عناصر الخطبة
1/من أسباب حبوط الأعمال.اقتباس
والمن بالعطية له صور عديدة يتداولها بعض الناس في أحاديثهم وأفعالهم دون أن يشعروا فيبطل معروفهم؛ فهناك صنف من الناس يحسن إلى غيره إذا علم أن المقابل سيمدحه ويثني عليه، ولكن إذا لم يجد ذلك التكريم والثناء، أو حَدَثَ بينه وبين ذلك الرجل...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
إن أكثر ما يخافه التجار ورجال الأعمال هو خسارتهم وذهاب رؤوس أموالهم في أي صفقة غير مربحة، فما شعور ذلك التاجر وما قدر حسرته إذا قيل له أن جميع أموالك التي جمعتها طوال حياتك قد ذهبت أدراج الرياح؛ لأنك وضعتها في شركات وهمية؟ هذا ما سيواجهه بعض المسلمين يوم القيامة عندما تتلاشى ليست أموالهم وإنما حسناتهم كلها أو بعضها بسبب ارتكابهم لبعض الذنوب التي تحبط الحسنات.
لقد تحدثت معكم في خطب ماضية عن جزاء الذنوب يوم القيامة وأنها على أنواع؛ فمنها ما يكتب لك بها سيئة واحدة ومنها ما تحبط لك حسنات عديدة ومنها ما يحبط كل الحسنات، وهذه الذنوب هي التي تعرف بمحبطات الأعمال، وقد ذكرت منها حوالي سبعة ذنوب محبطة، فمحبطات الأعمال هي أشد ما ينبغي على المسلم الحذر منه؛ لأنها تنقص عليه حسنات كثيرة، بل وقد تذهبها كلها.
أيها الأخوة في الله: ومن محبطات الأعمال والحسنات التي سنتحدث عنها في هذه الخطبة: المن في العطية، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)[البقرة: 264]، ومعنى بطلانها أي: ذهاب أجره كله بالمن والأذى، وشبهه الله -عز وجل- بحجر أملس عليه تراب؛ فأصابه مطر شديد فزاح عنه التراب ورجع الحجر أملسا لا يوجد عليه شيء من التراب؛ فهكذا المنان في عطائه لن يجد له ثوابا في الآخرة كما لا يوجد على الصفوان شيء من التراب الذي كان عليه لإذهاب المطر له.
والمن هو ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها، مثل أن يقول المرء لآخر: قد أحسنت إليك وأعطيتك وما قصرت معك، أو يتحدث مع الناس بما أعطى لفلان حتى يبلغ ذلك المُعطى فيؤذيه.
قال الهيثمي: المن هو أن يرى أن لنفسه مزية على المتصدق عليه بإحسانه إليه، ولذلك لا ينبغي أن يَطلب منه دعاء ولا يطمع فيه؛ لأنه ربما كان في مقابلة إحسانه فيسقط أجره اهـ، ومن ذلك ندرك سر حرص عائشة -رضي الله عنها- إذا تصدقت على فقير فدعا لها أنها كانت تدعو له حتى يبقى لها ثواب الصدقة؛ فقد كَانَتْ -رضي الله عنها-، "إذَا أَرْسَلَتْ إلَى قَوْمٍ بِهَدِيَّةِ تَقُولُ لِلرَّسُولِ: اسْمَعْ مَا دَعَوْا بِهِ لَنَا؛ حَتَّى نَدْعُوَ لَهُمْ بِمِثْلِ مَا دَعَوْا وَيَبْقَى أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ".
فالمنُّ خُلقٌ لئيم، وشعورٌ بالعلو، لا يقدم عليه إلا من بهم مرض الاستعلاء على الآخرين وحب إذلالهم أو لفت أنظار الناس إليهم، فالإسلام عندما أمر بالصدقة والإحسان إلى الناس وقضاء حوائجهم ما أراد مجرد سد الخلة وملء البطن، وإنما أراده تهذيبا وتطهيرا لنفس المعطي، وتوثيق صلته بأخيه الفقير في الله، وتعريفه بنعمة الله عليه وتزكية لنفسه من الكبر، والمنُّ يَذهبُ بهذا كله ويحوله إلى أذى، ويمزق أواصر هذه الأخوة في المجتمع ويثير العداوة والأحقاد؛ ولذلك قال -جل وعلا-: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ)[البقرة: 263].
والمن بالعطية له صور عديدة يتداولها بعض الناس في أحاديثهم وأفعالهم دون أن يشعروا فيبطل معروفهم؛ فهناك صنف من الناس يحسن إلى غيره إذا علم أن المقابل سيمدحه ويثني عليه، ولكن إذا لم يجد ذلك التكريم والثناء، أو حَدَثَ بينه وبين ذلك الرجل مشكلة، ذكّره بالمعروف الذي أسداه له، ومنَّ عليه بأفضاله إما سرا أو علانية أمام الملأ؛ سمع ابن سيرين رجلا يقول لآخر: "أحسنت إليك وفعلت وفعلت"، فقال له ابن سيرين: "أسكت فلا خير في المعروف إذا أحصي".
وبعض الناس قد يمنُ على أنسابه وأهل زوجته، فيحدث زوجته بأنه أعطى أهلها وما زال يفعل ذلك، وأنه ذو فضل عليهم، ولولاه ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه، وأنه هو الذي وظّفَ أولادهم، ونحو ذلك من كلمات تبطل ثواب كل ما عمله نحوهم.
