عناصر الخطبة
1/وقفات مع قوله عليه الصلاة والسلام "إن من الناس مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر.. 2/قدوات وصور لمفاتيح الخير 3/قدوات وصور لمفاتيح الشر.

اقتباس

الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه، فما أحسن...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب70-71].

 

روى ابن ماجه في سننه وأبو داود الطيالسي في مسنده وابن أبي عاصم في السنة والبيهقي في شعب الإيمان وابن المبارك في الزهد والرقائق بسند حسن؛ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ، مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ، مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ".

 

أيها المسلمون: في هذا الحديث النبوي الشريف يقسِّم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الناسَ في الدلالة على الخير والشر إلى قسمين، ويعقّب على ذلك بالدعاء بالخير لمن كانوا مفاتيح للخير، وبالدعاء بالهلاك على من كانوا مفاتيح للشر.

 

إن الخير بالمنظور الشرعي هو: ما يحدث لصاحبه نفعًا عاجلاً أو آجلاً، والشر ما يحدث للمرء ضرراً عاجلاً أو آجلاً في الدين أو الدنيا.

 

والناس في هذه الحياة شتى بين صالح وطالح، ومسلم وكافر، ومتأثر بعضهم ببعض، ومحتاج كل منهم إلى الآخر، وبهذا يستجلب الخير والشر، والنفع والضر.

 

فلهذا انقسم الناس إلى مفاتيح للخير: يدلون عليه، ويرشدون إليه، بأقوالهم أو بأفعالهم أو بهما معا، وقد يبقى لغيرهم خيرهم بعد وفاتهم؛ فقد روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ".

 

وانقسموا كذلك إلى مفاتيح للشر: يزينونه للناس، ويشجعونهم عليه، ويسعون في إيقاد شعلة الفتنة بينهم، ودفع عربة حياتهم نحو مهاوي الردى، ومعاطبَ يسوءُ عقباها، ويهلك الواقعون فيها، وقد يستمر شر أولئك الأدلة على الشر إلى ما بعد الموت؛ قال الله -تعالى-: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ)[النحل:25].

وفي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ".

 

فمن هم مفاتيح الخير، ومن هم مفاتيح الشر يا عباد الله؟  

إن من مفاتيح الخير -وهم خير المفاتيح وأزكاها وأشرفها-: الأنبياءَ والرسلَ عليهم الصلاة والسلام، إن هؤلاء الأصفياء من البشرية هم هداة الناس إلى ربهم، ونورهم إلى سبيل نجاتهم، وطريقهم إلى سعادتهم في عاجل أمرهم وآجله؛ (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[الزمر:18].

فقد أرسلهم الله -تعالى- بالبينات والهدى، لينقذوا الناس من الضلال والشقاء، فدعوهم إلى الحق وهو عبادة الله وحده والانقياد لدينه، وحذروهم من الباطل وهو عبادة غير الله والتمرد على شرعه، فاستجاب لهم مستجيبون فنجوا، وعصاهم آخرون فهلكوا؛ قال الله: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)[النحل:36].

 

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي".

 

ومن أولئك الرسل الكرام: رسولنا محمد -عليه الصلاة والسلام-، فما من خير إلا وقد دلنا عليه، وما من شر إلا وقد حذرنا منه؛ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: "تَرَكَنَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ، إِلَّا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "مَا تَرَكْتُ شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُكُمْ عَنِ النَّارِ، إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، ومَا تَرَكْتُ شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ، وَيُبَاعِدُكُمْ عَنِ الْجَنَّةِ، إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ".

 

ومن مفاتيح الخير: معلمو الناس الخير بعد الأنبياء والرسل، الذين يرشدون بالحق الخلق إلى الخالق، ويحذرونهم من ركوب المعاصي والبوائق، فكم من ضال قد هدوه، وشريد عن الهدى قد ردُّوه، وجاهل بالحق قد علّموه، وغريق في بحار الغفلة والشهوات قد أنقذوه، فهم منارات النجاة بين الأحياء، وحصون الحماية من شر الشيطان والأعداء، فما أعظم أثرهم في الناس، وأعلى درجاتهم عند رب الناس!

