عناصر الخطبة
1/ نعمة التقنيات 2/حكم الإسلام في التقنيات 3/استعمال الكثيرين لها في الشر 4/مخاطر التقنية 5/لنغنم خيرها ونحذر شرها.اقتباس
هذه التقنيات فيها الخير والشر، والصلاح والفساد، فهي سلاح ذو حدين، من استخدمها في الخير فقد فاز وربح، ومن استخدمها للشر فقد ضل وخسر, لكن الذي يجب أن نتنبه له أن المصيبة التي نعايشها اليوم: هو إن الاستعمال السيء لهذه التقنيات أصبح هو الغالب والظاهر، واستخدامها في الشر والحرام أصبح هو السائد لدى كثير من أبناء الأمة وشبابها وفتياتها...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد:
عباد الله: إن هذا العصر الذي نعيش فيه، فيه نعم كثيرة منّ الله بها علينا لم يمن بها على من قبلنا، وفيه وسائل عديدة ظهرت في هذا العصر الحديث لم تكن معروفة في العصور السابقة. ومن هذه النعم التي نتقلب فيها: نعمة التقنيات الحديثة وما تحمله من تسهيلات كبيرة، وخدمات جليلة، لو تمعن الإنسان فيها لعرف حقاً قول الله -سبحانه وتعالى: (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : 5]، وقوله: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية : 13].
أقمار صناعية، وشبكات دولية، وتلفاز فيه كل قنوات العالم وثقافاته، وشبكة عنكبوتية عالمية تحتوي على كل شيء، وجوالات حديثة ومتطورة تحمل تقنيات عالية وبرامج مثيرة، وغيرها من أنواع التقنية.
هذه التقنيات الحديثة التي انتشرت وراجت في العالم كله، وأصبح الكل يستخدمها سواء في الدول الفقيرة أو الدول الغنية، وسواء من المسلمين أو الكفار، بل أصبح لا مناص اليوم من استخدامها والتعامل معها؛ لأنها صارت ضرورة من ضروريات العصر.
بل نستطيع القول: إن التقنية الحديثة فرضت نفسها بقوة في كل مجالات الحياة المعاصرة، وعلى كافة المستويات، سواء المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، وذلك للتطور الهائل الذي وصل إليه الإبداع التقني في المرحلة الراهنة.
قد يقول قائل: ما حكم الإسلام في هذه التقنيات الحديثة؟ وما موقف الإسلام منها؟ إننا جميعاً نعلم أن هذه التقنيات فيها الخير والشر، والصلاح والفساد، فهي سلاح ذو حدين، من استخدمها في الخير فقد فاز وربح، ومن استخدمها للشر فقد ضل وخسر, لكن الذي يجب أن نتنبه له أن المصيبة التي نعايشها اليوم: هو إن الاستعمال السيء لهذه التقنيات أصبح هو الغالب والظاهر، واستخدامها في الشر والحرام أصبح هو السائد لدى كثير من أبناء الأمة وشبابها وفتياتها.
عباد الله: لقد أساء كثير منا استخدام هذه التقنيات الحديثة، واستخدموها فيما لا يحل لهم أن يستخدموها فيه، فصار لزاماً علينا في هذه الخطبة أن نبين للناس مفاسد هذه التقنيات ومخاطرها، لا ليتركوها وإنما ليحسنوا استخدامها، ويتنبهوا لمخاطرها وأضرارها.
أيها الناس: إن خطر هذه التقنيات الحديثة يكمن في كونها منفتحة لا حدود لها، ولا قيود عليها، ولا يستطيع أحد في أكثر الأحيان أن يتحكم فيها أو يتصرف في تغيير مسارها، وفي بعض الأحيان يأتيك شرها وإن لم تطلبه، وتصل إليك سمومها وإن لم تبحث عنها، أو تصل إليك بصور خبيثة ملتوية لا تتوقعها، ولا تظن أن الشر في وسطها -والله المستعان-.
فهي تقذف، وما على الجميع إلا أن يستقبل وتنشر، وما على المتلقي إلا أن يستلم، ثم هو باختياره ليأخذ ما شاء ويستلم ما يريد، فمن أراد الخير وجده، ومن أراد الشر وجده وزيادة، وصدق الله -سبحانه وتعالى- إذ يقول: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء : 35]. فهي خير وشر، وعمار ودمار، وهي في النهاية بلاء واختبار للناس؛ ليعلم الله من يتجه إلى الخير ويأخذ به، ومن يتجه نحو الشر ويأخذ به، والسعيد من حكّم عقله، واقتصر على الخير، وابتعد عن الشر.
إن هذا الانفتاح الهائل الموجود في هذه التقنيات سهّل للشر أن ينتشر بكل يسر وسهولة، فانهدمت الأخلاق، وراج الفساد وانتشر، وصارت مظاهر التفسخ والعري مظاهر عادية يشاهدها المرء كل يوم، إن لم يكن في الواقع الحسي فإنه يشاهدها في العالم الافتراضي عبر هذه التقنيات.
إن المستخدم لهذه التقنيات المتطورة إن لم يضبط نفسه بالضوابط الشرعية ويجعل لنفسه حدوداً في التعامل معها فإنه سيغرق في بحار من التيه والضياع، ويضل ضلالاً بعيداً، وربما -والعياذ بالله- يصاب بالارتكاس والانتكاسة والانحراف عن دين الله والردة عنه -أعاذنا الله وإياكم من ذلك-. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، يَبِيعُ قَوْمٌ دِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلٍ، الْمُتَمَسِّكُ يَوْمَئِذٍ بِدِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ أَوْ قَالَ: عَلَى الشَّوْكِ" [أحمد (9073) ].
