عناصر الخطبة
1/وسائل الراحة 2/الراحة الحقيقيةاقتباس
وَاسْتَقَرَّتْ حِكْمَةُ اللهِ أَنَّ السَّعَادَةَ وَالرَّاحَة لا يُوْصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا عَلَى جِسْرِ المَشَقَّةِ والتَّعَب، وَلا يُدْخَلُ إِلَيْهَا إِلَّا مِنْ بَابِ الصَّبْرِ عَلَى المَكَارِه...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْد: فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوَى، واسْتَمْسِكُوا مِنَ الإِسْلامِ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة:197].
عِبَادَ الله: إِنَّهَا مَطْلَبُ البَشَرِيَّة، وأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الإِنْسَانِيَّة، وَاتَّفَقَتْ عَلَى طَلَبِهِ الأُمَمُ كُلُّهَا: إِنَّهَا الرَّاحَة!
وَلَنْ تَجِدَ البَشَرِيَّةُ طَعْمَ الرَّاحَةِ، إِلَّا حِيْنَ تَعُوْدُ إِلى خَالِقِهَا وَمَعْبُوْدِهَا؛ فَهُوَ أَعْلَمُ بِحَاجَتِهِمْ وَرَاحَتِهِمْ (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك:14].
وَمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ الرَّاحَةُ مِنْ كُلِّ مَكَان! قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)[النحل:97]. قالَ ابْنُ كَثِير: "الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ: تَشْمَلُ وُجُوْهَ الرَّاحَةِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ".
وَمَنْ فُتِحَ لَهُ بَابُ الْعِبَادَة وَجَدَ فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ وَالرَّاحَةِ أَضْعَافَ مَا يَجِدُهُ فِي اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالشَّهَوَاتِ! فإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ؛ وَدَّ أَلَّا يَخْرُجَ مِنْهَا! فَمَا اسْتُجْلِبَت الرَّاحَةُ بِمِثْلِ الصَّلَاة؛ قالَ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا بِلَالُ، أَقِمِ الصَّلَاةَ، أرِحْنَا بِهَا"( رواه أبو داود، وصححه الألباني).
والَّذِيْ يَتَعَجَّلُ الرَّاحَةَ بِتَرْكِ الوَاجِبَاتِ، وَفِعْلِ المُحَرَّمَات؛ فَقَدْ أَخْطَأَ الطَّرِيْقَ، وَتَعَجَّلَ الشَّقَاء، وَقَدَّمَ رَاحَةً رَخِيْصَةً قَصِيْرَةً، عَلى الرَّاحَةِ الأَبَدِيَّةِ التَّامَّة، قالَ شَيْخُ الإِسْلَام: "وَلَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إلَّا تَعَبًا وَغَمًّا؛ وَإِنْ كَانَتْ تُفِيدُهُ مِقْدَارًا مِنْ السُّرُورِ: فَمَا يَعْقُبُهُ مِنْ الْمَضَارِّ، وَيَفُوتُهُ مِنْ المَسَار، أَضْعَافُ ذَلِكَ!"، قالَ تعالى: (وَمَنْ أعْرِضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيْشَةً ضَنْكًا)[طه:124].
والرِّضَا والقَنَاعَةُ مِنْ أَسْبَابِ الرَّاحَة: قالَ ابْنُ حِبَّان: "لَيْسَ شَيءٌ أَرْوَحَ لِلْبَدَنِ: مِنَ الرِّضَا بِالقَضَاءِ، وَالثِّقَةِ بِالقَسْمِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ في القَنَاعَةِ إِلَّا الرَّاحَة؛ لَكَانَ الوَاجِبُ عَلَى العَاقِلِ أَلَّا يُفَارِقَ القَنَاعَة!".
وَمَنْ طَهَّرَ قَلْبَهُ مِنَ الغِلِّ والحَسَد؛ فَقَدْ تَعَجَّلَ الرَّاحَةَ لِنَفْسِه، وَتَفَرَّغَ لِمَصَالِحِه، وَاسْتَرَاحَ مِنْ كُلِّ مَا يَهْتَمُّ بِهِ سَائِرُ النَّاسِ مِنْ فُضُوْلِ الدُّنْيَا وَعَلائِقِهَا!
لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ *** أرَحْتُ نَفْسِي مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ
وَمَنْ تَعَوَّدَ الكَسَل، ومَالَ إِلَى الرَّاحَة فَقَدَ الرَّاحَة. وَقَدْ قِيْلَ: "إِنْ أَرَدَّتَ أَلَّا تَتْعَب: فَاتْعَبْ؛ لِئَلَّا تَتْعَب، وَلَا رَاحَةَ لِمَنْ لَا تَعَبَ لَه".
والسِّيَادَةُ فِي الدُّنْيَا، والسَّعَادَةُ فِي الأُخْرَى لَا يُوْصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا على جِسْرٍ مِنَ التَّعَب، قالَ بَعْضُ السَّلَف: "لَا يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ!"(رواه مسلم).
وَكُلَّمَا كَانَتِ النُّفُوسُ أَشْرَف، والهِمَّةُ أَعْلى كانَ تَعَبُ الْبَدَنِ أَوْفَر، وَحَظُّهُ مِنَ الرَّاحَةِ أَقَل.
وَإِذا كَانَت النُّفُوسُ كِبَارًا *** تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الْأَجْسَامُ!
أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَة
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.
عِبَادَ الله: رُوْحُ المُؤْمِن تَتَنَفَّسُ الرَّاحَةَ مِنْ سَاعَةِ المَوْت؛ لِخَلَاصِهَا مِنْ سِجْنِ الدُّنْيَا وَتَعَبِهَا، إلى سَعَةِ الآخِرَةِ وَفَضَائِهَا، قالَ تعالى: (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ)[الواقعة: 88-89]. قالَ ابْنُ كَثِير: "مَنْ مَاتَ مُقَرَّبًا حَصَلَ لَهُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالرَّاحَةِ وَالِاسْتِرَاحَةِ". قال -صلى الله عليه وسلم-:"العَبْدُ المُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِن نَصَبِ الدُّنْيَا وأَذَاهَا إلى رَحْمَةِ اللَّهِ، والعَبْدُ الفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ العِبَادُ والبِلَادُ، والشَّجَرُ والدَّوَابُّ!"(رواه البخاري، ومسلم).
وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا رَاحَةٌ مُطْلَقَةٌ؛ لِأَنَّهَا طُبِعَتْ على كَدَر؛ والتَّعَبُ فِيْهَا يَشْتَرِكُ فِيْهِ البَشَر؛ أَمَّا العَاقِبَةُ فَمُخْتَلِفَة، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ)[البلد:4]. وَلِكَنَّ الخَاسِرَ مَنْ يُعَانِي كَبَدَ الدُّنْيَا؛ لِيَنْتَهِيَ إِلَى كَبَدِ الآخِرَة! وَالسَّعِيْدُ: مَنْ يَكْدَحُ إِلَى رَبِّهِ؛ لِيَنْتَهِيَ إِلى الرَّاحَةِ الكُبْرَى!
قالَ ابْنُ القَيِّم: "وَأَمَّا الرَّاحَةُ وَالْبَهْجَةُ فِي جِوَارِ رَبِّ الْأَرْبَابِ؛ فَمِمَّا لَا يَخْطُرُ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ".
وَاسْتَقَرَّتْ حِكْمَةُ اللهِ أَنَّ السَّعَادَةَ وَالرَّاحَة لا يُوْصَلُ إِلَيْهَا إِلَّا عَلَى جِسْرِ المَشَقَّةِ والتَّعَب، وَلا يُدْخَلُ إِلَيْهَا إِلَّا مِنْ بَابِ الصَّبْرِ عَلَى المَكَارِه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَوَات"(رواه مسلم). وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى الإِمَامِ أَحَمَد؛ فقال: "يَا أَبَا عَبْدِ الله، قَصَدتُّكَ مِنْ خُرَاسَانَ، أَسْأَلُكَ عَن مَسْأَلَة"، فقالَ لَهُ: "سَلْ"، قال: "مَتى يَجِدُ العَبْدُ طَعْمَ الرَّاحَة؟"، قال: "عِنْدَ أَوَّلِ قَدَمٍ يَضَعُهَا فِي الْجَنَّة!".
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.
اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.
اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا.
عِبَادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90].
فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت:45].
التعليقات