَا الْكَبِيرُ، وَيَرْضَى بِهَا الْعَظِيمَ وَيُرْضِي عَلَيْهَا؛ فَلَا غَرَابَةَ وَالْحَجِيجُ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِتَكْبِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ.
هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِسِرِّ التَّكْبِيرِ وَالتَّعْظِيمِ، وَأَمَّا عَنْ سِرِّ التَّحْمِيدِ فَلِأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- هُوَ صَاحِبُ الْفَضْلِ وَالتَّوْفِيقِ، فَهُوَ الَّذِي تَفَضَّلَ عَلَى مَنْ حَجُّوا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ عِبَادِهِ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى أَدَاءِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ رَغْمَ الْعَنَاءِ وَالصِّعَابِ، وَأَتَمَّ لَهُمْ بِهَا النِّعْمَةَ وَأَوْجَبَ لَهُمُ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ، فَاسْتَحَقَّ أَنْ يَلْهَجُوا لَهُ بِالْحَمْدِ.
وَهَكَذَا قُلْ عَنْ سِرِّ التَّهْلِيلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ فَلِأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- هُوَ الْإِلَهُ الَّذِي بِيَدِهِ الْحُكْمُ وَالْأَمْرُ؛ فَهُوَ الْآمِرُ عِبَادَهُ بِفَرِيضَةِ الْحَجِّ وَمَا جَعَلَ فِيهِ مِنَ الْأَرْكَانِ وَالشُّرُوطِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَهُوَ النَّاهِي لُطْفَاً عَنْ كُلِّ مَا يُخِلُّ بِحَجِّهِمْ، وَكَوْنَهُ -سُبْحَانَهُ- الْإِلَهَ الْآمِرَ النَّاهِيَ الَّذِي يَجِبُ الْإِذْعَانُ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ وَالرِّضَى وَالِانْقِيَادُ؛ لِذَا اسْتَحَقَّ مِنَ الْخَلْقِ جَمِيعِهِمُ الْمُحِلِّينَ وَالْمُحْرِمِينَ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَيُكَبِّرُوهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
هَذَا وَصَلُّوا عَلَى مَنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ، وَأَمَرَكُمْ بَذَلِكُمْ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَاةً تُنْجِينَا بِهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَهْوَالِ وَالْآفَاتِ، وَتَقْضِي بِهَا جَمِيعَ الْحَاجَاتِ، وَتُطَهِّرُنَا بِهَا مِنْ جَمِيعِ السَّيِّئَاتِ، وَتَرْفَعُنَا بِهَا عِنْدَكَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَتُبَلِّغُنَا بِهَا أَقْصَى الْغَايَاتِ مِنْ جَمِيعِ الْخَيْرَاتِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِلْحُجَّاجِ حَجَّهُمْ، وَتَقَبَّلْ مِنْهُمْ مَنَاسِكَهُمْ، وَرُدَّهُمْ إِلَى أَهْلِيهِمْ مَأْجُورِينَ سَالِمِينَ مُعَافَيْنَ غَانِمِينَ.
اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنَّكَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَحْوَالَ الْمُسْلِمِينَ كَافَّةً، وَأَصْلِحْ أَهْلِينَا وَأَوْلَادَنَا وَنِيَّاتِنَا.
اللَّهُمَّ يَسِّرْنَا لِلْيُسْرَى، وَجَنِّبْنَا الْعُسْرَى، وَاجْمَعْ لَنَا يَا رَبَّنَا وَأَهْلِينَا وَمَنْ نُحِبُّ بَيْنَ سَعَادَتَيِ الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا.
...
وأقم الصلاة...
التعليقات