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا".

 

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ، وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ، لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ".

وقال الإمام أحمد -رحمه الله- في وصفهم: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم. ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين".

 

معشر المسلمين، لا يغيب عنكم أن الوالدينِ هما أول من يؤثر على الطفل: خيراً أو شراً؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ".  

قال الشاعر:

ويَنشأُ ناشئ الفتيانِ مِنّا *** على ما كانَ عَوّدَهُ أبُوه

وما دانَ الفتى بحِجًا، ولكنْ *** يُعَلّمُهُ التّدَيّنَ أقرَبُوه

 

وقال الآخر:

الأم مدرسةٌ إذا أعددتَها *** أعددتَ شعباً طيِّب الأعراقِ

الأم روض إن تعهّده الحيا *** بالرِّي أورقَ أيما إيراقِ

الأم أستاذ الأساتذة الأُلى *** شَغَلَتْ مآثرُهم مدى الآفاقِ

 

فإذا أصبح الأبوان صالحين، فهما بوابة الخير الأولى التي يدخل منها الطفل إلى رياض الخير الواسعة، فعلى أيديهما يتعلم الاستقامة والصلاح، وبنورهما يبصر الهدى والفلاح، وبتربيتهما يشب محبًا للخير وأهله، وراغبًا في صنعه لغيره؛ فكم من بنت أو ابن صلحت حياته الدينية والدنيوية بسبب أبيه أو أمه أو بهما معا، وكم من ولد أسلم بإسلام أبويه أو أحدهما، وكم من خير ديني أو دنيوي للأولاد قد استمر لهم في حياتهم باتباعهم وصايا آبائهم وأمهاتهم.

 

فعن بعض أصحاب جعفر الصادق -رحمه الله- قال: دخلت على جعفر وموسى بين يديه وهو يوصيه بهذه الوصية فكان مما حفظت منها أنه قال: يا بُني، اقبل وصيتي، واحفظ مقالتي؛ فإنك إن حفظتها تعش سعيدا، وتمت حميدا.... قال علي بن موسى: فما ترك هذه الوصية إلى أن توفي.

 

أيها الأحبة الكرام: ومن مفاتيح الخير: المدرِّس الصالح الأمين، المدرس في مدرسة أو جامعة أو مسجد أو مركَز أو معهد أو منصة اليكترونية؛ فإنه إذا كان ناصحًا مخلصًا، فما أحسن أثره على طلابه، وما أينع ثمراته بين تلاميذه؛ فكم من موفَّق في خير ديني أو دنيوي كان سببُه: نصيحةَ معلم فاضل، وتربيةَ مُربٍّ مخلص، وتعليمَ مدرس صادق، وهديَ قدوة تعليمية صالحة، وسيرةَ أستاذ أمين، وموقفَ خيرٍ رآه من معلمه أو شيخه فأصلح مسار حياته، وعدّل طريقة تفكيره. 

 

وسير العلماء والصالحين، وواقع الطلاب والمدرسين مليء بأخبار تأثير المعلمين الصالحين في المتعلمين؛ قال ابن عبد الرب عن المحدث الكبير عبد الله بن وهب: "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ صَاحِبُ مَالِكٍ: " وَكَانَ أَوَّلُ أَمْرِي فِي الْعِبَادَةِ قَبْلَ طَلَبِ الْعِلْمِ، فَوَلَعَ بِيَ الشَّيْطَانُ فِي ذِكْرِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ كَيْفَ خَلَقَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-؟ وَنَحْوِ هَذَا، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى شَيْخٍ، فَقَالَ لِي: ابْنَ وَهْبٍ: قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: اطْلُبِ الْعِلْمَ. فَكَانَ سَبَبَ طَلَبِي لِلْعِلْمِ".

