عناصر الخطبة
1/ لماذا نصاب بالسآمة والملل ؟ 2/واقعنا وداء الملل 3/صور من الملل: الملل في طلب العلم, الملل في الدعوة والنصيحة, الملل من تحقق النصر, الملل واليأس من رحمة الله 4/وصية بطرد اليأس والمللاقتباس
إن الطبع ملول، والنفس تتململ وتتقلب، ولابد من طرد اليأس والملل بالتعاون، والتنظيم، وعدم الاستعجال، فإن الاستعجال والقفز السريع يؤدي بالإنسان إلى الكلل واليأس ثم الاحتراق، فحينما يريد أن يصل إلى هدفه بأقصى سرعة، ويقفز بعجلة إلى آخر مرحلة، فإن وصل وصل منهكاً متعباً، وإن لم يصل يئس ومل وانتكص على عقبيه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين على أمور الدنيا والدين، ونشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين، حثنا على الجد والعمل، ونهانا عن السآمة والملل، وأخبرنا أن الله لا يمل حتى نمل، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: روت أم المؤمنينعَائِشَةَ رضي الله عنها- قالت: " كَانَ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَصِيرٌ، وَكَانَ يُحَجِّرُهُ مِنَ اللَّيْلِ فَيُصَلِّي فِيهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ، فَثَابُوا ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّ. وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا أَثْبَتُوهُ" [ البخاري (5861) مسلم (782) ].
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- ينهانا في هذا الحديث الشريف عن إجهاد النفس وتحميلها فوق طاقتها، أو تشغيلها فوق قدرتها، حتى لا تصاب بالسآمة والملل، فإن الله لا يمل حتى نمل، فإذا سئمنا ومللنا تلاشت عزيمتنا وذهبت همتنا وتخلى الله عنا، فيصيبنا التقاعس والفتور فنفتر ونتكاسل، ولكن إذا ضبطنا أمورنا، وبرمجنا أنفسنا، وأعطينا كل ذي حق حقه، فإننا لن نصاب بداء السآمة والملل، فهؤلاء أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرادوا الاقتداء الكامل برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حيث كان له حصير يبسطه في الليل والنهار فيجعله مثل الحجرة فيصلي فيه، فاجتمع الناس ذات ليلة وكثر عددهم كلهم يريد أن يصلي صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا شك أن الله قد أعطى لرسوله -عليه الصلاة والسلام- همة وقدرة على أداء العبادات ليست كهمتنا وقدرتنا، فلما رآهم النبي -صلى الله عليه وسلم- مجتمعين حوله قال لهم: "أَيُّهَا النَّاسُ: عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّ".
وهنا تظهر الرحمة النبوية والشفقة المحمدية بأمته -صلى الله عليه وسلم-، فهو لا يريد من أمته أن تتكلف أموراً فوق طاقتها، أو تُجهد نفسها أكثر مما تطيق، فصرح لهم بالعمل بما يطيقون، وأشار عليهم بالمحافظة والاستمرار على العمل حتى لو كان قليلاً، فإن القليل المستمر أحب إلى الله من الكثير المنقطع، لأن الإنسان ملول، وإذا أكثر من شيء ما فإنه في النهاية يمل منه، وينقطع عنه، وربما يتركه تركاً كلياً فلا يؤديه بعد أدائه تلك المرة التي أكثر فيها، ولذلك قال: "فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا"، يقول الله -تبارك وتعالى-: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة : 286].
ثم تبين أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- أن منهج الثبات والاستمرار على العمل وعدم الملل منه منهج عام وشامل، ليس للرسول -صلى الله عليه وسلم- وحده وإنما هو منهج لآل محمد، حيث كانوا يثبتون على أعمالهم ويحافظون عليها، ولا يكلون ولا يملون منها، ولن يتحقق هذا إلا بترتيب الأعمال، وتنظيم الوقت، فكأن الحديث في النهاية يدعونا إلى هذا، تقول عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قُلْتُ: فُلاَنَةُ لاَ تَنَامُ بِاللَّيْلِ، فَذُكِرَ مِنْ صَلاَتِهَا، فَقَالَ: مَهْ عَلَيْكُمْ مَا تُطِيقُونَ مِنَ الأَعْمَالِ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا" [البخاري (1151) ].
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يوافق على فعلها هذا فقال: "مه"، وهو فعل أمر بمعنى أكففي، أمر للمرأة بأن تكف عن هذا وتنتهي عنه، وتلزم من الأعمال ما تستطيعه دون مشقة، لأنها بتركها للنوم في الليل تكون قد شقت على نفسها، وأرهقت جسدها، ولم تنظم وقتها والتزاماتها، وعرّضت نفسها للسآمة والملل الذي يتعرض له الشخص عندما يكثر من مزاولة الشيء ويفرط في فعله، فالواجب عليه إذا فتر أن يقعد، ولا ينبغي للعبد أن يعبد الله بفتور وملل، لأن من عبده بفتور وملل فتر نشاطه وقلَّ ثوابه، ومتى انقطع عن العمل بسبب الملل انقطع الثواب أيضاً، فينبغي له أن يعمل العبادة على وجه مقتصد، بلا غلو ولا تفريط، حتى يتمكن من الاستمرار عليها.
