معالم في التربية النبوية (3) الرفق

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/قيمة الرفق وضرورته في التربية 2/نماذج من رفقه -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه وأثر ذلك 3/بركات التربية بالرفق.

اقتباس

مَا مَنَّا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يَتَذَكَّرُ مَنْ قَسَا عَلَيْهِ وَنَهَرَهُ وَمَنْ رَحِمَهُ وَاحْتَضَنَهُ فِي طُفُولَتِهِ، مَنْ زَجَرَهُ وَأَهَانَهُ وَمَنْ حَنَا عَلَيْهِ وَرَفَقَ بِهِ... فَهُوَ يُبْغِضُ الْأَوَّلَ وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَيُحِبُّ الثَّانِيَ وَلَوْ لَمْ تَرْبُطْهُ بِهِ صِلَةٌ؛ فَلِلرِّفْقِ وَالرَّحْمَةِ بِالصِّغَارِ أَعْظَمُ التَّأْثِيرِ وَأَبْلَغُهُ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِرِفْقِنَا وَرَحْمَتِنَا -بَعْدَ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا- هُمْ أَوْلَادُنَا فَلَذَاتُ أَكْبَادِنَا، وَمُهَجُ قُلُوبِنَا؛ فَهُمْ فِي أَمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ تَعْلِيمِهِمْ وَتَرْبِيَتِهِمْ؛ وَذَلِكَ لِرِقَّةِ قُلُوبِهِمْ وَضَعْفِ تَكْوِينَهُمْ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْقَاعِدَةِ النَّبَوِيَّةِ: "إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، ذَلِكَ لِأَنَّ الرِّفْقَ مَعْلَمٌ مِنْ مَعَالِمِ التَّرْبِيَةِ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الرِّفْقَ فِي التَّرْبِيَةِ ضَرُورَةٌ مُلِحَّةٌ، وَمَطْلَبٌ حَتْمِيٌّ، فَإِنَّ مَنِ افْتَقَدَ الرِّفْقَ فِي تَرْبِيَتِهِ لِأَوْلَادِهِ فَلَنْ يَصِلَ بِهِمْ إِلَى مَا يُرِيدُ؛ وَصَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ: "مَا رُزِقَ أَهْلُ بَيْتٍ الرِّفْقَ إِلَّا نَفْعَهُمْ، وَلَا صُرِفَ عَنْهُمْ إِلَّا ضَرَّهُمْ"(رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ).

 

وَإِذَا فَقَدَ الْوَالِدَانِ الرِّفْقَ مَعَ أَوْلَادِهِمَا فَإِنَّ هَذَا مُنْذِرٌ خَطِيرٌ بِانْفِصَالِ الْوَلَدِ عَنْهُمَا وِجْدَانِيًّا، إِنْ لَمْ يَهْجُرْهُمَا جَسَدِيًّا؛ وَفِي ذَلِكَ يُخْبِرُ اللَّهُ عَنْ نَبِيِّهِ بِقَوْلِهِ: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آلِ عِمْرَانَ: 159].

 

وَدَعُونَا -مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ- نَقُولُهَا بِوُضُوحٍ: إِنَّ كُلَّ تَرْبِيَةٍ اكْتَسَتِ الرِّفْقَ فَقَدْ حَوَتِ الْخَيْرَ وَجَمَعَتِ الْبِرَّ لِلْمُرَبِّي وَلِلْمُتَرَبِّي، فَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا، أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ)... وَإِنَّ كُلَّ تَرْبِيَةٍ خَلَتْ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ خَلَتْ مِنَ الْخَيْرِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَلَقَدْ تَبَرَّأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّنْ لَمْ يَرْحَمِ الصَّغِيرَ وَيَرْفُقْ بِهِ قَائِلًا: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)، وَالرِّفْقُ بِالصِّغَارِ وَرَحْمَتُهُمْ فِطْرَةٌ مَرْكُوزَةٌ فِي النُّفُوسِ، فَمَنْ ذَا الَّذِي لَا يَهَشُّ وَيَبَشُّ لِطِفْلٍ إِذَا رَآهُ! فَمَنْ قَسَا عَلَى صَغِيرٍ فَهُوَ مَمْسُوخُ الْفِطْرَةِ، مَنْزُوعُ الرَّحْمَةِ.

