عناصر الخطبة
1/الانحراف يتبعه الانجراف 2/ذم أهل التفرق والشقاق 3/خطورة الانتماء إلى الجماعات والفرق 4/ التحذير من الغلو استحلال الدماء 5/أهمية تطبيق الحدود الشرعية 6/وسائل علاج الغلو وآليات الحد منه.

اقتباس

فكر الغلو والتطرف يبدأ بعواطف جياشة وغيرة ملتهبة، وينتهي بأفعال منكرة وتصرفات مرفوضة، يبدأ بالتفكير وينتهي بالتفجير والتكفير. وحينما غفلنا وتساهلنا في البدايات تفرّد الذئاب بالنفوس البريئة والعقول الطاهرة فتسلل إليها من بوابة الغيرة والحمية للدين مستغلاً ضعف الإيمان واليقين وقلة العلم وغلبة الجهل والهوى فكان ما كان...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

الحمد لله ذي العزة والكبرياء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يبتلي بالسراء والضراء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الرسل وصفوة الأنبياء، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء وسلم تسليمًا.

 

أما بعد: فيا أمة الإسلام، أوصيكم ونفسي بوصية الله للعالمين، أن اتقوا الله.

 

حينما يغيب العلم المؤصّل أو يُغيَّب، حينما تُبْنَى المواقف على عواطف، والعواطف عواصف مالم تُلْجَم بلجام الإيمان والورع والتقوى، حينما تتجرد الغيرة من الحكمة والعقل، حينما تصبح الفتوى جدارًا قصيرًا ومرتقًى سهلاً يَصعده سفهاء الأحلام وحدثاء الأسنان، حينما يغفل الرقيب، وسراق العقول يعملون، حينما يكون الولاء للوطن والقبيلة والجماعة وليس للدين، حينما يُبْنَى الولاء على المصالح الشخصية والمطامع الدنيوية فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون.

 

حينها لا تعجب أن ينشأ الانحراف ويتبعه الانجراف، وتنشأ الجماعات والأحزاب، ولو بُنِيَتْ على شفا جرف هار، فنشأ التكفير بغير علم، وكثُر القتل بظلم، وسُفكت دماء واستُبيحت أعراض، وقُتِلَ أبرياء، وأُوذِيَ المؤمنون والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، وأنَّى لمجتمع أن يعيش سعيدًا وقد ابتعد عن الأمن كثيرًا؟!

 

لقد شنع الإسلام على أهل التفرق والشقاق، ونهى عن اتباع غير سبيل المؤمنين، (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[النساء:15]، وحذر من التحزُّب والانتماء لغير جماعة المسلمين (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)[الأنعام:159].

 

لقد بينت الشريعة، وكشف الواقع خطورة الانتماء إلى الجماعات والفرق، ولو حملت شعارات برَّاقة، وتسمَّت بأسماء جذابة، فكيف إذا كانت هذه الجماعات توالي أعداء الله وأعداء رسوله وزوجاته وصحابته من عملاء المجوس وأذناب الصفوية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ)[الممتحنة: 1].

 

إنَّ الانتماء إلى جماعات منحرفة بمصادرها وأقوالها وأفعالها ومواقفها ومبادئها لا يُثمر إلا تفرقًا للشمل وإيقاعًا للعداوة والبغضاء بين المؤمنين، وإخلالاً بالأمن، وتمزيقًا للصف، وإزهاقًا لأرواح بريئة، وإهدارًا لطاقات وقُدُرات كان يمكن أن تكون سبيلاً للبناء والنماء، ونشر الخير للغير.

 

حينما يبتعد الناس عن التدين الصحيح، وعن مصادر العلم المؤصل، وحينما يتجردون من الورع والخوف من الله، حينها استُرخصت الدماء وهان قتل المسلم، وشريعة الله تعلن (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)[المائدة:32].

 

وتشدّد في الجزاء (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النساء:93]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل امرئ مسلم"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال المسلم في فُسحة من دينه ما لم يُصِب دمًا حرامًا".

 

وغلّظ -صلى الله عليه وسلم- من حرمة المسلم، فجعل سبابه فسوقًا وقتاله كفرًا. بل جعل من مجرد إشارة المسلم إلى أخيه المسلم بالسلاح موجبًا للعنة الملائكة له؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، وإن كان أخاه لأبيه وأمه".

 

فكيف وصل الأمر ببعض الناس إلى استرخاص دماء المسلمين وانتهاك حرماتهم وترويع الآمنين، وسفك دماء المعصومين؟!، ولكن صدق الله (وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)[المائدة:41]، ولا بد أن نُدرك بحكم تجارب الزمن ومعطيات أحداث التأريخ أن الانحراف خطوات؛ فإذا استُهين بالخطوة الأولى أثمر خطوات نهايتها الزيغ والضلال.

 

كما أن التطرف العلماني يبدأ بخطوات يسيرة فهو يُقدّم دعوته أولاً بغلاف من الحق يُراد به الباطل، ويتدرج إلى أن يصل إلى الدعوة إلى الكفر والفسوق والعصيان (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)[النساء:27]؛ فهو يبدأ بفكر وينتهي بكفر، فكذلك فكر الغلو والتطرف يبدأ بعواطف جياشة وغيرة ملتهبة، وينتهي بأفعال منكرة وتصرفات مرفوضة، يبدأ بالتفكير وينتهي بالتفجير والتكفير.

