عناصر الخطبة
1/ الحديث النبوي المبيِّن لخشية النبي الكريم على أمته من انفتاح الدنيا 2/ الحال الطيبة لآبائنا واستقرارهم رغم الفقر 3/ حال الناس وكيفية استقبالهم لأخبار الميزانية الجديدة الهائلة 4/ دعوة للاستبشار والرضا والشكر.اهداف الخطبة
اقتباس
تعالوا بنا نرجعُ إلى زمانِنا هذا، أُعلنت ميزانيةُ هذا العامُ بحجمِ تسعةٍ وثلاثين ومائتين وألف مليار ريال، وهذه -كما يقولُ أهلُ الاقتصادِ- ميزانيةٌ تاريخيةٌ، وأرقامٌ فلكيةٌ؛ فهل التفاؤلُ والأملُ هو السائدُ في الناسِ؟ أم أن الناسَ قد خيَّمَ عليهم التشاؤمُ واليأسُ؟.
الحمدُ للهِ اللطيفِ الكريمِ، الرؤوفِ الرحيمِ، هدانا للإسلامِ والدينِ القويمِ، فضلاً منه ونعمةً واللهُ ذو الفضلِ العظيمِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادةً نرجو بها النجاةَ يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه الذي اصطفاه واجتباه، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وأصحابِه صلاةً وسلاماً دائمَيْنِ إلى يومِ الدينِ.
أما بعد: (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
عن عمرو بنِ عوفٍ الأَنْصاريِّ -رضي الله عنه-، أَنَّ رسولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ أَبا عُبيدةَ بنَ الجرَّاحِ -رضي الله عنه- إلى البَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجزْيَتِهَا، فَقَدمَ بِمالٍ منَ البحْرَينِ،
فَسَمِعَت الأَنصَارُ بقُدومِ أبي عُبَيْدَةَ، فوافَوْا صَلاةَ الفَجْرِ مَعَ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-.
فَلَمَّا صَلى رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-، انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ؛ فَتَبَسَّمَ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- حِينَ رَآهُمْ. ثُمَّ قال: "أَظُنُّكُم سَمِعتُم أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيء مِنَ الْبَحْرَيْنِ؟"، فقالوا: أَجَل، يا رسول اللَّه. فقــال: "أَبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسرُّكُمْ، فواللَّه ما الفقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ! وَلكنّي أَخْشى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُم كما بُسطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا؛ فَتَهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ".
عباد الله: هذا أمانٌ من النبيِ -صلى الله عليه وسلم- من أن الفقرَ ليسَ منه خوفٌ على هذه الأمةِ، وإنما الخوفُ عليها من الغنى وانفتاحِ الدنيا، ثم التنافس عليها، ثم الهلاك والعياذُ باللهِ تعالى.
ولو رجعنا بذاكرتِنا إلى الوراءِ قليلاً لنتذكرَ أيامَ الفقرِ في بلادِنا لوجدنا ذلك ظاهراً، أُعلنت أولُ ميزانيةٍ رسميةٍ للمملكة العربيةِ السعوديةِ في عام اثنين وخمسين وثلاثمائة وألف بعد الهجرة، بحجمِ أربعة عشر مليون ريال، وكان تعدادُ السكانِ يقاربُ السبعةِ ملايين، أي: لو وُزِّعَت عليهم لكان نصيبُ كلِ واحدٍ منهم ريالينِ فقط، ولكن كيفَ كانت حياتُهم؟.
كان الناسُ متفائلين، شاكرين، حامدين، لربِهم عابدين؛كان الغالبُ على حالِهم كما جاء في حديثِ النبيِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا"، كانَ عندَهم القليلُ، ويشكرونَ كثيراً، كان التقى والخشيةُ والصلاحُ هو الشعارَ الظاهرَ في ذلك الزمانِ، وكانت نعمةُ الأمنِ لا تعادلُها نعمةٌ، بعد أن رأوا الخوفَ بأعينِهم.
كان الناسُ يحبون لغيرِهم ما يحبونَه لأنفسِهم، لا تجد الظلمَ ولا الحسدَ ولا الغشَّ، بل لم تكن هناك محاكمُ لندرةِ القضايا بين الناس، وإنما كان الملكُ عبدُ العزيزِ -رحمَه اللهُ تعالى- يبعثُ العالِمَ إلى البلدِ فيكون إماماً وقاضياً ومفتياً في المسجدِ وفي الشارعِ وفي البيتِ، كانت النفوسُ صافيةً، وكانت القلوبُ سليمةً، حالُهم كما قالَ النبيُ -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ؛ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا". وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ.