 

ويقول أحد علماء القرن العاشر الهجري عن أحد مشايخه: "وبالجملة فهو شيخي وأستاذي ما انتفعت بأحد انتفاعي به وبكتبه".

 

ومن مفاتيح الخير: الدال على الخير، والدلالة على الخير عمل جليل في الإسلام، وله أثر حسن بين الأنام، قال رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ".

 

والدال على الخير هو: كل ناصح أمين صادق يدلك على خير لك في دينك، أو دنياك، سألتَه أنت عنه أو ابتدأك بالتوجيه إليه، فقال لك: افعل كذا، أو لا تفعل كذا؛ فهناك خيرات دينية أو دنيوية ينالها الإنسان سببها: إنسان ذو فضل دله عليها، ووجهه إليها؛ كأن دله على طريق التوبة ولزوم الاستقامة، أو على طلب العلم النافع، أو على صدقة أو جهة تستحق الصدقة، أو دله على سبل حل مشكلة من مشكلاته، أو دله على وظيفة ومصدر رزق يكف به نفسه عن الحاجة والناس، أو غير ذلك.

 

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: " كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا؛ فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ؛ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَة".

 

وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قَالَ: "عَادَنِي رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بَلَغَنِي مَا تَرَى مِنَ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: «لَا»، قَالَ: قُلْتُ: أَفَأَتَصَدَّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ: لَا، الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ، إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى اللُّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ".

 

ومن مفاتيح الخير يا عباد الله: المصلح بين الناس بالعدل والتقوى، فالإصلاح بين المتخاصمين والمختلفين عبادة من أجلِّ العبادات؛ فقد قال الله -تعالى-: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء:114].

 

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ، وَالصَلَاةِ، وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ".

 

إن الإصلاح بين الناس قد يطفئ نار فتنة مشتعلة تقضي على الأخضر واليابس، وقد يحول بين قتلٍ للنفوس البريئة، وأخذٍ للأموال المعصومة، وقد يجمع شتات عشائر وقبائل وأُسر متفرقة متناحرة، وقد يعيد للحياة الزوجية رونقها وسعادتها وأُلفتها بعد الخصام والخلاف والتمزق.

 

وإن مما ادخره لنا الأدب العربي أن هرم بن سنان والحارث بن عوف قاما بالإصلاح في الجاهلية بين قبيلتي عبس وذُبيان بعد أن دامت الحرب بينهما طويلاً، فتحملا ديات القتلى بين القبيلتين التي بلغت ثلاثة آلاف بعير؛ فانبرى الشاعر الجاهلي المشهور زهير بن أبي سلمى إلى مدحهما بقصائد خالدة على هذا العمل الجليل الذي أطفأ نار الحرب بين القبيلتين، ومن ذلك قوله فيهما:

سَعَى سَاعِيَا غَيْظِ بْنِ مُرّةَ بَعْدَمَا *** تَبَزَّلَ ما بَيْنَ العَشِيرةِ بِالدَّمِ

فَأَقْسَمْتُ بِالبيْتِ الذي طَافَ حَوْلَهُ *** رِجَالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُرَيْشٍ وجُرْهُمِ

يَميناً لَنِعْمَ السَّيدَانِ وُجِدْتُمَا *** عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ سَحيْلٍ وَمُبْرَمِ

تَدَارَكْتُما عَبْساً وذُبْيَانَ بَعْدَما *** تَفَانَوْا وَدَقّوا بَيْنَهم عِطرَ مَنْشَمِ

وَقَد قُلتُما إنْ نُدرِكِ السّلمَ واسِعاً *** بِمَالٍ وَمَعْرُوْفٍ مِنَ الأمرِ نَسْلَمِ

فَأَصْبَحْتُمَا مِنْها على خَيرِ مَوْطِنٍ *** بَعيدَيْنِ فيها مِنْ عُقُوقٍ وَمَأثَمِ

عَظِيْمَينْ في عُليا مَعَدٍّ هُدِيْتُمَا *** وَمَنْ يَسْتَبحْ كَنزاً مِنَ المَجْدِ يَعْظُمِ.

