مفرطون في رمضان - خطب مختارة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات:

اقتباس

لكن للأسف -يا كرام- رغم ما لهذا الشهر من فضائل عظيمة وخصائص فريدة؛ إلا أن أعداءه لم يراعوا حرمته ولم يقدروه حق قدره؛ بل سعوا في صرف الناس عن مرضاة الله وبركات هذا الشهر ونفحاته، وأخذوا بأيديهم إلى معاصي الله، والانشغال بما لا ينفع، بل قد...

  لما كان الوقت هو عصب الحياة، وهو عمر الإنسان الحقيقي في هذه الحياة، كما قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- وهو يتحدث عن هذه الحقيقة، فقال: "وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر مرَّ السحاب؛ فمن كان وقته لله وبالله؛ فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوباً من حياته؛ فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة؛ فموت هذا خير من حياته".  

 

ولا أدل على أهمية الوقت ومكانته مما جاءت به  نصوص القرآن والسنة من العناية والاهتمام؛ حيث أقسم الله -تعالى- به في أجزاء عديدة منه، كقسمه -سبحانه وتعالى-، بالليل والنهار، كما في قوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى)[الليل: 1- 2]، وأقسم بالفجر وبالعشر وبالشفع والوتر: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ)[الفجر:1 - 3]، وكذا أقسم بالضحى والليل في موضع آخر، فقال: (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى)[الضحى:1- 2]، كما أقسم -سبحانه- بالعصر، فقال: (وَالْعَصْرِ)[العصر: 1]، وغيرها من الأوقات التي أقسم الله -سبحانه وتعالى- بها، ولا يخفى على كل ذي بصيرة أن الله -تعالى- لا يقسم إلا بعظيم.   وتتجلى عظمة الوقت ومنزلته في ورود نصوص كثيرة في الوحيين تحث على استغلاله وزيادة العناية ببعض لحظاته، كما قال الحق -جل جلاه- في كتابه العزيز: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)[الإسراء: 79]؛ فإذا كان قد تضمنت العناية بساعات الليل والقيام فيها بالركوع والخضوع؛ فكيف يكون حال المسلم إذا اجتمع شرف هذه الساعات بشرف شهر رمضان المبارك.  

 

أيها المسلمون: ما هو الجواب إذا وقفنا بين يدي الملك الجليل -جل في علاه- وسألنا عن أعمارنا عامة وعن الأزمنة المباركة خاصة، أما سمعتم حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رواه عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي الكريم أنه قال: "لا تزولُ قدَما العبدِ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ عن عمرِه فيما أفناهُ وعن شبابهِ فيما أبلاهُ وعن مالهِ من أين اكتسبَهُ وفيما أنفقَهُ وعن علمهِ ما عمِلَ به".  

 

وقد عدَّ الإسلام حفظ الوقت والعناية به أصل كل خير؛ وإذا كان الوقت كذلك يصبح تضييعه منشأ لكل شر، وكما أن الوقت ثمين لا يعوض؛ فكذلك يفضل بعضه على بعض؛ فمنه أيام وساعات ذهبية لا تساويها الدينا وما فيها من متاع زائل.   والحديث عن الوقت وأهمية استغلاله أول ما يتبادر إلى أذهاننا استغلال الأوقات الفاضلة والشريفة كرمضان فهو أعظم شهور العام حيث تتنزل فيه رحمات الكريم العلام وترتفع فيه منازل الأتقياء من الأنام وتكفر عن التائبين الذنوب والآثام؛ يقول العلامة ابن الجوزي -رحمه الله-: "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته؛ فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل".  

 

لكن للأسف -يا كرام- رغم ما لهذا الشهر من  فضائل عظيمة وخصائص فريدة إلا أن أعداءه لم يراعوا حرمته ولم يقدروه حق قدره؛ بل سعوا في صرف الناس عن مرضاة الله وبركات هذا الشهر ونفحاته، وأخذوا بأيديهم إلى معاصي الله، والانشغال بما لا ينفع، بل قد يضر؛ يريد الله لعباده التوبة والعودة، ويسعى عباد الشهوات وقتلة الأوقات أن يسلكوا بهم سبل الردى وبؤر الفساد ومواطن الريب؛ قال تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)[النساء: 27].  