كانت المساجدُ عامرةً، من يغب عنها يُعاد إن كان مريضاً، ويُحفظ في أهلِه إن كان مسافراً، ويُنصح إن كان مقصراً.
كان برُ الوالدينِ وصلةُ الأرحامِ هي السمة الظاهرةِ في المجتمعِ على قلةِ المواصلاتِ والاتصالاتِ، ولم يكنِ الناسُ يقبلون عاقاً أو قاطعاً بينَهم، مستشعرينَ قولَ النبيِ -صلى الله عليه وسلم-: "الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ".
كانت الأسرةُ تجتمعُ على وجبةِ الغداءِ والعشاءِ، صحنٌ صغيرٌ، لكنه مُشاركٌ، أكلٌ قليلٌ، لكنه مباركٌ، كان ذلك الاجتماعُ اليوميُّ لا يتغيبُ عنه أحدٌ، فيه الأدبُ، فيه النصيحةُ، فيه الاستشارةُ، فيه الفائدةُ.
كان الأبُ هو رجلَ البيتِ، يعملُ في مزرعتِه أو سوقِه أو وظيفتِه ثم يرجعُ وقد أنهكَه التعبُ، فتستقبله زوجُته وأولادُه بالدعاءِ والشوقِ والفرحِ، يأكلُ حلالاً ولا يقبلُ الحرامَ ولو ماتَ هو وأسرتُه من الجوعِ، إذا تكلمَ سُمعَ له، وإذا أمرَ يُطاعُ، يتعلمون منه العبادةَ، وبرَ الوالدينِ، وصلةَ الأرحامِ، وشكرَ النعمةِ، والصبرَ على المصائبِ، وذكرَ اللهِ تعالى على كلِ حالٍ.
كانت الأمُ مَدرسةً، وهي لا تقرأُ ولا تكتبُ، لم تكن خرَّاجةً ولاَّجةً، لم يكن لها شغلٌ إلا بيتها، مَن احتاجَها وجدَها، من منكم يحبُ أن يرجعَ إلى البيتِ مريضاً أو حزيناً فلا يجدُ ذلك الصدرَ الكبيرَ، وذلك الحنانَ الوفيرَ؟ تسهرُ على المريضِ، وتواسي المصابَ، يتعلم منها بناتُها الحياءَ والحشمةَ والعفافَ، ولم يكن في بيتِها خادمة تعكرُ صفوَ تربيَتِها لأولادِها.
كان الجارُ كأنه من الأقاربِ، لقربِه من جارِه، يتفقدُ حاجَته، يُعظِّمُ حقَه، يغضُ بصرَه، يسترُ عورَته، يشاركُه الطعامَ والشرابَ، متمثلاً قولَ النبيِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ".
كان أوقاتُ الأبناءِ والبناتِ بين حفظِ القرآنِ وبين اللعبِ الشريفِ العفيفِ، لم تكن هناك قنواتُ الرذيلةِ التي تفتحُ أعينَهم على ما يهدمُ الفضيلةَ، كانت فطرتُهم سليمةً، غافلينَ وغافلاتٍ عن كلِ قولٍ جارحٍ، أو فعلٍ فاضحٍ.
كان الكلُ يربي، الأبُ يربي، والأمُ تربي، والأخ يربي، والقريبُ يربي، والجارُ يربي، والرجلُ في الشارعِ يربي، وإمامُ المسجدِ يربي، والمعلمُ يربي، ومن لم يمنعه دينُه عن معصيةٍ منعَه الحياءُ.
أما الآن فقد تغيرت الأحوالُ، حتى أصبحَ كبارُ السنِ في غربةٍ في هذا الزمانِ العجيبِ، ولسانُ حالِهم يقولُ:
قِفْ بالمطِيّ فَنادِ في صحرائِهم *** فعَسَى يُجيب الحيُّ من أبنائِهمْ!
