عناصر الخطبة
1/التنافس فطرة في الإنسان وطبيعة له 2/أنواع التنافس وأصناف الناس فيه 3/التنافس على الآخرة دأب العقلاء وسمة الأذكياء 4/فيم يكون التنافس 5/ذم التنافس على الدنيا وخطره.اقتباس
إِنَّ الأَعمَارَ قَصِيرَةٌ وَالآجَالَ مَحدُودَةٌ، وَالعَوَائِقَ كَثِيرَةٌ وَالعَوَارِضَ قَرِيبَةٌ، وَلا يَستَوِي مُبَادِرٌ إِلى الخَيرِ وَمُتَبَاطِئٌ عَنهُ، وَلا مُسَابِقٌ في الفَضلِ وَمُتَثَاقِلٌ عَنهُ؛ وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ أَعقَلَ العُقَلاءِ هُوَ مَن يَدخُلُ في سِبَاقِ الآخِرَةِ؛ فَحَسبُ، وَيُنَافِسُ في مِضمَارِهَا وَكَفَى...
الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعدُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: فِطرَةٌ في النَّاسِ أَن يَتَنَافَسُوا، وَمِن طَبِيعَتِهِم أَن يَتَسَابَقُوا، وَالغَيرَةُ في نَفسِ كُلِّ حُرٍّ أَبِيٍّ، وَكُلُّ ذِي هِمَّةٍ عَالِيَةٍ؛ فَهُوَ يُحِبُّ أَن يَكُونَ أَوَّلَ النَّاسِ وَفي طَلِيعَتِهِم، وَتَهفُو نَفسُهُ إِلى أَن يَكُونَ في المُقَدِّمَةِ وَالمَرتَبَةِ الأُولى، وَأَن يَمتَلِكَ الأَكثَرَ وَالأَكمَلَ وَالأَجمَلَ، وَلا تَحتَمِلُ نَفسُهُ أَن يَكُونَ أَحَدٌ أَفضَلَ مِنهُ؛ فَهُوَ يُنَافِسُ وَيُسَابِقُ، وَقَد يُنَازِعُ مِن أَجلِ أَن يَبلُغَ مَكَانَةً مَا.
أَجَل-أَيُّهَا الإِخوَةُ-كُلُّ امرِئٍ يُحِبُّ أَن يَكُونَ لَهُ مِنَ البُيُوتِ أَكبَرُهَا، وَمِنَ المَرَاكِبِ أَكمَلُهَا، وَأَن تَكُونَ تَحتَهُ أَجمَلُ زَوجَةٍ، وَلَدَيهِ مَالٌ مَمدُودٌ وَبَنُونَ شُهُودٌ، وَالتَّنَافُسُ صِفَةٌ مَغرُوسَةٌ في فِطرَةِ الإِنسَانِ؛ فَإِنَّهَا لا تُمدَحُ وَلا تُذَمُّ لِذَاتِهَا، وَلَكِنَّهَا قَد تُوَظَّفُ في الخَيرِ فَتَرقَى بِصَاحِبِهَا إِلى أَعلَى المَعَالي وَرَفِيعِ الدَّرَجَاتِ، وَقَد تُوَظَّفُ في الشَّرِّ فَتَهبِطُ بِهِ إِلى أَسفَلِ الدَّرَكَاتِ.
نَعَم، قَد يَتَنَافَسُ النَّاسُ في الدُّنيَا الحَقِيرَةِ الفَانِيَةِ؛ فَيَكُونُ تَنَافُسُهُم وَبَالاً عَلَيهِم وَشَرًّا وَشَرَرًا، وَنَارًا تَشتَعِلُ في صُدُورِهِم؛ فَتُحرِقُ حَاضِرَهُم وَمُستَقبَلَهُم، إِذْ لا يَجنُونَ مِنهُ إِلاَّ الحَسَدَ وَالبَغضَاءَ، وَالعَدَاوَاتِ وَالشَّحنَاءَ؛ فَتَبرُزُ الغِيبَةُ وَالنَّمَائِمُ، وَيَكثُرُ الاستِهزَاءُ وَالشَّتَائِمُ، وَيُتَبَادَلُ التَّعيِيرُ وَالذَّمُّ وَالسَّبُّ، وَتَقُومُ سُوقُ الانتِقَاصِ وَالازدِرَاءِ وَالثَّلبِ.