 

وحتى تدرك -أيها الفاضل- حقيقة تضييع الأوقات نستعرض معكم بعضا من تلك  المظاهر والصور التي ضيع الناس أوقاتهم فيها وأهلكوا أعمارهم بسببها لا سيما في مواسم الخير والبركات، ومن ذلك: عكوف كثير من الناس على  القنوات الفضائية والبرامج الإعلامية التي أقل أحوالها أنها لا تحترم مواسم الخير ولا تقدرها، هذا إن لم يكن فيها من المشاهد المحرمة والأصوات الماجنة والصد عن دين الله، ويكفيها قبحا أنها تصرف الناس عن طاعة الله وعن صلاة القيام وتلاوة القرآن والذكر والدعاء والاستغفار.  

 

ومن مظاهر تضييع الأوقات في رمضان: قضاء أكثر الليل مع وسائل التواصل، كتويتر وغيره؛ ولك أن تتخيل ما يحدث فيها من مشاهدة الحرام والغيبة والنميمة والقيل والقال وإشاعة الأخبار الكاذبة والتدليس على عامة الناس وتزوير الحقائق؛ إضافة إلى التواصل المحرم بين بعض الفتيات والشباب وإثارة الجنس بسبب ما يتبادل فيها من العبارات الغرامية والحب وربما الصور، والله المستعان.   ومنها السهر بالليل مع الأصدقاء إلى ساعات الفجر الأخيرة، وربما كان السهر على معصية الله، واللهو غير المصاحب للقيل والقال، وليت الأمر وقف عند هذا الأمر بل ربما وصل الأمر إلى ترك الصلوات والنوم عنها.  

 

ومن ذلك: التردد على الأسواق دون لحاجة ودون حاجة، وكم يستغرق المتسوق من الأوقات وهو يتردد على المحلات التجارية وكذا في الطرقات وكذا عند الإشارات؛ مما يتسبب في تضييع بعض صلاة التراويح والقيام والذكر وقراءة القرآن، وربما أحيان يصير الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك الصلاة المفروضة، إضافة إلى ما يلحق بذلك من المخالفات، كالنظر الحرام والغش والأيمان من بعض الباعة.   ومن مظاهر تتضيع الأوقات في رمضان: النوم ساعات طويلة من النهار وربما استغرق النهار كله؛ مما يجعله يزهق كثيرا من الأوقات وينام عن عدة صلوات ويتخلف عن شهودها جماعة في الوقت الذي حدده الله، كما قال في كتابه: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتا) [النساء:103].  

 

ومما ينشغل به الكثير من الناس في رمضان: اللهث وراء الدنيا، وإن كان السعي والتكسب مما أباحه الله وحث عليه، إلا أنه يكون مذموما حين ينسي صاحبه العمل للآخرة ويبعده عن النفحات الربانية والمواسم الإيمانية، وتكون الدنيا شغله وهمه وفكره؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون:9].  

 

ومما يضيع به رمضان: عموم اللهو في رمضان، وحضور الفعاليات الاجتماعية والسهرات الغنائية والأندية والمباريات، وكل ما يتسبب في ضياع الأوقات وهجر مجالس الذكر والبقاء في المساجد وقراءة القرآن ونوافل الصلوات.  

وكذا الانشغال بالزيارات العائلية وتنظيم مواعيد اللقاءات المتبادلة والإفراط في ذلك؛ خصوصا أوقات صلاة التراويح والقيام والدعاء والمناجاة.  

وانشغال كثير من النساء طوال نهار رمضان بإعداد الطعام والتفاخر بتنوع المأكولات والمشروبات التي تنافي الحكمة من مشروعية الصيام، وتقضي على مقاصده.    