أما الخِيامُ فإنَّها كخيامِهم *** وأَرَى نساءَ الحيِّ غيرَ نسائِهمْ
أين مَن يَستفيدُ منهم؟ أين من يسمعُ لهم؟ تجدُ الرجلَ الكبيرَ وقد امتلأ حكمةً وتجربةً، عاشرَ أجيالاً، ورأى أحوالاً، وسمعَ تاريخاً، يجلسُ في المجلسِ وكلٌ مشغولٌ بجوالِه، أو ينظرُ إلى شاشةٍ كاذبةٍ، ويعتقدونَ أنهم أعلمُ منه بالتقنيةِ والتكنولوجيا، ولا يعلمونَ أنه يُوشكُ أن يفارقَهم ويفقدونَ التاريخَ الذي بين جوانبِه، وقد قالَ الشاعرُ:
اقرؤوا التاريخَ إذ فيه العِـَبرْ *** ضـلّ قومٌ ليسَ يدرونَ الخَبَرْ
أقولُ هذا وأستغفرُ اللهَ لي لكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ، خلقَ فسوى، وقدرَ فهدى، أحمدُه تعالى وأشكرُه، وأثني عليه الخيرَ كلَه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ الواحدُ الأحدُ، الفردُ الصمدُ، لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، رحمة اللهِ للعالمينَ، (وَمَا أَرْسَلْنَـاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـالَمِينَ) [الأنبياء:107]، صلواتُ ربي وسلامُه عليه ما تعاقبَ الليلُ والنهارُ.
أما بعد: تعالوا بنا نرجعُ إلى زمانِنا هذا، أُعلنت ميزانيةُ هذا العامُ بحجمِ تسعةٍ وثلاثين ومائتين وألف مليار ريال، وهذه -كما يقولُ أهلُ الاقتصادِ- ميزانيةٌ تاريخيةٌ، وأرقامٌ فلكيةٌ؛ فهل التفاؤلُ والأملُ هو السائدُ في الناسِ؟ أم أن الناسَ قد خيَّمَ عليهم التشاؤمُ واليأسُ؟.
أُوصيكم بوصيةِ النبيِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسرُّكُمْ"؛ فلعلَ اللهَ تعالى يريكم ما تَقرُ به أعينُكم، فيكون لكلِ مواطنٍ سكنٌ، ولكلِ عاطلٍ وظيفةٌ، ولكلِ مريضٍ سريرٌ، ولكلِ محتاجٍ إعانةٌ.
ولا ننسى نعمَ اللهَ تعالى علينا من الأمنِ والأمانِ، والشريعةِ والإيمانِ، في ظلِ هذه الأمواجِ العاتيةِ من الفتنِ التي تتلاطمُ من حولنِا، فنحنُ بايعنا إمامَنا طاعةً للهِ تعالى، لا لأجلِ الدنيا، كما قالَ -عليه الصلاةُ والسلامُ-: "ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، ومنهم: "وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا سَخِطَ".
ثم اعلموا أن ما كتبَه اللهُ تعالى لكم من رزقٍ فهو آتيكُم لا محالةٍ، "وَاعْلَم أَنَّ الأُمّة لو اجْتَمَعَت عَلَى أن يَنفَعُوكَ بِشيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ لَك".
ولنرضَ بما قسمَ اللهُ تعالى، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟"، قَالَ: قُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا، ومنها: "وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ".
يا أهلَ الإيمانِ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى حَصِيرٍ فَأَثَّرَ الْحَصِيرُ بِجِلْدِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ جَعَلْتُ أَمْسَحُ عَنْهُ، وَأَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا آذَنْتَنَا نَبْسُطُ لَكَ عَلَى هَذَا الْحَصِيرِ شَيْئًا يَقِيكَ مِنْهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَالِي وَللدُّنْيَا! وَمَا أَنَا وَالدُّنْيَا إِلا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرْكَهَا".
وهَبْ أنْ قد ملكتَ الأرضَ طرّاً *** ودانَ لك العبادُ فكان ماذا؟
أليس غداً مصيرُك جوفَ قبرٍ *** ويحثو التربَ هذا ثمّ هذا
اللـهُم إنا نعـوذ ُ بك من زوالِ نعـمتِك، وتحـوّلِ عافيتـِك، وفَجأةِ نِقـمتـِك، وجميعِ سَخطـِك، اللـهم إنا نعـوذ ُ بك من يومِ السوء، ومن ليلةِ السوءِ، ومن ساعةِ السوءِ، ومن صاحبِ
السوءِ، ومن جـارِ السوءِ في دارِ المـُقـامةِ، وصلِ اللهم على عبدِك ورسولِك.
التعليقات
زائر
23-09-2022بارك الله فيك وجزاك الله خير الجزاء .