وَأَمَّا حِينَ يَتَنَافَسُ النَّاسُ في الآخِرَةِ، وَتَعلُو هِمَمُهُم إِلى مَا وُعِدَ بِهِ المُؤمِنُونَ مِنَ النَّعِيمِ المُقِيمِ؛ فَمَا أَجمَلَ التَّنَافُسَ حِينَئِذٍ وَمَا أَشرَفَهُ، وَمَا أَحسَنَ تَأثِيرَهُ عَلَى النُّفُوسِ وَأَكمَلَهُ! إِذْ يُحيِيهَا حَيَاةَ المُتَّقِينَ، وَيَبعَثُهَا إِلى اللَّحَاقِ بِالصَّالِحِينَ، وَيُصَحِّحُ مَسَارَهَا لِتَتَزَوَّدَ مِنَ الصَّالِحَاتِ، وَيَدفَعُهَا إِلى الاستِكثَارِ مِنَ الحَسَنَاتِ، قَالَ-سُبحَانَهُ-: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ* كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 18-26]، وَقَالَ-تَعَالى-: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لَقَد تَسَابَقَت رِكَابُ النَّاسِ مُنذُ أَن وُجِدُوا عَلَى هَذِهِ الدُّنيَا تَسَابُقًا مَحمُومًا مَذمُومًا، وَمَا زَالَت تَسِيرُ بِهِم في هَذَا السِّبَاقِ إِلى غَايَةٍ وَاحِدَةٍ لا تَختَلِفُ، وَتَصِلُ بِهِم إِلى نِهَايَةٍ مَعرُوفَةٍ لا تَتَغَيَّرُ، وَهُم في تِلكَ النِّهَايَةِ يَتَسَاقَطُونَ وَاحِدًا بَعدَ الآخَرِ، لا تَختَلِفُ مَوَارِدُهُم بِاختِلافِ رِكَابِهِم، وَلا تَتَنَوَّعُ مَصَائِرُهُم بِتَنَوُّعِ وَظَائِفِهِم؛ جِيلاً بَعدَ جِيلٍ في حُفَرِهِم يَتَسَاقَطُونَ، وَأُمَّةٌ بَعدَ أُمَّةٍ في قُبُورِهِم يُدفَنُونَ، سَقَطَ الغَنيُّ كَمَا سَقَطَ الفَقِيرُ، وَدُفِنَ الجَلِيلُ، كَمَا دُفِنَ الحَقِيرُ، وَمَضَى العَزِيزُ كَمَا مَضَى الذَّلِيلُ، الكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ، وَالأَمِيرُ وَالوَزِيرُ، وَالقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، وَالصَّحِيحُ وَالمَرِيضُ، ذَهَبَ الجَمِيعُ بَعدَ التَّنَافُسِ عَلَى الدُّنيَا مَذهَبًا وَاحِدًا، وَصَارُوا بَعدَ التَّطَاحُنِ إِلى مَصِيرٍ وَاحِدٍ، وَغَدَا كُلٌّ مِنهُم في لَحدِهِ جُثَّةً هَامِدَةً، وَانتَهَى سِبَاقُ الدُّنيَا وَانطَفَأَ لَهِيبُهُ وَخَمَدَت نَارُهُ، فَمَا أَقَلَّهُ وَمَا أَذَلَّهُ ! وَمَا أَصغَرَهُ وَمَا أَحقَرَهُ، وَمَا أَتفَهَهُ وَمَا أَقَلَّ قِيمَتَهُ ! إِنَّهُ سِبَاقُ حُمقٍ وَغَبَاءٍ لا قِيمَةَ لَهُ وَأَهلُهُ يَصِيرُونَ بَعدَهُ إِلى المَوتِ وَالفَنَاءِ.