 

أيها المسلمون: ما أحوجنا إلى التأمل في حال السلف الأعلام كيف كانوا يقضون أوقاتهم في شهر الصيام والقيام؛ فقد كانوا يقضون نهارهم بالذكر والعبادة والمحافظة على النوافل وقضاء حوائج الناس والجهاد في سبيل الله والدعوة إلى دينه ونشر الخير وبذل المعروف، وكانوا يحيون ليلهم بالصلاة والقيام بين يدي الواحد العلام الذي قال عنهم: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الذاريات: 17- 18]؛ وفي مقدمتهم نبينا -صلوات ربي وسلامه عليه-؛ فقد كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه؛ فتقول له عائشة -رضي الله عنها-: "هون على نفسك؛ فإن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر"؛ فيقول بأبي وأمي هو -صلوات ربي وسلامه عليه-: "أفلا أكون عبدا شكورا"، وكان يأتيه جبريل في رمضان يدارسه القرآن حتى فارقت روحه الحياة -صلى الله عليه وسلم-.  

 

وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: "ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غرَبَت فيه شمسُهُ، نقص فيه أجلي، ولم يزدَدْ فيه عملي".   وقال حمَّادُ بن سلمة -رحمه الله-: "ما جِئنا إلى سليمان التَّيْمِي في ساعةٍ يُطاعُ اللهُ فيها إلاَّ وجدناهُ مُطيعًا، إنْ كان في ساعةِ صلاةٍ وجدناهُ مُصلّيًا، وإن لم تكنْ ساعة صلاةٍ وجدناهُ إمَّا متوضِّأً أو عائدًا مريضًا، أو مشيِّعًا لجنازة، أو قاعدًا في المسجد"، قال: "فكُنَّا نرى أنَّهُ لا يُحسنُ أن يعصي الله -عزَّ وجل-".  

 

عباد الله: فيا خسارة من أدرك رمضان ثم خرج منه كما دخل عليه؛ فلم يغفر له ذنب ولم يصلح له حال ولم يزدد قربة من الكريم المتعال؛ بل كان حظه من الشهر الفضيل دعوة جبريل وتأمين النبي الخليل، كما جاء في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي: "ارتقى على درجَةٍ منَ المنبرِ فقالَ: آمينَ، ثمَّ ارتقى درجةً أخرى فقالَ: آمينَ، ثمَّ ارتقى ثلاثة فقالَ: آمينَ، ثمَّ جلسَ قالَ: فسألوهُ علامَ أمَّنتَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: أتاني جبريلُ فقال: رغِمَ أنفُ امرئٍ ذُكرتَ عندَهُ فلم يصلِّ عليْكَ، قلتُ: آمينَ، ورغمَ أنفُ امرئٍ أدرَكَ أحدَ أبويْهِ أو كلاهُما فلم يدخُلِ الجنَّةَ، فقلتُ: آمينَ، ورغمَ أنفُ امرئٍ أدرَكَ رمضانَ فلم يُغفُرْ لَه، قلتُ: آمينَ" (رواه البزار).  

 

خطباؤنا الكرام: لا يخفى عليكم حرمة الشهر الكريم ومنزلته بين الشهور وما اشتمل عليه من الفرص الربانية والعطايا الإلهية، كما لا يجهل أمثالكم مرارة الخسارة في شهر رمضان وعواقبها على العبد في الدنيا والآخرة إن لم يتداركه الله برحمة منه وفضل، وقد كتبنا هذه المقدمة اليسيرة وتحدثنا فيها عن شيء من ذلك؛ وأرفقنا معها عددا من الخطب.   سائلين المولى أن يوفقنا وإياكم لاغتنام نفحات هذا الشهر العظيم والظفر بفضائله وخيره العميم.

الخطبة الأولى:
الخطبة الثانية:
الخطبة الثالثة:
الخطبة الرابعة:
العنوان
أسباب الخسارة في رمضان 2015/12/22 7052 1076 24
أسباب الخسارة في رمضان

إن لخسارتنا رمضانَ أسبابًا نحن الذين تعلَّقنا بها وأخذنا بِعُقَدِها، حين اتخذنا الشيطانَ وأعوانَه أولياءَ، وغفلنا عن أسبابِ الربحِ والرحمةِ، فَحقَّ على الخاسرِ منا قولهُ -تعالى-: (وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً) [النساء:119].

المرفقات

الخسارة في رمضان

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life