وَإِنَّمَا أَوْلَادُنَا بَيْنَنَا *** أَكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ

لَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ عَلَى بَعْضِهِمْ *** لَامْتَنَعَتْ عَيْنِي مِنَ الْغَمْضِ

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: مَا مَنَّا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يَتَذَكَّرُ مَنْ قَسَا عَلَيْهِ وَنَهَرَهُ وَمَنْ رَحِمَهُ وَاحْتَضَنَهُ فِي طُفُولَتِهِ، مَنْ زَجَرَهُ وَأَهَانَهُ وَمَنْ حَنَا عَلَيْهِ وَرَفَقَ بِهِ... فَهُوَ يُبْغِضُ الْأَوَّلَ وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَيُحِبُّ الثَّانِيَ وَلَوْ لَمْ تَرْبُطْهُ بِهِ صِلَةٌ؛ فَلِلرِّفْقِ وَالرَّحْمَةِ بِالصِّغَارِ أَعْظَمُ التَّأْثِيرِ وَأَبْلَغُهُ.

 

فَهَذِهِ طِفْلَةٌ صَغِيرَةٌ يَذْكُرُهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِكُسْوَةٍ، وَلَا يُرْسِلُهَا إِلَيْهَا؛ بَلْ يَطْلُبُهَا فَيُلْبِسُهَا إِيَّاهَا بِيَدَيْهِ الشَّرِيفَتَيْنِ، ثُمَّ يُلَاطِفُهَا وَيُدَاعِبُهَا، وَيَتْرُكُهَا تَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ فِي ظَهْرِهِ كَيْفَ شَاءَتْ، وَلَقَدْ أَثَّرَ ذَلِكَ فِي وِجْدَانِهَا أَيَّمَا تَأْثِيرٍ حَتَّى إِنَّهَا لَمْ تَزَلْ تَذْكُرُهُ وَتَقُصُّهُ عَلَى أَحْبَابِهَا، إِنَّهَا أُمُّ خَالِدٍ بِنْتُ خَالِدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، فَاسْتَمِعْ إِلَيْهَا وَهِيَ تَقُولُ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ، قَالَ: "مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُوهَا هَذِهِ الْخَمِيصَةَ؟"، فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ، قَالَ: "ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ"، فَأُتِيَ بِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَلْبَسَنِيهَا بِيَدِهِ، وَقَالَ: "أَبْلِي وَأَخْلِقِي" مَرَّتَيْنِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَيَّ وَيَقُولُ: "يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَا، وَيَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَا" وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشِيَّةِ: الْحَسَنُ.(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَزَبَرَنِي أَبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دَعْهَا".

 

وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الرِّفْقُ النَّبَوِيُّ مَعَ بَعْضِ الْأَطْفَالِ دُونَ بَعْضٍ، بَلْ كَانَ دَيْدَنَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ كُلِّ صَغِيرٍ، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: "صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَاةَ الْأُولَى، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَهْلِهِ وَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ وَلَدَانِ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ خَدَّيْ أَحَدِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، قَالَ: وَأَمَّا أَنَا فَمَسَحَ خَدِّي، قَالَ: فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا أَوْ رِيحًا كَأَنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ جُؤْنَةِ عَطَّارٍ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ) جُؤْنَةُ عَطَّارٍ: "الْجُؤْنَةُ، بِضَمِّ الْجِيمِ، كَالسَّقْطِ، يَجْعَلُ فِيهِ الْعَطَّارُ مَتَاعَهُ.(إِكْمَالُ الْمُعْلِمِ بِفَوَائِدِ مُسْلِمٍ (7/295)).

 

وَيُحَدِّثُكَ عَنْ تَأْثِيرِ الرِّفْقِ فِي النَّفْسِ مُعَاوِيَةُ بْنُ الْحَكَمِ فَيَقُولُ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي...(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، فَانْظُرْ إِلَى رِفْقِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَيْفَ كَانَ أَثَرُهُ الْبَالِغُ عَلَى مَشَاعِرِ مُعَاوِيَةَ وَكَلِمَاتِهِ.

 

وَفِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامَ إِلَيْهِ الصَّحَابَةُ لِيَقَعُوا فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ" فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ.(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَانْظُرْ إِلَى مَا قَالَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدَمَا رَأَى مِنْ رِفْقِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهِ، لَقَدْ فَدَاهُ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ قَائِلًا: "فَقَامَ إِلَيَّ -بِأَبِي وَأُمِّي- فَلَمْ يُؤَنِّبْ، وَلَمْ يَسُبَّ، فَقَالَ: "إِنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ لَا يُبَالُ فِيهِ..."(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ).

