لا تظهر الشماتة بأخيك

خالد بن عبدالله الشايع

2022-12-28 - 1444/06/04
التصنيفات الفرعية: الأخلاق المحمودة
عناصر الخطبة
1/فضائل حسن الخلق 2/ذم الشماتة بالآخرين 3/الواجب على العبد عند رؤية أهل الابتلاء 4/عواقب الشماتة بالآخرين 5/ستر عيوب الناس.

اقتباس

إن الشماتة من الخَلْق، ليست من صفات المؤمنين، بل هي من صفات المنافقين كما ذكر الله ذلك عنهم في القرآن، والشامت آثِم، ومعرَّض للوقوع فيما شمت منه؛ لأن الواجب على العبد إذا رأى مبتلى في دينه أو دنياه أو نفسه، أن يحمد الله على العافية، ويسأل لهم الشفاء والهداية....

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

أما بعد فيا أيها الناس: المؤمن في هذ الحياة مُعرَّض للأمراض والابتلاءات، وقد يمر به أيام يعافيه الله فيها من ذلك، فالدنيا أحوال، وكل حال منهما يحتاج إلى شكر وصبر.

 

ولربما اعترضك في حياتك أشخاص ابتلاهم الله بشيء من الأمراض أو العاهات أو الفشل، فاحذر أن تشمت بهم، فليس هذا بخُلُق المسلم.

 

فالمسلم يتجمّل بحُسن الخلق، وأن يكون قدوته في ذلك رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- الذي كان أحسن الناس خُلقًا، وكان خُلقه القرآن، وبحسن الخلق يبلغ المسلم أعلى الدرجات، وأرفع المنازل، ويكسب محبة الله ورسوله والمؤمنين، ويفوز برضا الله -سبحانه- وبدخول الجنة.

 

عباد الله: إن الشماتة من الخَلْق، ليست من صفات المؤمنين، بل هي من صفات المنافقين كما ذكر الله ذلك عنهم في القرآن، والشامت آثِم، ومعرَّض للوقوع فيما شمت منه؛ لأن الواجب على العبد إذا رأى مبتلى في دينه أو دنياه أو نفسه، أن يحمد الله على العافية، ويسأل لهم الشفاء والهداية، وفي الحديث ولا يصح سندًا "لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك".

 

وفي تعيير الناس أذية لهم، وقد قال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[الأحزاب:85]، وأخرج البخاري في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستعيذ بالله منها، ويقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوَذُ بِكَ مِنْ سُوءِ الْقَضَاءِ، وَدَرْكِ الشَّقَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ"؛ فدل على أن الشماتة لا تصدر إلا من عدو.

 

والواقع شاهد بأن من عَير أخاه بشيء مما يكره من ذنب أو غيره يوشك أن يقع هو في ذلك الذنب أو المكروه، قال عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود: "لَوْ سَخِرْتُ مِنْ كَلْب، لَخَشِيتُ أَنْ أَحُورَ كَلْبًا".

 

وقال ابن القيم في مدارج السالكين عند قول الهروي: "وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ عَيَّرْتَ بِهَا أَخَاكَ فَهِيَ إِلَيْكَ. يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ: أَنَّهَا صَائِرَةٌ إِلَيْكَ وَلَا بُدَّ أَنْ تَعْمَلَهَا، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ". انتهى.

 

واعلموا -عباد الله- أن الشماتة لا تكون إلا نتيجة حسد أو اغترار بالنفس واحتقار للآخرين؛ لذلك قال بعض أهل العلم: "والحسد والشماتة متلازمان".

 

 وهناك آفة أخرى يجب التنزه منها والحذر منها، وهي السخرية والتعيير، قال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ  * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات: 10-11].

 

ولقد نصح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد الصحابة -رضي الله عنهم- بألَّا يُعيِّرَ أحدًا، ولو كان المقابل هو البادئ بذلك؛ فقد أخرج أبو داود والترمذي من حديث جابر بن سليم -رضي الله عنه- قال: "رَأَيْتُ رَجُلاً يَصْدُرُ النَّاسُ عَنْ رَأْيِهِ، لَا يَقُولُ شَيْئًا إِلَّا صَدَرُوا عَنْهُ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَرَّتَيْنِ، قَالَ: "لَا تَقُلْ: عَلَيْكَ السَّلَامُ، فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ، قُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكَ"، قَالَ: قُلْتُ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَنَا رَسُولُ اللَّهِ الَّذِي إِذَا أَصَابَكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ، كَشَفَهُ عَنْكَ، وَإِنْ أَصَابَكَ عَامُ سَنَةٍ فَدَعَوْتَهُ، أَنْبَتَهَا لَكَ، وَإِذَا كُنْتَ بِأَرْضٍ قَفْرَاءَ -أَوْ فَلَاةٍ- فَضَلَّتْ رَاحِلَتُكَ فَدَعَوْتَهُ، رَدَّهَا عَلَيْكَ.

