عناصر الخطبة
1/نعيم مقيم أو عذاب أليم 2/شتان بين نعيم الجنة وجحيم النار 3/من صور نعيم أهل الجنة 4/نداءات أهل النار واستغاثاتهم 5/رسائل للراغبين في النجاة من عذاب النار.اقتباس
لقد تبيّن بجلاء فرق ما بين أهل السعادة وأهل الشقاء، فيا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم؟! حيث أغلقتَ الأبواب، وأرخيتَ الستور، واستترت عن الخلائق؛ فقارفت الفجور، وظننت أن يوم الفصل بعيد. وربك -يا غافل- ليس بظلام للعبيد. ورُبّ مسرور مغبون يأكل ويشرب ويضحك وقد حقّ له في كتاب الله أنه وقود النار. فيا ويلاً له روحًا، ويا ويلاً له جسدًا.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي يعلم السر وأخفى، خلق فسوى، وقدَّر فهدى، وعلى عرشه استوى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له كاشف الضر والبلوى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أزكى البرية وأكثرهم تقوى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربه واهتدى وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله.
وينتهي الفصل الأول من يوم الحشر بمدته الطويلة وأحداثه الجليلة.. بروائعه وروعاته.. بأهواله وزلزاله، وكرباته وحسابه، ومشاهده التي تحيل الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
بعدها يبدأ الفصل الأخير حيث نعيم مقيم أو عذاب أليم.. يبدأ بخطاب من الرحيم لمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ونصه (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[النحل:32]، وآخر لمن طغى وآثر الحياة الدنيا ونصه (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)[الزمر:72].
بعد يوم من الوقوف الطويل والحساب المهول يتوجه المؤمنون إلى جنة عرضها السموات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يدخلون قصورهم بلا دليل (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ)[محمد:6].
ويُساق الكفرة والمجرمون ومن شاء الله من عصاة المسلمين إلى نار وقودها الناس والحجارة بعيد قعرها شديد حرها، لا تُبقي ولا تذر؛ إذا رأت أهلها من مكان بعيد سمعوا لها تغيظًا ورفيرًا.. وحينئذ حلق في عالم الفريقين، وتذكر فرق ما بين النعيم والجحيم، واعمل بعدها ما شئت إن الله بما تعملون بصير.
قوم في الجنان لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، أدناهم منزلة من إذا تمنى وانقطعت به الأماني قال الله: "هو لك وعشرة أمثاله"، فيقول: "ما أعطى أحد مثل ما أعطيت".
إنها الجنة جزاء الصابرين (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا)[الإنسان:12-14].
وآخرون في نار وصفها المصطفى بقوله: "ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم"، وقال في وصفها: "إن أهون أهل النار عذابًا رجل في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا وإنه لأهونهم عذابا".
في الجنان قوم وجوههم ناعمة لسعيها راضية، وجوههم يبدو فيها النعيم ويفيض منها الرضا، وجوه تنعم بما تجد وتحمد ما عملت فوجدت عقبًا وخيرًا.
إنه النعيم من عطاء الله الكريم، وهم في الجنة أصحاب الدار يطلبون ما يشاؤون يدعون فيها بكل فاكهة آمنين، لا يتوقعون نهاية لهذا النعيم ولا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى.
وفي الطرف الآخر قوم يكابدون عذاب الله.. كلما نضجت جلودهم بُدِّلوا جلودًا غيرها، السعير المتأجج، الجلود الناضجة المشوية المعذبة كلما نضجت بُدِّلَت ليعود الاحتراق من جديد ويعود الألم من جديد، إنه مشهد مكروب ملهوف، مشهد أهل النار حين تكون النار ثيابهم وتسيل جلودهم ولحومهم (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)[الحج:19-22].
يا عبد الله: إذا هممت بالشهوات وفكرت بالمعاصي وبدأت الخطوات؛ فتذكر أي نعيم ستفقده وأي عذاب تتعرض له، كيف تفرّط في جنة فيها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، فيها فاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، قطوفها دانية، يطاف عليهم بآنية من فضة، وأكواب كانت قواريرا، عينا فيها تسمى سلسبيلا.
وكيف تعرّض نفسك لنار شرابها الحميم والغساق، وأهلها يسقون من ماء صديد، ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع. إنها نار الله تتلظى (كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى)[المعارج:15-17]، طعامهم الزقوم.. ولو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن يكون طعامهم؟!
وإذا عطشوا سُقوا ماء حميمًا فقطع أمعاءهم، (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)[الكهف:29].
إذا لبست ثوبًا فاجعل الآخرة همك، وتذكر قومًا في الجنان يلبسون ثيابًا خضرًا من سندس وإستبرق، ويحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤًا ولباسهم فيها حرير، وآخرين قطّعت لهم ثياب من نار يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد، سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار.
في الجنة يستمتع المؤمنون برؤية ربهم (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)[القيامة:22-23]، وما لها لا تتنظر وهي إلى ربها تنظر، إن الإنسان لينظر إلى شيء من صنع الله في الأرض فإذا السعادة تفيض من قلبه على ملامحه، فكيف بها حين تنظر إلى خالق الكون رب العالمين؟!