 

وحينما غفلنا وتساهلنا في البدايات تفرّد الذئاب بالنفوس البريئة والعقول الطاهرة فتسلل إليها من بوابة الغيرة والحمية للدين مستغلاً ضعف الإيمان واليقين وقلة العلم وغلبة الجهل والهوى فكان ما كان من صور أليمة محزنة، فيا من عُوفِيَ ولم يُكْلَم، ولم يبتلَّ؛ سَل الله العافية، وكن عينًا راعية وأذنًا واعية لأبنائك؛ ليكونوا لكم حصنًا قبل أن تقع فاجعة أخرى.

 

نسأل الله أن يهدي شبابنا، وأن يصلح نياتنا وذرياتنا، وأن يرزقنا العلم والهدى، وأن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه..

 

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: إن ما يحدث من هذه الأحداث المؤلمة لا يُعالَج إلا على ضوء العلاج الرباني والتشريع الإلهي، وبدون ذلك فإنما نزيد النار احتراقًا، ونزيد الصف انشقاقًا.

 

علاج هذا المنكر أن يتذكر الجميع مراقبة الله -عز وجل-، وأن يستشعروا وقوفهم بين يدي الله وسؤالهم عن مثاقيل الذر (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء:47]، وأن يتذكر الجميع عِظَم وحرمة الدماء المسلمة، وأن يستشعروا كرامة المسلم عند الله، وأن دمه لا يَحِلّ إلا بما شرع الله.

 

وعلاج هذا المنكر أن نُوصِد الأبواب، وأن نُغْلِق الطريق أمام شبهات أصحاب هذا الفكر؛ وذلك بالعمل على إزالة المنكرات وإعزاز الحق وأهله وقمع الباطل ودعاته.

 

وإن علاج هذا المنكر يكون بنشر التدين الصحيح، وتعميق مفهوم الوسطية الحقة، والتي تعني أخذ أحكام الشريعة بلا غلوّ ولا جفاء، ولا تعني التمييع وتضييع الدين تحت مسمى التسامح والوسطية.

 

وإن علاج هذا المنكر باتحاد الكلمة والائتلاف مع الرعاة والدعاة، والتناصح والتواصي بالحق، فالدين النصيحة، وهي لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم.

 

يجب ربط الشباب بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فهو الأسوة والرسول القدوة، محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ وذلك بتعليمهم سيرته ومسيرته، وكيف كان يتعامل مع الناس، وكيف كانت مواقفه في الأزمات والأحداث.

 

وأخيرًا: بَشِّر القاتل بالقتل ولو بعد حين (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)[البقرة:179]، والحدود الشرعية تَحُدّ من الفساد، وهي السبيل لتطهير المذنبين وتأمين الخائفين،  وما استُجلب الأمن والرخاء، واستُدفع الخوف والجوع والعناء بمثل إقامة شرع الله وتنفيذ حدوده، وبقدر التقصير يحصل الخلل (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الأنفال: 53].

 

وحدود الله يجب أن تُقام على كل عابث ومعتدٍ أثيم أيًّا كان فكره ومذهبه، و"لَحَدّ يُقام في الأرض خير للناس من أن يُمْطَروا أربعين صباحًا"، وإن الله لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين.

 

أجْمِلْ بشباب الأمة أن يكون حكيمًا متعقلاً مدركًا للمصالح والمفاسد، عالمًا بالطريق الأمثل للإصلاح، آتيًا البيوت من أبوابها، وليكن لنا في غيرنا عبرة بدلاً من أن نكون عبرة لغيرنا، والحكيم من بدأ من حيث انتهى الآخرون لا من حيث بدأوا.

 

أنتم أكبر من أن تكونوا وقودًا لفتنة أشعلها مَن لا يرقبون فيكم إلَّا ولا ذمة، يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم، والحكم النبوي "لا يُلْدَغ المؤمن من جحر مرتين"؛ فكيف يرضى شبابنا أن يُلْدَغوا مرات وكرات؟!

 

وحينما تَصْدُق النوايا، ويتزمل الناس بلباس الخوف من الله ومراقبته، وحينما تحيا بيننا حقوق الإنسان المسلم، ويتحمل كلّ فرد مسؤوليته تجاه إخوانه. وحينما نشعر بكرامة المسلم وحرمته عند الله، وحينما نتدرّع بالعلم الشرعي ونتسلّح بالصبر والحكمة، وحينما نجعل من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته لنا أسوة وقدوة في التعامل مع الأحداث والأزمات؛ حينها تنجلي -بإذن الله- الغُمّة، وتنكشف الفتنة، ويرحم الله الأمة؛ إن الله بعباده لطيف خبير.

 

اللهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

المرفقات
4NXb2m2JmoJfkGnMqtdZjR3VIKkpi6pT99gt5r6E.pdf
KZdrqmlemAFdDEdAWsQSIiNUBqOOnOQnf67Jftnt.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life