 

   نسأل الله أن يجعلنا مفاتيح خير وهدى، أدلّاء إلى كل بِر وتُقى.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد: أيها المسلمون، إذا كان في الخلق مفاتيح خير، فهناك فيهم -أيضًا- مفاتيح شر، يفتحون للناس أبواب الشر بقصد منهم أو بغير قصد؛ فكم من ناس أصبحوا ينادون في الخلق بالشر بأقوالهم أو أفعالهم أو مواقفهم وأحوالهم، فصاروا نوّاب إبليس في مهمته، والقائمين في العباد بوظيفته، يدعون إلى النار وفساد الدين، ويجلبون على الناس شقاء الحياة ومصائبها، فغدوا أئمة ضلال، وأدلّة انحراف عن سعادة الدنيا والآخرة.

 

ألا وإن من مفاتيح الشر: دعاة الضلالة الذين يضلون الناس عن دين رب العالمين، وهدي سيد المرسلين، وينشرون فيهم شبهات الزيغ والباطل؛ تشكيكًا بدين الله، ودعوة إلى الخروج عن شريعته، ومدحًا للكفر وملته وأهله، وتزهيدًا عن البقاء في طاعة الله واقتفاء أثر رسوله؛ إفساداً للعقيدة الصحيحة للمسلمين، وإخراجًا لهم عن آداب الدين، لاسيما في زمان الفضاء المفتوح عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة، أولئك المضلِّون قادة إلى نار جهنم، وشقاء الحياة الدنيوية، قال الله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ)[القصص:41].

 

وأولئك المضلِّون يحملون آثام من أضلوهم إلى يوم القيامة؛ فصحيفة سيئاتهم تظل تسجل فيها الخطايا ولو بعد موت المضلين ما بقي إضلالهم يتفشى في الناس؛ قال الله -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)[يس:12].

وقال رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ".

 

فليحذر المسلم من أن يكون مضلاً أو تابعًا لمضل، قبل الندامة يوم القيامة حين لا ينفع الندم؛ قال الله -تعالى-: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ)[الأعراف:38].

 

أيها الإخوة الكرام: ومن مفاتيح الشر: النَّمام، الذي يسعى في الناس بالفساد بينهم، فينقل كلامًا لهذا قيل من هذا؛ حتى يشعل بينهما نار الخلاف والشقاق.

 

والنميمة كبيرة من كبائر الذنوب شرعا، وعمل من أقبح الأعمال بين الناس أثرا؛ ولذلك جاء الوعيد في حق أهلها؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: "كُنَّا جُلُوسًا مَعَ حُذَيْفَةَ -رضي الله عنه- فِي الْمَسْجِدِ فَجَاءَ رَجُلٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْنَا، فَقِيلَ لِحُذَيْفَةَ: إِنَّ هَذَا يَنْقُلُ الْحَدِيثَ إِلَى الْأَمِيرِ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ -إِرَادَةَ أَنْ يُسْمِعَهُ-: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ".

 

إن النمام -معشر الكرام- يفرِّق بين الأحباب، ويعادي بين الأصحاب، ويباعد بين الأقارب، ويملأ القلوب بالأحقاد، والنفوس بالضغائن، ويجعل الحياة ضيقة كئيبة؛ فكان من الواجب مقابلة أخباره بالرفض والزجر، فإنه إن نم إلى شخص اليوم فغداً سينم عليه؛ فـ"قد جَاءَ أَن رجلاً ذكر لعمر بن عبد الْعَزِيز رجلاً بِشَيْء، فَقَالَ عمر: يَا هَذَا، إِن شِئْت نَظرنَا فِي أَمرك؛ فَإِن كنت صَادِقا فَأَنت من أهل هَذِه الْآيَة: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)[الحجرات:6]، وَإِن كنت كَاذِبًا فَأَنت من أهل هَذِه الْآيَة: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)[القلم:11]، وَإِن شِئْت عَفَوْنَا عَنْك. فَقَالَ الْعَفو يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا أَعُود إِلَيْهِ أبداً". قال الذهبي: " وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: من نقل إِلَيْك حَدِيثًا فَاعْلَم أَنه ينْقل إِلَى غَيْرك حَدِيثك. وَهَذَا مثل قَول النَّاس: من نقل إِلَيْك نقل عَنْك فاحذره".

