عناصر الخطبة
1/التزود للدار الآخرة 2/داء الغفلة 3/أهمية الذكر وفضائله وثمراته 4/مفهوم الذكر وشموليته 5/آداب الذكر وفوائدهاهداف الخطبة
اقتباس
بذكر الله تنقشع سحُب الخوف من المستقبل، والحزن على ما مضى، والفزع من كل ما حضر! فلا عجب أن تجد الذاكرين لله في راحة وسكينة، ولكن العجب والغريب كيف يعيش الغافل عن ذكر الله؟ إن الغافلين عن ذكر الله جُثَتٌ وأموات غير أحياء: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل: 21] أجسادُهم قبور لقلوبهم، ف...
الخطبة الأولى:
إنِ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون والمسلمات: لكل مسافر زاد، وكلنا في سفرين: سفر مقيد بالزمان والمكان متعلق بدنيانا، وسفر إلى عالم الخلود حيث ينتهي إلى روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، طريقه طويل، والزاد قليل، وخير الزاد التقوى!.
فاتقوا الله -عباد الله- ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة، وتزودوا ليوم البعث والنشور ، وشمِّروا للطاعة، واحذروا الكسل والفتور.
لقد مضى من العمر ما مضى مع تتابع الأيام والشهور: (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ) [يــس: 40] والكل في فلك يدور.
والمنايا تُفْني الأنام بالآجال، فالحذر الحذر من القصور، إذ لا يدري أحدُنا: أمغادر هذه الدنيا عند الرواح أو البكور؟
فلا تغتروا وتغفلوا في دنيا ليست إلا قنطرة للعبور، وقدموا لأنفسكم ما ينفعكم يوم الزحام والندم والنشور.
وتأملوا قوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون: 115].
نحن إذن في سفر إلى ربنا الذي يقول: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا) [الإنشقاق: 6 - 15].
ولا يُعرقل مسيرة قلوبنا بسلامة إلى مرضاة الله إلا ما ترتكبه جوارحنا من الذنوب والمعاصي، مما يؤدي إلى غفلة يمرض بها القلب أو يموت، فلا ينفع دواء ولا علاج، وقد ذكرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتنبيهه: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت".
فهل أنت مستعد -أيها المسلم- للعناية بقلبك وصيانته ورعايته، حتى تعود به إلى خالقه سليما معافى: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88 - 89].
أيها المسلم: إن الصدق حبيب الله، فكن مع الصادقين، وإن الصراحة صابون العلاقات، وإن ذكر الله طمأنينة القلوب، وإن التجربة برهان الرجال، والرائد لا يكذب أهله، وليس في هذه الدنيا عمل أشرح للصدور أعظم من ذكر الله العزيز الغفور، قال تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152].
وقالوا: "من لم يدخل جنة الأرض لن يدخل جنة الآخرة، وجنة الأرض: ذكر الله".
فبذكر الله تطمئن القوب بعد اضطرابها، وبذكر الله تُعالجُ النفوس من أتعابها وأوصابها، بل هو الملاذُ للفوز والفلاح، ولم يأمرنا ربنا -سبحانه- بالإكثار من أي شيء إلا من ذكره، حيث يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذكروا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب: 41 - 42].
وقال عز من قائل: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 35].
وليس من ذاق كمن اشتاق، والمفلح الفائز من نجا، فمن الفائز يا ترى؟
يجيبنا الله -تعالى- فيقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى) [الأعلى: 14] تطهر ظاهرا وباطنا: (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى: 15].
فبذكر الله تنقشع سحُب الخوف من المستقبل، والحزن على ما مضى، والفزع من كل ما حضر!.
فلا عجب أن تجد الذاكرين لله في راحة وسكينة، ولكن العجب والغريب كيف يعيش الغافل عن ذكر الله؟
إن الغافلين عن ذكر الله جُثَتٌ وأموات غير أحياء: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل: 21].
أجسادُهم قبور لقلوبهم.
فالبدار البدار -يا عباد الله- لما يحييكم!.
فيا من يشكو من الأرق وأفجعته أحداث الحياة: اهتف "بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم".