أَجَل-أَيُّهَا المُسلِمُونَ- إِنَّ المَوتَ يُنهِي غِنَى الغَنِيِّ وَيُذهِبُ قُوَّةَ القَوِيِّ، وَيَقطَعُ فَقرَ الفَقِيرِ وَيَرفَعُ ضَعفَ الضَّعِيفِ، لا وَسَامَةُ الوَسِيمِ تُنجِي مِنهُ، وَلا دَمَامَةُ الدَّمِيمِ تَأتِي بِهِ، وَلا شَرَفُ النَّسَبِ يَؤَجِّلُهُ، وَلا دَنَاءَةُ الحَسَبِ تُعَجِّلُهُ؛ لَكِنَّهُ يُلغِي كُلَّ شَيءٍ كَانَ التَّنَافُسُ فِيهِ عَلَى أَشُدِّهِ، وَيَجعَلُهُ هَبَاءً مَنثُورًا وَنَسيًا مَنسِيًّا.
هَل سَمِعتُم بِصَاحِبِ مَالٍ دَخَلَ القَبرَ بِمَالِهِ، أَو رَاعِي إِبِلٍ رَتَعَ بِها في جَانِبِ لَحدِهِ، أَو شَرِيفِ نَسَبٍ دُفِنَ وَحدَهُ في مَقبَرَةٍ تَخَصُّهُ، أَو ذِي حَسَبٍ اختَلَفَت طَرِيقَةُ تَشيِيعِهِ، فَعَلامَ كُلُّ هَذَا التَّنَافُسِ عَلَى حُطَامِ الدُّنيَا، وَإِلامَ هَذَا الغَوصُ في سَفَاسِفِهَا ؟! أَلا ذُو لُبٍّ فَيَنتَهِي وَيَرعَوِي ؟! أَلا ذُو تُقًى فَيَقتَنِعُ وَيَرتَدِعُ ؟! إِنَّهُ وَاللهِ لَمِنَ الحُمقِ وَسَخَافَةِ العَقلِ وَضَعفِ التَّميِيزِ أَن يَدخُلَ امرُؤٌ في سِبَاقِ الدُّنيَا بِقُوَّةٍ، وَيُنَافِسَ فِيهِ بِشِدَّةٍ، وَيَبذُلَ فِيهِ وَقتَهُ وَمَالَهُ، وَيَشغَلَ بِهِ عَقلَهُ وَبَالَهُ، وَيَجعَلَ لَهُ تَقدِيرَهُ وَتَدبِيرَهُ وَتَفكِيرَهُ، وَهُوَ يَعلَمُ أَنَّهُ لا نَتِيجَةَ لَهُ إِلاَّ حَفنَةُ مَالٍ تَفنَى، أَو غَمَامَةُ مَدحٍ لا تَلبَثُ أَن تُنسَى، أَو عَاصِفَةُ ذَمٍّ عَمَّا قَلِيلٍ تَهدَأُ وَتُطوَى، ثم يُرَدُّ الجَمِيعُ إِلى اللهِ مَولاهُمُ الحَقُّ، فَلا يَتَمَايَزُونَ عِندَهُ إِلاَّ بِمِقيَاسِ الحَقِّ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات:13].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ الأَعمَارَ قَصِيرَةٌ وَالآجَالَ مَحدُودَةٌ، وَالعَوَائِقَ كَثِيرَةٌ وَالعَوَارِضَ قَرِيبَةٌ، وَلا يَستَوِي مُبَادِرٌ إِلى الخَيرِ وَمُتَبَاطِئٌ عَنهُ، وَلا مُسَابِقٌ في الفَضلِ وَمُتَثَاقِلٌ عَنهُ؛ وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ أَعقَلَ العُقَلاءِ هُوَ مَن يَدخُلُ في سِبَاقِ الآخِرَةِ؛ فَحَسبُ، وَيُنَافِسُ في مِضمَارِهَا وَكَفَى؛ فَرَبُّنَا-عَزَّ وَجَلَّ- قَد قَالَ: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) [الصافات: 61]، وَقَالَ: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26]، وَقَالَ: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [البقرة: 148]، وَقَالَ: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133].