 

معشر المسلمين، ومن مفاتيح الشر: جليس السوء، الذي يفسد جليسه بقاله وحاله، والجليس السيء يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، وهو عاصٍ لربه، عاق لوالديه، مؤذٍ لجيرانه وأقاربه، مفسد في الأرض، يعيش لشهواته المحظورة، ونزواته العدوانية، لا يرضى أن يكون وحيداً، بل يلتمس له رفقاء على طريق الضياع يستأنس بهم ليوردهم معه موارد الردى والعطب.

 

فكم نقيٍّ جالس جليس سوء فتنجس بنجسه، وساءت سمعته بسوء سمعة جليسه، وكم مستقيم على طاعة ربه وطاعة والديه جالس جليس شر فاعوج عن استقامته، وغرق في عصيانه، وتحسر بعد شقائه:

فأصبح كالبازي المنتّفِ ريشُه *** يرى حسراتٍ كلما طار طائرُ

وقد كان دهراً في الرياض منعّماً *** على كل ما يهوى من الصيد قادر

فلما هوى في رفقة السوء مدةً *** إذا هو مقصوص الجناحين حاسرُ

 

وخذوها عبرة: من جالس جليس سوء فتح أمامه أبواب المعاصي وأغراه بها، وربما قدم من ماله ليقذفه فيها، فمتى استجاب له واستمر معه خسر دنياه، وقد يخسر معها أخراه؛ قال الله تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا)[الفرقان:27-29].

 

ألا وإن من جلساء السوء في العصر الحديث-يا عباد الله-: الجوالَ إذا لم يستعمل الاستعمال الصحيح؛ فالجوال اليوم بخدماته الكثيرة صار مفتاح شر على كثير من الرجال والنساء، والصغار والكبير والبيوت والأُسر.

 

فكم فتح الجوال على بعض الناس من أبواب شر كانت عنهم مغلقة، وقادهم إلى منحدرات شر كانوا عنها لولا الجوال في عصمة، وشغلهم عن أبواب خير كانوا فيها في سلامة وراحة.

 

فكم من إنسان تشرّب أفكار الإلحاد، أو شبهات الضلال عن طريق الجوال!

وكم من إنسان سلك دروب الفواحش عن طريق الجوال!

وكم من شاب أو شابة انضموا إلى عصابات الإدمان على المخدرات واللصوصية والعدوان عن طريق الجوال!

وكم من زوج خرّب بيته وشتت أسرته بعلاقاته المحرمة عبر الجوال!

وكم زوجة انتهت حياتها الزوجية وفُرق بينها وبين أولادها بسبب الجوال!

وكم من صحيحٍ مرضَ مرضًا نفسيًا أو بدنيًا أو عقليًا بالإدمان على استعمال الجوال، خاصة الأطفال!

 

فالجوال -يا أيها الإنسان- مفتاح خير، أو مفتاح شر، فاختر لنفسك ما تشاء، وفكّر في العواقب قبل نزول النوائب التي يجر إليها جوال لم يحسن صاحبه استخدامه.

 

فيا أيها الناس: كونوا مفاتيح خير، مغاليق شر، دلوا على الخير واجعلوا أنفسكم من أهله، وإياكم أن تكونوا مفاتيح شر، مغاليق خير؛ "فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ".

 

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من مفاتيح الخير دهرنا.

 

هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير...

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life