ما بال أناس قد حجبت قلوبهم المعاصي والآثام، حجبتها عن الإحساس بربها في الدنيا وطمستها حتى أظلمت وعميت في الحياة (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ)[المطففين:15-16].
لا يرون في النار إلا ما يكدّر خاطرهم، صور وألوان من العذاب .. لا يرون إلا الوجوه الكالحة من إبليس وجنوده، لا يسمعون إلا التقريع والتأنيب، لا يطرق مسامعهم إلا الصياح والنياح ودعوات الثبور، يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل .. نداءاتهم: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)[المؤمنون: 107]، والجواب (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)[المؤمنون: 107]. (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)، والجواب (إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)[الزخرف:77]، (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ)[غافر:49]، والجواب: (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)[غافر:50].
وها نحن أولاء نسمع صوتًا آتيًّا مِن قِبَل النار ملؤه الرجاء والاستجداء (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)[الأعراف:50]، هكذا يجيب أهل الجنة جوابًا ملؤه التذكير الأليم المرير، ثم إذا صوت البشر عامة يتوارى لينطق رب العزة والجلال وصاحب الحكم (الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)[الجاثية:34].
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
أما بعد: يا مسلمون: وأنقلكم مرة أخرى إلى الفريقين لتصوير حديثهم، ونقل حوارهم لتدرك الفرق بين من آمن وكفر، وبين من استقام وفجر.
عندما يساق المتقون إلى روضات الجنات تستقبلهم ملائكة الرحمن (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)[الزمر:73]، وحينما يستمرون في الجنان حيث الدور والقصور، وحيث الحور والحبور، وبعد عناء معركة الثبات في الدنيا سيأتي يوم الترحيب المهيب: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)[الرعد:24].
وتأتي البشارة: "إن لكم أن تنعموا فلا تباسوا أبدًا، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا".
وهناك في الجنة لا فضول في الحديث ولا ضجة ولا جدال، إنما يسمع فيها صوت واحد يناسب هذا الجو الرضي صوت السلام (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)[مريم:62]، الجو سكون وهدوء يغمره السلام والاطمئنان والود والرضى والنجاء والسمر بين الأحباء والأولياء، يزور بعضهم بعضًا، ويجتمعون ويتحدثون، ويذكرون ما كان منهم في الدنيا لا غل ولا أحقاد (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)[الأعراف:43].
حياة مصونة من اللغو ومن التكذيب الذي يصاحبه الجدل فهي حالة من الرفعة والمتعة تليق بدار الخلود (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا)[النبأ:35]، (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[يونس:10].
أذلك خيرٌ نزلاً أم دار يتلاعن أهلها، ويتبرأ بعضهم من بعض، ويكفر بعضهم ببعض، (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)[ص:64]، (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)[البقرة:166-167].
لو يرون إذ تبرأ المتبوعون من التابعين، ورأوا العذاب؛ فتقطعت بينهم الأواصر والعلاقات والأسباب، وانشغل كل بنفسه تابعًا كان أم متبوعًا، وسقطت الرياسات والقيادات التي كان المخدوعون يتبعونها، وعجزت عن وقاية نفسها، فضلاً عن وقاية تابعيها.
إنه مشهد مؤثر، مشهد التبرؤ والتعادي والتخاصم بين التابعين والمتبوعين، بين المحبين والمحبوبين (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزخرف:67].
يقف فيهم الشيطان خطيبًا (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[إبراهيم:22]؛ فأعظم بهذا العذاب من عذاب!!
وبعد هذا البيان من كتاب ربنا، هل آن الأوان لنا أن نعد لهذا الموقف العظيم عُدّته، ونعمل جاهدين على الخلاص من صفات أهل هذه المواقف المخزية، بأن نخلص عبادتنا لله وحده، ونجرد متابعتنا للرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونحذر من كل ناعق ملبس خائن ماكر في الليل والنهار.
أما آن الأوان للمرأة المسلمة في زماننا اليوم أن تنتبه لهذه المواقف فتتبرأ في دنياها اليوم من كل ناعق باسم الحرية والتمدن؛ حتى لا تحقّ عليها الحسرة الكبرى غدًا عندما يتبرأ منها شياطين الإنس والجن.
أما آن لمن أعطوا قيادهم لأهل الفساد وجلساء السوء أن ينتهوا ما داموا في زمن الإمكان،
لقد تبيّن بجلاء فرق ما بين أهل السعادة وأهل الشقاء، فيا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم؟! حيث أغلقتَ الأبواب، وأرخيتَ الستور، واستترت عن الخلائق؛ فقارفت الفجور، وظننت أن يوم الفصل بعيد. وربك -يا غافل- ليس بظلام للعبيد.
ورب مسرور مغبون يأكل ويشرب ويضحك وقد حقّ له في كتاب الله أنه وقود النار. فيا ويلاً له روحًا، ويا ويلاً له جسدًا.
اللهم أجرنا من النار، واجعلنا من أهل الجنة دار القرار، ووفّقنا لكل عمل ينجي من عذابك ويدخلنا في رحابك.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله أجمعين.
التعليقات