 

قَالَ: قُلْتُ: اعْهَدْ إِلَيَّ، قَالَ: "لَا تَسُبَّنَّ أَحَدًا"، قَالَ: فَمَا سَبَبْتُ بَعْدَهُ حُرًّا، وَلَا عَبْدًا، وَلَا بَعِيرًا، وَلَا شَاةً، قَالَ: "وَلَا تَحْقِرَنَّ شَيْئًا مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَأَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَأَنْتَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَجْهُكَ، إِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَارْفَعْ إِزَارَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ، فَإِنَّهَا مِنَ المَخِيلَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ، وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ وَعَيَّرَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ، فَلَا تُعَيِّرْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ؛ فَإِنَّمَا وَبَالُ ذَلِكَ عَلَيْهِ".  

 

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت... أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد فيا أيها الناس: فالشماتة من الناس دَيْن سريع ردّه عليك، أخرج الترمذي في سننه من حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- المِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ".

 

 فلا تُعيِّر أحدًا على ذنب ارتكبه؛ لأنك لا تأمن أن تقع فيما وقع فيه، ولا تعيِّره على نسبه وأصله؛ فإن ذلك من أمر الجاهلية وقد يُذلُّك الله.

 

وكذلك كان السلف يتجنبون الشماتة بأحد؛ خشية أن يبتليَهم الله -تعالى- بما شمتوا به.  قال البغوي: "وقال إبراهيم: إِنِّي لأرى الشَّيْء، فأكره أَن أعيبه؛ مَخَافَة أَن أُبتلى بِهِ" (شرح السنة: 13/141).

 

 وقال أحدهم: "قد عِبتُ شخصًا قد ذهب بعض أسنانه، فانتثرت أسناني". وورد عن ابن سيرين -رحمه الله تعالى- أنه عيَّر رجلاً بالإفلاس فأفلس بعد ثلاثين سنة.

 

 وقال ابن رجب -نقلاً عن بعض السلف-: "أدركتُ قومًا لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس؛ فذكر الناسُ لهم عيوبًا، وأدركتُ أقوامًا كانت لهم عيوبٌ فكفُّوا عن عيوب الناس؛ فنُسيت عيوبهم"(جامع العلوم: 2/ 291).

 

 فالسعادة كل السعادة أن يشتغل المرء بعيوب نفسه دون عيوب غيره، وأن يدعوَ الله –تعالى- ألَّا يُشْمِتَ به أحدًا، حيث أخرج الحاكم في مستدركه من حديث عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو قائلاً: "اللَّهُمَّ احْفَظنِي بالإِسْلاَمِ قائِمًا، واحْفَظْنِي بالإِسْلاَمِ قاعِدًا، واحْفَظنِي بالإِسْلاَمِ راقِدًا، وَلَا تُشْمِتْ بِي عَدُوًّا وَلَا حاسِدًا، اللَّهُمَّ إِنِّي أسْألُكَ مِنْ كُلِّ خَيْر خزائِنُهُ بِيَدِكَ، وأعُوذُ بِكَ مِنْ كُلِّ شَرَ خَزَائِنُهُ بِيَدِكَ".

 

 وقال -صلى الله عليه وسلم-: "وَلَا تُشْمِتْ بِي عَدُوًّا وَلَا حاسِدًا"؛ أي: لا تُنزِلْ بي بليَّة يفرح بها عدوي وحاسدي.

 

والشماتة تنِمُّ على احتقار مَن تشمت به، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ".

 

 والمرء يقبل التقويم ولا يقبل التعيير؛ لأن في الأول نصيحة وفي الثاني شماتة وفضيحة. فلا تعير عاصيًا أو تشمت به؛ لأنك لا تأمن أن تقع فيما وقع فيه، فلا يأمن كرَّاتِ القدر وسطوته إلا أهل الجهل. 

 

إنَّ أكثر ما ابتُلي به الناس في وقتنا المعاصر، هو ما يقوم به بعض ضعاف النفوس على صفحات الإنترنت في منتديات عديدة، مِن فَضْح ونَشْر لأسرار الناس، وكشف لمعايبهم، وإظهار الشماتة بهم، وتتبُّع سقطاتهم، سواءٌ أكان ذلك صحيحًا أم كذبًا، ولا شك أن من يقع في ذلك، فإن عقوبته أن يفضحه الله ولو بعد حين.

 

اللهم وفِّقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك....

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life