ويا من أثقلته الديون، وانصرف عنه الأهل والمحبون: اذكرالله.
ويا من ضاقت به الدنيا، وأبكته الآلام والأمراض واكتئاب: اذكر الشافي المعافي.
اذكروا الله -أيها المسلمون- تنبسط خواطركم، وتطمئن بذكره قلوبكم، وتهدأ به نفوسكم، وترتاح به ضمائركم، ويسعد به من تلقونه ويلقاكم؛ لأنكم حينما تذكرون الله، فإنكم قد أعطيتم الدليل على ثقتكم به، وتوكلكم عليه، وحسن ظنكم به، وانتظار الفرج منه؛ لأنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويعطي من سأله بلا حدود.
فبادر بتجديد إيمانك -أيها المسلم- ب "لا إله إلا الله" وبادر بالثناء على الله ب "الحمد لله"، وبادر بتنزيه الله ب "سبحان الله"، وبادر بمدح الله ب "ما شاء الله" فتكون ممن آتاهم الله ثواب الدنيا، وحسن ثواب الآخرة، أخرج الإمام البخاري في صحيحه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله -عز وجل-: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً".
فاعلموا -عباد الله-: أن ذكر الله هو الحصن الحصين المانع من شر الشياطين، وشفاء ودواء ورياض للصالحين، وملاذ ولجأ المومنين والمتقين.
فاللهم لا تحرمنا من حلاوة ذكرك، ومداومة شكرك، وحسن عبادتك.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبما فيه من الذكر الحكيم، وبكلام سيد الأولين والآخرين، ويغفر الله لي ولكم لمن قال آمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد الذاكرين الله كثيرا والذاكرات، وصلى الله وسلم على الرحمة المهداة خير من ذكر وشكر وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن الذكر الذي يوصل صاحبه إلى السعادة والطمأنينة ليس المقصود به ذكر اللسان فحسب، بل إن التوبة لله ذكر، والتماس العلم ذكر، وطلب الرزق الحلال ذكر، وكل أمر حسُنت فيه النوايا وصلحت ذكر، ومن أعلى أنواع الذكر: التفكر في آيات الله، قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 190 - 191].
واعلموا -رحمكم الله-: أن للذكر آداب وفوائد نذكر منها:
* الخشوع والتأدب واستحضار معني الصيغ للتأثر بها.
* خفض الصوت ما أمكن كي لا يشوش على غيره.
* النظافة في الثوب والبدن والمكان ومراعاة الأوقات.
* الانصراف بأدب وخشوع، واجتناب اللغط واللهو الذي يذهب بفائدة الذكر.
فإذا راعينا ذلك اطمأنت قلوبنا، وتغيبت الشياطين عن مجالسنا، وسادت المحبة والألفة بيننا، واقتدت بنا الأجيال بعد رحيلنا.
* نأخذ بعضا منها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي يقول:
1- "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة ؟ قال: حلق الذكر".
2- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله -تعالى- ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله -عز وجل- تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم: ما يقول عبادي؟ قال: يقولون يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك، فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك، فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: يقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدا، وأكثر لك تسبيحا، فيقول: فماذا يسألون؟ قال: يقولون يسألونك الجنة، قال: يقول وهل رأوها؟ قال: يقولون لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا، وأعظم فيها رغبة، قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون يتعوذون من النار، قال: فيقول وهل رأوها؟ قال يقولون: لا والله ما رأوها، فيقول: كيف لو رأوها؟ قال: يقولون لو رأوها كانوا أشد منها فرارا، وأشد لها مخافة، قال: فيقول فأشهدكم أني قد غفرت لهم، قال يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم" [متفق عليه].
وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لله ملائكة سيارة فضلاء يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم، حتى يملأوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، فيسألهم الله -عز وجل- وهو أعلم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك، قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك، قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا أي رب، قال: فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك، قال: ومم يستجيروني؟ قالوا: من نارك يا رب، قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري؟ قالوا: ويستغفرونك، فيقول: قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا، قال: فيقولون رب فيهم فلان عبد خطَّاء إنما مر فجلس معهم، فيقول: وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم".
فاللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
الدعاء ...
التعليقات