وَلَقَد عَلِمَ صَفوَةُ خَلقِ اللهِ؛ فِيمَ يَكُونُ التَّنَافُسُ وَعَلامَ يَكُونُ التَّسَابُقُ؛ فَسَرَت في نُفُوسِهِم رُوحُ التَّنَافُسِ فِيمَا يَبقَى، وَزَهِدُوا فِيمَا يَذهَبُ وَيَفنَى؛ فَفِي البُخَارِيِّ في قِصَّةِ الإِسرَاءِ وَالمِعرَاجِ، قَالَ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "ثُمَّ صَعِدَ بي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ؛ فَاستَفتَحَ، قِيلَ مَن هَذَا ؟ قَالَ: جِبرِيلُ قِيلَ: مَن مَعَكَ ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَد أُرسِلَ إِلَيهِ ؟ قَالَ: نَعَم، قَالَ: مَرحَبًا بِهِ؛ فَنِعمَ المَجِيءُ جَاءَ؛ فَلَمَّا خَلَصتُ فَإِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيهِ، فَسَلَّمتُ عَلَيهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبيِّ الصَّالِحِ؛ فَلَمَّا تَجَاوَزتُ بَكَى، قِيلَ لَهُ: مَا يُبكِيكَ ؟ قَالَ: أَبكِي لأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعدِي يَدخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتِهِ أَكثَرُ مِمَّن يَدخُلُهَا مِن أُمَّتي".
وَقَالَ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-:"لا حَسَدَ إِلاَّ في اثنَتَينِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ القُرآنَ فَهُوَ يَتلُوهُ آنَاءَ اللَّيلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً فَهُوَ يُنفِقُهُ آنَاءَ اللَّيلِ وَآنَاءَ النَّهَار" (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ)، وَعِندَ أَحمَدَ: "لا تَنَافُسَ بَينَكُم إِلاَّ في اثنَتَينِ: رَجُلٌ أَعطَاهُ اللهُ-عَزَّ وَجَلَّ-القُرآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ وَيَتَّبِعُ مَا فِيهِ، فَيَقُولُ رَجُلٌ لَو أَنَّ اللهَ-تَعَالى-أَعطَاني مِثلَ مَا أَعطَى فُلانًا فَأَقُومَ بِهِ كَمَا يَقُومُ بِهِ، وَرَجُلٌ أَعطَاهُ اللهُ مَالاً فَهُوَ يُنفِقُ وَيَتَصَدَّقُ؛ فَيَقُولُ رَجُلٌ لَو أَنَّ اللهَ أَعطَاني مِثلَ مَا أَعطَى فُلانًا فَأَتَصَدَّقَ بِهِ".
وَقَالَ-عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-:"لَو يَعلَمُ النَّاسُ مَا في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لم يَجِدُوا إِلاَّ أَن يَستَهِمُوا عَلَيهِ لاستَهَمُوا، وَلَو يَعلَمُونَ مَا في التَّهجِيرِ لاستَبَقُوا إِلَيهِ، وَلَو يَعلَمُونَ مَا في العَتَمَةِ وَالصُّبحِ لأَتَوهُمَا وَلَو حَبوًا" (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ)، وَعَن عُمَرَ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أَن نَتَصَدَّقَ، وَوَافَقَ ذَلِكَ عِندِي مَالاً فَقُلتُ: اليَومَ أَسبِقُ أَبَا بَكرٍ إِنْ سَبَقتُهُ يَومًا، قَالَ: فَجِئتُ بِنِصفِ مَالي؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "مَا أَبقَيتَ لأَهلِكَ؟"فَقُلتُ: مِثلَهُ وَأَتى أَبُو بَكرٍ بِكُلِّ مَا عِندَهُ؛ فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكرٍ، مَا أَبقَيتَ لأَهلِكَ؟"فَقَالَ: أَبقَيتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ قُلتُ: لا أَسبِقُهُ إِلى شَيءٍ أَبَدًا (رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ).
