مجالس العيد

الشيخ هلال الهاجري

2023-05-07 - 1444/10/17
عناصر الخطبة
1/أهمية مجالس الأعياد وآثارها 2/مفاتيح امتلاك القلوب 3/الابتسامة وحسن الإنصات 4/معكرات صفو المجالس 5/فن التعامل مع الثقلاء.

اقتباس

وَعليكَ بِسِلاحِ الوِدِّ والمِغناطيسِ الذي لا يَخيبُ، وهِي الابتِسامةُ الصَّادقةُ مِن القَلبِ الحَبيبِ، فَلها تَأثيرٌ لا تُدرِكهُ الحوَاسُ والعقولُ، ولَها سِرٌّ عَجيبٌ في القَبولِ، هِي اللُّغةُ التي لا تَحتاجُ إلى تَرجمةٍ، والجَاذبيةُ إلى المَودَّةِ والمَرحمةِ....

الخُطْبَة الأُولَى:

 

الحَمدُ للهِ الذي خَلَقَ من الماءِ بَشرًا، فَجَعلَهُ نَسبًا وَصِهرًا، وَأَوجبَ صِلةَ الأنسابِ وأَعظَمَ في ذَلكَ أَجرًا، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ شَهادةً أُعدُّها ليومِ القِيامةِ ذِخرًا، وأَشهدُ أن محمدًا عَبدهُ ورَسولهُ أَعظمُ النَّاسِ قَدرًا، وأَرفعُهم ذِكرًا، صَلى اللهُ عَليهِ وعَلى آلِهِ وأَصحابِهِ الذين قَاموا بالحقِّ وكَانوا بِهِ أَحرى، وعلى التَّابعينَ لهم بإحسانٍ وسَلَمَ تَسليمًا كَثيراً.

 

أَما بَعدُ: بَعدَ شُهورٍ مِن صَخَبِ الحَياةِ والأشغالِ الكَثيرةِ، تَأتي الأعيادُ لِتَجمعَ أفرادَ العَائلةِ الكَبيرةِ، فَتَرى مَا تَقَرُّ بِهِ العَينُ من بِرِّ الوالدينِ وصِلةِ الأرحامِ، وتَرى المَجالسَ تَزدانُ بالأهلِ والأخوالِ والأعمامِ، فَالكِبارُ مَع الكِبارِ، والصِّغارُ مَعَ الصِّغارِ، والنِّساءُ مَع النِّساءِ، فِي أُنسٍ وصَفاءٍ.

 

وَهَذهِ المَجالسُ يَزدادُ جَمالُها، ويَفيضُ جَلالُها، عِندَما تَكونُ فُرصةً لِلمَحبَّةِ والوئامِ، بَعيداً عن التَّشاحنِ والخِصامِ، فَهَنيئاً لِذلكَ الرَّجلِ المَحبوبِ، الذي كَسبَ القُلوبَ، فَما اِنقَضَتْ مَجالسُ العيدِ، إلا وَقَد حَازَ الذِّكرَ الحَميدَ، وَجعلَ في أَذهانِ الأقاربِ والأحبابِ، ذِكرى لا يَنسونَها إلى العَامِ القَادمِ، فَكيفَ يَكونُ هذا؟

 

مِنْ أَولِ مَا يَملكُ بِهِ الإنسانُ القُلوبَ: السَّلامُ، وهو وَصَفةُ المَحبةِ الأكيدةُ لِدارِ السَّلامِ، يَقولُ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلمَ-: "لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ‌حَتَّى ‌تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ"، ولَستُ أقصِدُ هُنا السَّلامَ المُعتادَ الذي يَخرجُ مِن الشِّفاهِ، بَل أعني السَّلامَ الحَارَّ الذي يَلفِتُ الانتِباهَ، واسمعوا لأثرِه: قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ الزُّهريُّ: خَرَجَتْ لِأَبِي جَائِزَتُهُ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَكْتُبَ خَاصَّتَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، فَفَعَلْتُ، فَقَالَ لِي: "تَذَكَّرْ هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ أَغْفَلْنَاهُ؟"، قُلْتُ: لَا، قَالَ: "بَلَى، رَجُلٌ لَقِيَنِي فَسَلَّمَ عَلَيَّ سَلَامًا جَمِيلًا صِفَتُهُ كَذَا وَكَذَا، اكْتُبْ لَهُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ"، وَهَكذا أَثرُ السَّلامِ الخَالصِ. 

 

وَعليكَ بِسِلاحِ الوِدِّ والمِغناطيسِ الذي لا يَخيبُ، وهِي الابتِسامةُ الصَّادقةُ مِن القَلبِ الحَبيبِ، فَلها تَأثيرٌ لا تُدرِكهُ الحوَاسُ والعقولُ، ولَها سِرٌّ عَجيبٌ في القَبولِ، هِي اللُّغةُ التي لا تَحتاجُ إلى تَرجمةٍ، والجَاذبيةُ إلى المَودَّةِ والمَرحمةِ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-: "وَتَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ"، أَتَعلمونَ لِماذا؟، لأنَّ الابتسامةَ سَببٌ في إدخالِ السُّرورِ على أَخيكَ المُسلمِ، واسمَعوا إلى جَريرِ بِنِ عَبدِاللهِ البَجَليِّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- وهو لا ينسى تِلكَ اللَّحظاتِ مِن رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-، فَيقولُ: "ولَا رَآنِي إلَّا تَبَسَّمَ في وجْهِي".