يقول الله -سبحانه وتعالى- وهو يذم المنافقين الذين يعبدون الله بكسل وتثاقل وملل: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء:142]، لا يقومون للعبادة بهمة وجد ونشاط وإنما يقومون لها بملل وكسل فذمهم الله وحذر منهم فإيانا والملل.
إن نبينا -صلوات ربي وسلامه عليه- يريد أن يعلمنا الصبر، ويربينا على المثابرة والاستمرارية على الأعمال، وأن يكون نَفسُنا طويلاً، وهمتنا عالية، فلا نكل من البداية، ولا نمل من أي عارض يعترضنا حتى لو كان بسيطاً تافهاً، فإن من أكبر أسباب النجاح وأعظم عوامل الفلاح الاستمرار وعدم اليأس والملل، وما نجح الناجحون سواء كانوا أفراداً أو جماعات إلا بالصبر والمثابرة وعدم اليأس، ويوم أصابنا الملل وكثر فينا العجز والكسل كثر فينا الإخفاق والفشل، وصرنا كثيراً ما نفشل ونخفق في كثير من أعمالنا ومشاريعنا، ومن مل ملّ الله منه، يقول جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما-: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى رَجُلٍ يُصَلِّي عَلَى صَخْرَةٍ، فَأَتَى نَاحِيَةَ مَكَّةَ، فَمَكَثَ مَلِيًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَوَجَدَ الرَّجُلَ يُصَلِّي عَلَى حَالِهِ، فَقَامَ فَجَمَعَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ ثَلَاثًا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا" [ابن ماجة (4241) ].
فهذا الرجل أجهد نفسه كثيراً، وبقي يصلي وقتاً طويلاً، فخاف النبي -عليه الصلاة والسلام- عليه السآمة والملل من العبادة، كما هو حال بعض الناس يلتزم فيحرص على أداء كل عبادة، ويسعى للمساهمة في كل مشروع، ويحضر كل محاضرة، ثم يمل في وقت من الأوقات، ويأتي يوم يدعى فيه إلى خير كبير، أو مشروع نافع، أو محاضرة هامة، فيقول: هذا معروف ومكرر ومللنا منه نريد الجديد، وربما والعياذ بالله انتكس وعاد إلى جاهليته الأولى، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، وَالقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا" [البخاري (6463) ] والمعنى الزموا الوسط المعتدل في أموركم كلها، حتى تبلغوا قصدكم وتنالوا بغيتكم.
أيها الناس: إن الطبع ملول، والنفس تتململ وتتقلب، ولابد من طرد اليأس والملل بالتعاون، والتنظيم، وعدم الاستعجال، فإن الاستعجال والقفز السريع يؤدي بالإنسان إلى الكلل واليأس ثم الاحتراق، فحينما يريد أن يصل إلى هدفه بأقصى سرعة، ويقفز بعجلة إلى آخر مرحلة، فإن وصل وصل منهكاً متعباً، وإن لم يصل يئس ومل وانتكص على عقبيه، وهذا ما يريده منا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن نحذره أفقال ثلاث مرات: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ ثَلَاثًا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا".
فكم من رجل بدأ في عمل أو افتتح مشروعاً سواء كان دينيا أو دنيويا، وما هي إلا فترة وجيزة حتى أصابه الملل فأنهى مشروعه وأغلق أبوابه وغيّر وجهته، ولو صبر وصابر وطرد اليأس والقنوط والملل لنجح وتوفق، ولكنه مل فمل الله منه ولم يوفقه ولم يبارك له في عمله ومشروعه، ثم إذا به يبدأ من جديد ويفتتح مشروعاً جديداً، وما إن يخطوا خطوات يسيره حتى يصيبه ما أصابه في المرة الأولى وهكذا دواليك، ولو أنه أخذ بوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "القصد القصد تبلغوا"، "وخذو من الأعمال ما تطيقون"، "وإن الله لا يمل حتى تملوا"، لما أصابه هذا كله، ولما وقع في هذه الأخطاء والإخفاقات كلها، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) [النحل : 92].
هذا الصحابي الجليل عمرو بن العاص -رضي الله عنه- يعلمنا التؤدة والصبر، وترك اليأس والملل، فيقول عندما كان أميراً على مصر، وقد ركب بغلةً قد شمط وجهها، واجتاز بها منازل أمراء الصحابة وكبار القادة في معسكر المسلمين، فقال له أحدهم: أتركب هذه البغلة وأنت من أقدر الناس على امتطاء أكرم فرس بمصر؟ فقال: "لا ملل عندي لدابتي ما حملت رحلي، ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سري، فإن الملل من كواذب الأخلاق" [الكامل في اللغة والأدب(1/211)].