ومن مخاطر هذه التقنيات الحديثة: أنها شغلت كثيراً من شبابنا ونسائنا عن التزام طريق الجادة، وحولت بعضهم إلى مدمنين لا يعرف عملاً إلا الانشغال بهذه الوسائل، ولا يزور أحداً إلا من يلتقي بهم ويلتقون به من خلف الشاشات.
وهذا الإفراط في استخدام هذه التقنيات جعل كثيراً منهم يضيّع الصلوات، وينام عن العبادات، ويتكاسل عن أداء الواجبات، ويقصر في متابعة دراسته ومراجعة دروسه، لأن هذه الوسائل استغرقت جل وقته، يقضي معها ليله ونهاره، حتى تجد بعضهم يستخدمها وهو يسوق السيارة أو يمشي في الشارع، وينسى أنه محاسب عن عمره فيما أفناه وكيف قضاه؟!. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَنْ يَزُولَ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ" [المعجم الأوسط (4710)].
ومن مخاطرها: أنها ساهمت في نشر كثير من السلوكيات المنحرفة والأخلاقيات الساقطة بين مستخدميها، وكلنا يعلم أن الإسلام يدعو إلى محاسن الأخلاق والفضائل ويحارب الرذائل والمساوئ.
ومن هذه المساوئ المنتشرة في هذا البحر المتلاطم -بحر التقنية-: التشهير، والفضيحة، والمضايقة، والتحايل، والابتزاز، والتزوير، والتجنِّي على الغير بسبب اللون، أو العِرق، أو الجنس، والمَساس بسُمعة الآخَرين، وحب الانتقام منهم، والتشفِّي مِن بعض الأخيار والأبرياء والتشكيك في نزاهتهم، وغيرها من الأخلاقيات السافلة التي تنتشر في فضاء التقنيات الحديثة، وقنوات ومواقع التواصُل. روى الترمذي عَنْ عبد الله ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- المِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ" [الترمذي (2032)].
يقول الله -تبارك وتعالى- محذراً من أذية المسلمين والمسلمات: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب : 58]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا) [الأحزاب : 69].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
ومن مخاطر التقنيات الحديثة: مساهمتها في نشر بعض الأفكار الضالة والمعتقدات المنحرفة والترويج للأفكار الهدامة، خاصة وأكثر المستخدمين لهذه التقنيات هم من فئة الشباب الذين يسهل إغراؤهم وإغواؤهم بدعوات لا تحمل من الإصلاح شيئاً بل هي للهدم والتدمير أقرب، وقد يكون وراء ذلك منظمات وتجمعات، بل ودول لها أهداف تخريبية مقصودة.
وقد رأينا وسمعنا من شباب المسلمين ونسائهم من تنصر، ومن أصبح ملحداً، ومن ارتد عن دين الإسلام، ومن تأثر ببعض الأفكار العلمانية والتغريبية التخريبية التي يمليها عليهم أصدقاء السوء من خلال هذه الوسائل الحديثة.
ومن المخاطر التي ظهرت بشكل ملفت في هذا الزمن لهذه التقنيات: أن تأثيرها لم يعد مقتصراً على الجانب الإلكتروني الوهمي، وإنما بدأ يترجم على أرض الواقع وبشكل مباشر. فالعلاقات التي تعقد بين الشباب والفتيات هناك تتحول بعد وقت قصير أو طويل إلى واقع عملي وعلاقة مباشرة، والتحميلات التي تتم في النهاية يتم الاتفاق على تحميلها من جانب واحد ثم تتداول بالاستلام يداً بيد، وهكذا ينتقل الشر من السر إلى العلن، ومن الخيال إلى الحقيقة، ومن داخل الشاشات والأجهزة إلى الواقع والحقيقة، خاصة مع غفلة كثير من أولياء الأمور بهذه التقنيات وجهلهم بخطرها.
أيها الناس: إن العالم يشهد العالم اليوم تغيرات سريعة، وتطورات ضخمة في عالم الاتصالات ودنيا التقنيات، ويعيش انفجاراً معرفياً هائلاً، وثورة نوعية كبرى في مجال التقنية حتى أضحى العالم فعلاً كالقرية الواحدة بل كالغرفة الصغيرة. واذا كان كل نبي من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- قد طلب منه أن يخاطب قومه بلسان قومه، فإن المسلمين اليوم مطالبون بأن يخاطبوا الناس بلسانهم ولغة عصرهم، ولسان القوم، ولغة العصر اليوم هي: المعلوماتية والتقنيات الحديثة.
فيجب علينا أن نستغلها ونستفيد منها دون أن نضر أنفسنا بها أو نضر غيرنا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" [ ابن ماجة (2341)]، وفي نفس الوقت نحذر من شرها ونحذر أولادنا ونساءنا من مضارها ،حتى نغنم خيرها ونذوق حلوها ونبتعد عن شرها ومرها.
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فبدأ بنفسه وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه وثلث بكم -أيها المؤمنون- من جنه وإنسه فقال -عز من قائل كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم اجعلنا ممن اغتنم وسائل التقنية في الخير ونشره، وجنبنا شرورها وأضرارها يارب العالمين.
التعليقات