 

ضَمَّ المحاسنَ والإحـسانَ نَائِلُهُ *** مِنْ كَفِّ بَدرٍ مُنـيرِ الوَجهِ مُبتسِمِ

 

ومِن الأخلاقِ العَاليةِ التي تُمتَلكُ بِها أَفئدةُ النَّاسِ: حُسنُ الإنصاتِ لِمنْ يَفيضُ لَكَ بالإحساسِ، يَقولُ ابنُ المُقَفَّعِ: "تَعَلَّمْ حُسنَ الاستماعِ كَمَا تَتَعلمُ حُسنَ الكَلامِ، ومِنْ حُسنِ الاستماعِ: إمهالُ المُتَكلمِ حَتى يَنقضيَ حَديثُهُ، وقِلةُ التَّلَفتِ، والإقبالُ بالوَجهِ، والنَّظرِ إلى المُتَكلمِ، والوَعيُ لِمَا يَقولُ".

 

وَهَكذا كَانَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- حتى مَعَ أعدائه، فَعِندَمَا جَاءَهُ عُتْبَةُ بنُ ربِيعَةَ عَنْ قُريشٍ فَقالَ لَه: يَا ابْنَ أخِي، إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، وَإِنَّكَ قَدْ أتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَرَّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ، وسَفَّهْتَ بِهِ أحْلَامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ ودِينَهُمْ، وَكَفَّرْتَ بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنِّي أعْرِضْ عَلَيْكَ أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلَّكَ تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وَسلم-: "قُلْ يَا أبَا الْوَليدِ أَسْمَعْ"، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَوْلِهِ وهُوَ يَسْتَمعُ مِنْهُ، قَالَ: "أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أبَا الوَليدِ؟"، قال: نَعَمْ، قَالَ: "فَاسْتَمعْ مِنِّي"، ثَمَّ تَكلَّمَ، فَمَا أجمَلَهُ مِن خُلُقٍ رَفيعٍ، فَالنَّاسُ اليومَ بِحاجةٍ إلى مَن يَستَمعُ إلى هُمومِها ومَشاكِلها.

 

اللهمَّ حَسِّنْ أَخلاقَنا، واجمعْ على الحَقِّ كَلمتَنا، أَقولُ قَولي هَذا، وَأَستغفرُ اللهَ لي وَلَكم فَاستغفروهُ، إنَّهُ هو الغَفورُ الرَّحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ حَمدًا كَثيراً طَيباً كَما يُحبُ رَبُّنا وَيَرضى، وأَشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ في الآخرةِ والأولى، وأَشهدُ أَنَّ نَبيَّنا مُحمداً عَبدُهُ ورَسولُه النَّبيُّ المُصطفى والرَّسولُ المُجتَبى، اللهمَّ صَلِّ وَسلِّمْ عَليهِ وعَلى آلِهِ وصَحبِهِ ذَوي الفَضلِ والتُّقَى.

 

أمَا بَعدُ: أيَّها الأحبَّةُ.. أَحياناً يُعَكِّرُ صَفوَ هَذهِ المَجالسِ والاجتِماعاتِ، صِنفٌ مِن النَّاسِ غَريبُ الأطوارِ والعَاداتِ، ثَقيلٌ كَالجَبَلِ، غَليظٌ كَالجَمَلِ، لا يُرجى خَيرُهُ، ولا يُؤمنُ شَرُّهُ، فَإيَّاكَ أن تَدخلَ مَعَهُ في مُشاجراتٍ ومَنَاوراتٍ، بَل اسمع إلى هَذِهِ الطَّريقةِ في إدارةِ الأزماتِ، فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنها-: أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وَسلم- فَقَالَ: "بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ"، فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وَسلم- فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ، قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وَسلم-: "يَا عَائِشَة! مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ"، فَالحلُّ هو كلامٌ طَيِّبٌ، وَوَجهٌ مَبتَسمٌ.

 

وهَكَذا تَنتهي مَجالسُ المُناسباتِ والأعيادِ، وقد حَازَ فِيها أصحابُ الأخلاقِ الجَميلةِ، المَنَازلَ العَاليةَ الجَليلةَ، وَحَفِظوا فِيها الوِدَّ والوِئامَ، وحَازوا أجرَ صِلةِ الأرحامِ، وكَانوا كَالغيثِ في شُمولِ أَخلاقِهم، وتَركوا في القُلوبِ طَيِّبَ آَثارِهم، وكَأنَّ اللهَ أعطَاهم ما أعطى عيسى -عَليهِ السَّلامُ- حِينَ قَالَ: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ)[مريم: 31].

 

اللهمَّ اغفر لنا ذُنوبَنا، وإسرافَنا في أَمرِنا، وثَبتْ أَقدامَنا، وانصرنا على القَومِ الكَافرينَ، واجمعْ على الحَقِّ كَلمتَنا، وأَلفْ بينَ قُلوبِنا، واهدِنا سُبلَ السلامِ، وأَخرجنا من الظلماتِ إلى النُّورِ.

 

اللهم اجعلنا ممن عَبدوكَ كَما تُريدُ، وأَعنا عَلى ذِكرِكَ وشُكرِكَ وحُسنِ عِبادتِكَ، اقضِ دِيونَنا، واسترْ عُيوبَنا، وارزقنا من فَضلِكَ، وأَغننا بحَلالِكَ عن حَرامِكَ، اللهمَّ إنا نَسألُكَ في مَقامِنا هَذا الفِردوسَ الأَعلى، وأَن تُعيذَنا من النَّارِ.

 

اللهمَّ إنا نَسألُكَ صَلاحَ النيةِ والذريةِ، اللهمَّ آمنا في الأوطانِ والدورِ، وأَصلحْ الأئمةَ وولاةَ الأمورِ، واغفرْ لنا يَا عَزيزُ يا غَفورُ، اللهمَّ انصرْ دينَكَ، واقمعْ المنافقينَ، وأَذلْ أَعداءَ الدينِ، وعَجِّلْ بفَرجِ المسلمينَ يَا أرحمَ الراحمينَ.

 

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life