هذا هو واقع كثير من الناس اليوم، سريع الملل، كثير التقلب، قلما يثبت على شيء أو يستمر فيه، يعيش دائماً في تلون وتناقض واضطراب، فأعماله تتغير، وسيارته تتغير، وأصدقائه يتجددون، وربما يمل حتى من زوجته فكثيراً ما يفكر في طلاقها واستبدالها، أما داهية العرب عمرو بن العاص -رضي الله عنه- فيقول: "لا ملل عندي لدابتي ما حملت رحلي، ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سري، فإن الملل من كواذب الأخلاق"، وفي هذا يقول الله -سبحانه-: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران : 186].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
عباد الله: ومن صور الملل الذي أصاب كثيراً منا في واقعنا: الملل من العلم وطلبه، فكم في المجتمع من شباب خرجوا من الدراسة وتركوها وملوا منها، وبعضهم مستواه جيد وتحصيله العلمي ممتاز ولكن مشكلته الملل، فيرى أن المشوار طويل، والسنوات التي سيقضيها في الدراسة كثيرة، فيفكر في اختصار الطريق، فيبحث مباشرة عن عمل أو مهنة أو وظيفة فيلتحق بها ويترك الدراسة، وهذا في الحقيقة لوم ومذمة وخاصة في حق الطلاب الجيدين ومن كان مستواهم الدراسي جيدا، فلماذا الملل؟ ولماذا يثقل عليهم الجد والمثابرة وتصاب قلوبهم بالسآمة؟ حتى إن بعض الشباب يمل من مجرد أن يمسك الكتاب ويبدأ في القراءة فيه، فما هي إلا دقائق معدودة وإذا به يضع الكتاب ويترك القراءة وينشغل بأمور أخرى، والسبب هو الملل، والنهاية هي الفشل، ألا يعلم هؤلاء أن طلب العلم يحتاج إلى جد وهمة وصبر، فإن أسلافنا -رضي الله عنهم- طافوا مشارق الأرض ومغاربها من أجل حديث واحد أو حديثين.
إن الطالب إذا قّسم وقته، ورتب مهامه، وجعل لكل شيء حظه، لن يصيبه الملل، ولكنه حينما يستعجل النتائج، فيفكر في الوظيفة والعمل قبل أن ينتهي من الدراسة، أو يقوم بالضغط على نفسه كثيراً ويحمّل نفسه فوق ما تحتمل، فيشغل وقته كله مع الدراسة، ثم إذا به سرعان ما يتركها كلها، ويخرج منها بالكلية والله المستعان، فالصبر الصبر، والقصد القصد تبلغوا، ولن يمل الله حتى تملوا.
بعض الآباء ملّ من نصيحة أولاده وتذكيرهم، وتذمر منهم، ووصل إلى حالة اليأس والقنوط من صلاحهم، فترك لهم الحبل على الغارب، وتركهم يسرحون ويمرحون كما يشاءون، بحجة أنه لم يقدر عليهم، وأنه كلَّ ومل من نصحهم ووعظهم، وكان الأولى به أن يواصل نصحهم ولا يقطع عنهم النصيحة، وأن يجدد معهم الأسلوب والطريقة، ويستعين بآخرين في نصحهم والجلوس معهم، فلعل شخصاً آخر، أو أسلوبا آخر، أو طريقة أخرى، يكتب الله لهم بها الهداية والصلاح، فلماذا نكل ونمل؟ والله جل وعلا- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن 14: 16].
إن من المصائب أن تبتلى الأمة بالضجر والملل واليأس في كثير من الأشياء، حتى أن بعضنا استبعد نصر الله، وملّ من تحقيق وعده ووعيده، وظن بالله الظنونا والعياذ بالله، نظراً لما يرى في الواقع من كثرة مصائب المسلمين وشدة بلائهم في كثير من الأحايين، فيمل من الكلام في قضايا المسلمين، ويستبعد تحقق النصر ونزول الوعد بالاستخلاف والنصر والتمكين، وهذا ناتج بلا شك من ضعف اليقين: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) [الفتح : 12]، يقول خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ -رضي الله عنه-: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا لَهُ: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" [البخاري (3612) ] فيوم مللنا ويئسنا من تحقق النصر تأخر النصر، لأن الله لا يمل حتى نمل.
وبعضنا وصل به القنوط والملل أن ييأس من رحمة الله وعفوه ومغفرته، عندما يرى عظمة ذنوبه وكثرتها ييأس من رحمة الله، ويبقى على ذنوبه ولا يتوب منها من شدة اليأس والملل الذي أصابه، وينسى قول الله -سبحانه وتعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر : 53].
فأوصي نفسي وإياكم عباد الله بأن نملأ قلوبنا بالبشر والأمل، وطرد اليأس والملل، وليكن لنا من كل عمل صالح حظاً ونصيبا ولو يسيراً، فإن المهم ليس هو كثرة العمل ولكن الأهم هو الاستمرار على العمل والثبات عليه ولو كان قليلاً، فإن الله لا يمل حتى تملوا.
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى وخذ بناصيتنا للبر والتقوى.
اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَنسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَنسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا، وَنسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَنعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَنسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ.
اللهم إنا نعوذ بك من اليأس والملل، اللهم املأ قلوبنا بالسعادة والبشر والأمل.
التعليقات