والبعض قد يمن على زميل له فيقول: أنا قد توسطت لك أو خدمتك وأنت لم تفعل ذلك، أو يقول: إن فلان ما يستاهل، فالمعروف عليه ضائع، فقد دعوته في المناسبة الفلانية وهو لم يدعني في أي مناسبة، والبعض حينما يطلب منك مساعدة فلم تفعلها، ذكَّركَ بحسناته عليك، وأنه أقرضك من ماله في اليوم الفلاني، وقدم لك المساعدة الفلانية، فكأنه لم يفعل ذلك لوجه الله -عز وجل- وإنما ليجعل ذلك رصيدا له عليك يستوفيه وقت الحاجة؛ فكل هذه الأمثلة صور للمن في العطية يحبط ثوابها، فالمن كبيرة من كبائر الذنوب، فقد روى أبو ذر الغفاري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: الْمَنَّانُ الَّذِي لا يُعْطِي شَيْئًا إِلاَّ مَنَّهُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ"(رواه الإمام مسلم).
وبلغ من بعض الناس في منَّهم: أنهم يمنون على الله -عز وجل- بصالح أعمالهم وأنهم أفضل من غيرهم؛ فترى البعض إذا نُهي عن معصية أو ذُكِّرَ بواجب فرط فيه قال: ماذا تريدون مني أكثر من ذلك؟ فأنا مصلي ومزكي ولا آكل الحرام ولا أؤذي غيري ولم آكل مال يتيم، وأنا خير من فلان وعلان، وبدأ يعدد صالح أعماله عليك، كأنه يمنُّ بها على الله -عز وجل-، وقد حصل مثل هذا لبعض الأعراب في زمن النبي –صلى الله عليه وسلم-، "حينما جاء نفر من بني أسد بن خزيمة وقدموا المدينة في سنة جدبة، وأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة، فجعلوا يمنون عليه –صلى الله عليه وسلم- فأنزل -الله تعالى- عليه آخر سورة الحجرات، قالت الأعراب آمنا، والتي فيها قوله تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الحجرات: 17].
فالمنة مذمومة من الخَلقِ؛ لأن الله تعالى هو المنان -جل وعلا-، يمن على عباده بنعمه، فلا ينبغي أن نمن على الله -عز وجل-؛ لأنه هو المعطي والمنان جلا جلاله، بل نسأله بمنه وكرمه أن يعطينا؛ لأن من أسماءه الحسنى: المنان: أي كثير العطاء، فقد روى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِسًا، يَعْنِي وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا رَكَعَ وَسَجَدَ وَتَشَهَّدَ، دَعَا فَقَالَ فِي دُعَائِهِ": "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ، بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، إِنِّي أَسْأَلُكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- لأَصْحَابِهِ: "أتَدْرُونَ بِمَا دَعَا"؟ قَالُوا: "اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ"، قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى"(رواه الإمام أحمد).
ولقد أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دبر كل صلاة أن نعترف بأن الله -عز وجل- هو صاحب المنِّ والفضل علينا؛ فقد كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ -رضي الله عنه- يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ حِينَ يُسَلِّمُ: "لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَلا نَعْبُدُ إِلاَّ إِيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ"، وَقَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ".
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في أمر ديننا، وأن يعصمنا من الزلل، ويوفقنا لصالح القول والعمل، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ ذي المن والعطاء، يُحمد في السراء والضراء، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، الأول بلا ابتداء، والآخِر بلا انتهاء، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، إمام الحنفاء وسيد الأصفياء، صلى الله عليه وعلى آله الأوفياء وصحابته الأتقياء، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ ما دامت الأرض والسماء، وسلم تسليمًا كثيرًا أما بعد:
فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى ولا تمُنوا على أحد بإحسانكم وعطائكم لئلا تحبط حسناتكم؛ فالخلاصة التي ينبغي أن نخرج بها من هذه الخطبة: هو العلم بأن المنَّ بالصدقة والإحسان كبيرة من الكبائر يحبط الحسنات، ويستجلب غضب الله -عز وجل-، ويحرم العبد من نعمة النظر إلى الله -عز وجل- يوم القيامة، حيث روى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثةٌ لا ينظرُ اللَّهُ -عز وجل- إليهم يومَ القيامةِ؛ العاقُّ لوالِدَيهِ، والمرأةُ المترجِّلةُ، والدَّيُّوثُ، وثلاثةٌ لا يدخُلونَ الجنَّةَ: العاقُّ لوالِدَيهِ، والمدمِنُ على الخمرِ، والمنَّانُ بما أعطى"(رواه النسائي).
وروى أبو أمامة الباهلي -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثةٌ لا يقبلُ اللهُ -عز وجل- منهم صرفًا ولا عدلاً: عاقٌّ ، ومنَّانٌ، ومُكذِّبٌ بقدَرٍ"(رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة)، ومعنى أن الله -تعالى- لا يقبل منه صرفا ولا عدلا؛ لأن عمله قد حبط.
وينبغي للمسلم أن لا يمنَّ بعمله على الله فَيَسْتَكْثِرُهُ ويؤل به الأمر إلى الكسل عن الاستزادة من العمل الصالح، وقد نهى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك فقال: (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)[المدثر: 6]، وجاء في تفسير هذه الآية معنى آخر ذكره المفسرون، وهو: لا تعط عطاء تمن به على غيرك لتعطى أكثر منه.
أيها الأخوة الحضور: احفظوا هذه الأدلة جيدا فكلها من الكتاب والسنة، ولتكن نبراسا لنا: لئلا تحبط أعمالنا ونحن لا نشعر، فمحبطات الأعمال خطيرة قد لا ينتبه لها كثير من الناس ولا يحذرون منها.
أسأل الله -تعالى- أن يقينا شر هذه المحبطات وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا.
التعليقات