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنْ أَرْفَقَ الْمُرَبِّينَ وَأَرْحَمَهُمْ أَجْمَعِينَ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَقَدْ كَانَتْ تَرْبِيَتُهُ لِأُمَّتِهِ تَقْطُرُ رِفْقًا وَشَفَقَةً وَحُنُوًّا، فَهَا هُوَ يَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِهِ لَمَّا سَمِعَ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ، فَتَصَوَّرْ -أَخِي الْمُسْلِمَ- كَيْفَ يَكُونُ شُعُورُ ذَلِكَ الصَّبِيِّ حِينَ يَشِبُّ فَيُخْبِرُونَهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَفَّفَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ كُلَّهَا مِنْ أَجْلِ بُكَائِهِ هُوَ -رَضِيعًا كَانَ سَاعَتَهَا أَمْ فَطِيمًا- فَتَرَى كَيْفَ يَكُونُ تَأْثِيرُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَوِجْدَانِهِ.

 

وَهَذَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ يَقُولُ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا، فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا، قَالَ: "ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ..."(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، فَلَمْ يَكْتَفِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَعْلِيمِهِمْ أُمُورَ دِينِهِمْ مُجَرَّدَةً؛ بَلْ كَسَاهَا بِالرَّحْمَةِ وَالرِّفْقِ كَيْ تُؤْتِيَ ثَمَرَتَهَا.

 

وَيَرْوِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَيَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْخُلُ عَلَيْنَا، وَلِي أَخٌ صَغِيرٌ يُكَنَّى أَبَا عُمَيْرٍ، وَكَانَ لَهُ نَغْرٌ يَلْعَبُ بِهِ، فَمَاتَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ فَرَآهُ حَزِينًا، فَقَالَ: "مَا شَأْنُهُ؟!" قَالُوا: مَاتَ نَغْرُهُ، فَقَالَ: "يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)، فَرَغْمَ عَظِيمِ أَعْبَائِهِ وَكَثِيرِ مَشَاغِلِهِ يَجْلِسُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِجَانِبِ طِفْلٍ يُوَاسِيهِ فِي مُصَابِهِ بِلُعْبَتِهِ!

 

وَلَا أَدَلَّ عَلَى رِفْقِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ شَهَادَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حَيْثُ قَالَ: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ، وَلَا: لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلَا: أَلَا صَنَعْتَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنْ لِلرِّفْقِ فِي التَّرْبِيَةِ بَرَكَاتٍ تَعُودُ عَلَى الْمُرَبِّي وَالْمُتَرَبِّي، فَأَعْظَمُهَا: دُخُولُ الْجَنَّةِ: فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ" وَذَكَرَ مِنْهُمْ: "وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَمِنْهَا: الْأَجْرُ الْعَظِيمُ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ: فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: "إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ"، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ".

 

وَمِنْهَا: أَنَّ الرِّفْقَ عَلَامَةُ حُبِّ اللَّهِ: يَقُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "... وَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أَعْطَاهُ الرِّفْقَ"(رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ).

 

وَمِنْهَا: اسْتِقَامَةُ نَفْسِ الْمُتَرَبِّي وَقُوَّةُ شَخْصِيَّتِهِ، فَمَنْ تَرَبَّى عَلَى الرِّفْقِ شَبَّ سَوِيَّ النَّفْسِ مُتَّزِنَ الشَّخْصِيَّةِ، بَرِيئًا مِنَ الْخَلَلِ وَالِاضْطِرَابِ الَّذِي تُسَبِّبُهُ الْقَسْوَةُ وَالْفَظَاظَةُ وَالْعُنْفُ.

 

وَمِنْهَا: الشُّعُورُ بِالِانْتِمَاءِ لِلْوَالِدَيْنِ وَلِلْمُرَبِّي وَلِلْمُجْتَمَعِ: فَإِنَّ الرِّفْقَ يَزْرَعُ التَّفَاهُمَ وَالْوِئَامَ، وَإِنَّ التَّفَاهُمَ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الْحُبِّ وَالْمَوَدَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْخَيْرِ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا، أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).

 

فَاللَّهُمَّ ازْرَعِ الرِّفْقَ وَالرَّحْمَةَ وَالْحُبَّ بَيْنَنَا.

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات
fzA05Zcb2NwH1ZVFNwCl5e2gMoTUxoydrWOzfafO.pdf
365ZbaDPTXTFXlqIe2QAt3cpghrBrO9evt0SiHUH.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life