وَفي المُتَّفَقِ عَلَيهِ أَنَّ أَبَا هُرَيرَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ-قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "يَدخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتي زُمرَةٌ هُم سَبعُونَ أَلفًا، تُضِيءُ وُجُوهُهُم إِضَاءَةَ القَمَرِ لَيلَةَ البَدر"، قَالَ أَبُو هُرَيرَةَ: فَقَامَ عُكَّاشَةُ بنُ مِحصَنٍ الأَسَدِيُّ يَرفَعُ نَمِرَةً عَلَيهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اُدْعُ اللهَ أَن يَجعَلَني مِنهُم، قَالَ: "اللَّهُمَّ اجعَلْهُ مِنهُم"، ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اُدْعُ اللهَ أَن يَجعَلَني مِنهُم؛ فَقَالَ: "سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ".
اللهُ أَكبَرُ-يَا عِبَادَ اللهِ- لَقَد تَأَجَّجَت في حَيَاةِ المُخلَصِينَ جَذوَةُ المُنَافَسَةِ الشَّرِيفَةِ، فَاغتَنَمُوا الأَوقَاتَ، وَاستَثمَرُوا الأَعمَارَ، وَصَارُوا أَعلَى شَأنًا وَأَرفَعَ عِلمًا وَعَمَلاً؛ بَل غَدَوا أَصحَابَ فَضلٍ وَسَبقٍ، وَتَربَّوا عَلَى المُبَادَرَةِ إِلى الخَيرَاتِ وَالتَّسَابُقِ في الطَّاعَاتِ، وَالتَّنَافُسِ في أَعمَالِ البِرِّ وَاكتِسَابِ الحَسَنَاتِ؛ فَفِي البُخَارِيِّ وَمُسلِمٍ وَاللَّفظُ لَهُ عَن أَبي هُرَيرَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ-أَنَّ فُقَرَاءَ المُهَاجِرِينَ أَتَوا رَسُولَ اللهِ-صلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ العُلَى وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ؛ فَقَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟"قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلا نَتَصَدَّقُ وَيُعتِقُونَ وَلا نُعتِقُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-:"أَفَلا أُعَلِّمُكُم شَيئًا تُدرِكُونَ بِهِ مَن سَبَقَكُم وَتَسبِقُونَ بِهِ مَن بَعدَكُم، وَلا يَكُونُ أَحَدٌ أَفضَلَ مِنكُم إِلاَّ مَن صَنَعَ مِثلَ مَا صَنَعتُم؟"قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ مَرَّةً"، قَالَ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ إِلى رَسُولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: سَمِعَ إِخوَانُنَا أَهلُ الأَموَالِ بِمَا فَعَلنَا فَفَعَلُوا مِثلَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-:"ذَلِكَ فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ".
أَلا؛ فَلْنَتَّقِ اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَلْنَقصُرْ تَنَافُسَنَا عَلَى مَا يَرفَعُنَا في دَرَجَاتِ الجَنَّةِ وَيُبَلِّغُنَا في مَنَازِلِهَا، فَإِنَّ الفَوزَ لَيسَ في جَمَالِ أَنفِ نَاقَةٍ أَو طُولِ رَقَبَتِهَا أَو حُسنِ هَيكَلِهَا، أو في كَثَافَةِ عُضوٍ مِنهَا أَو لَطَافَةِ آخَرَ، وَلَكِنَّهُ في التَّرَقِّي في دَرَجَاتِ الجَنَّةِ، قَالَ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-:"يُقَالُ لِصَاحِبِ القُرآنِ: اِقرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنتَ تُرَتِّلُ في الدُّنيَا فَإِنَّ مَنزِلَتَكَ عِندَ آخِرِ آيَةٍ تَقرَؤُهَا" (رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ).
أَقُولُ هَذَا القَولَ وَأَستَغفِرُ اللهَ ...
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ-تَعَالى-حَقَّ التَّقوَى، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) [الطلاق: 2].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ التَنَافُسَ المَحمُودَ الَّذِي رَبَّانَا عَلَيهِ الإِسلامُ، إِنَّهُ لَصِفَةٌ جَلِيلَةٌ نَبِيلَةٌ، تُعَزِّزُ طُمُوحَ المُسلِمِ وَتَرتَفِعُ بِهِ عَن السَّفَاسِفِ وَصَغَائِرِ الأُمُورِ؛ فَيَرتَقِي إِلى طَلَبِ المَعَالي وَالمُنَافَسَةِ في الخَيرَاتِ، وَالمُسَابَقَةِ إِلى المَرَاتِبِ السَّنِيَّةِ، مُتَطَهِّرًا مِن اللَّوثَاتِ وَالآفَاتِ، الَّتي يُورِثُهَا التَّنَافُسُ المَحمُومُ عَلَى الدُّنيَا؛ فَتُفسِدُ القُلُوبَ وَتُحبِطُ الأَعمَالَ، وَتَزرَعُ في المُجتَمَعِ الشِّقَاقَ وَتُوَسِّعُ شُقُوقَ الاختِلافِ، وَتَنفُخُ في رُوحِ العَصَبِيَّاتِ وَتُذكِي نِيرَانَ الجَاهِلِيَّاتِ، وَهَذَا مَا خَشِيَهُ عَلَى أُمَّتِهِ النَّاصِحُ المُشفِقُ-صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلامُهُ عَلَيهِ-حَيثُ قَالَ: "مَا الفَقرَ أَخشَى عَلَيكُم، وَلَكِنِّي أَخشَى أَن تُبسَطَ عَلَيكُم الدُّنيَا كَمَا بُسِطَت عَلَى مَن كَانَ قَبلَكُم فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهلِكَكُم كَمَا أَهلَكَتهُم" (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ).
مَا أَسوأَ التَّنَافُسَ وَأَقبَحَ أَثرَهُ حِينَ يَكُونُ عَلَى الدُّنيَا؛ فَيُؤَدِّي إِلى التَّصَارُعِ بَينَ الإِخوَةِ، أَو يُسَبِّبُ القَطِيعَةَ بَينَ الأَقَارِبِ، أَو يَدعُو إِلى التَّفَاخُرِ بَينَ القَبَائِلِ وَالتَّكَاثُرِ؛ فَيُورِثُ البَغضَاءَ وَالشَّحنَاءَ، وَتَنشَأُ عَنهُ الخُصُومَاتُ وَتَشتَدُّ المُنَازَعَاتُ، وَيَظهَرُ عَلَى أَثَرِهِ الإِسرَافُ وَالبَذخُ وَتَبدِيدُ النِّعَمِ، وَيَنتَشِرُ الكَذِبُ وَالتَّلفِيقُ، وَيَكثُرُ المَدحُ الكَاذِبُ وَالذَّمُّ الظَّالِمُ، وَتَتَفَرَّقُ القُلُوبُ وَتَتَمَزَّقُ لُحمَةُ المُجتَمَعِ؛ فَلْنَتَّقِ اللهِ، وَلْنَعتَصِمْ بِحَبلِهِ وَلْنَحذَرْ مَا يَدعُو إِلى الفُرقَةِ، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103].
التعليقات