عناصر الخطبة
1/قصة وعبرة من السيرة النبوية 2/نظرة الإسلام لحقيقة الدنيا 3/وقفات مع فتنة المال 4/منهج الإسلام في جمع المال وإنفاقه 5/كثرة صور أكل المال بالباطل 6/وقفات مع الاحتفال بالمولد النبوي.اقتباس
إن المسلم الحق والذي يرجو الله ويخاف يومًا عبوسًا قمطريرًا، وهو يؤمن بنظرة الإسلام للمال، وأنه لا بد للمرء من اشتغال بشيء من الدنيا ليكفَّ بها نفسه عن سؤال الناس، وليساهم بماله في نصرة الدين ودعم معالم الخير والإصلاح، فإنه قبل ذلك لا ينسى أنه واقف بين يدي ربه، وسائله عن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله يعفو ويغفر وهو الغفور الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، إنه بكل شيء عليم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين فتحوا الدنيا وعرضت عليهم كنوزها فآثروا النعيم الأبدي المقيم، وسلم تسليماً.
أما بعد: فيا عباد الله! اتقوا ربكم، وكلوا من الطيبات واعملوا صالحًا إنه بما تعملون عليم.
حدث بعد صلاة الفجر.. في المسجد كان الإمام يصلي، وحينما فرغ من صلاته التفت فرأى مصلين ليسوا من جماعته فماذا فعل.. أما المسجد فمسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأما الإمام فالنبي الرحيم محمد بن عبدالله، حينما رآهم لم يتمعر وجهه، ولم يعلُ صوته، ولم يُغلظ في قوله، وإنما تبسم وعرف السبب؟
"لعلكم عرفتم أن أبا عبيدة قدم بمال من البحرين، فأبشروا وأمّلوا ما يسركم؛ فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسِطَت على مَن كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم".
إنه النبي الرحيم الذي يدرك حاجة النفس البشرية ويؤمن بالفطرة التي فطر الله الناس عليها.. وإنه الدين القويم دين التوازن والواقعية والشمولية؛ إنه دين ينظر إلى الدنيا باعتبارها مزرعة للآخرة، والعمل فيها وسيلة لا غاية. إنه دين لا ينكر على الناس حبهم للدنيا وتعلقهم بها ما لم تصرفهم عن الغاية التي خلقوا من أجلها.
إن منهج الإسلام منهج قويم (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ)[القصص:77].
إنه منهج يعلّق قلب واجد المال بالآخرة ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة بل يحضه على هذا كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها.
ومع كل هذا فيجب أن نعلم أن حب المال فتنة قل مَن يصبر عليها ويسلم من آفاتها؛ لأنها كثيراً ما تجاوز حدها وتطغى حتى تسيطر على قلب صاحبها (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)[التغابن:15].
إن حبّ المال إذا تحول مِن وسيلة إلى غاية، ودخل ذلك الحب إلى أعماق القلب فإنه سيضعف جذوة الإيمان ويخرج من قلب المؤمن ما كان يملأه من حبّ الله ورسوله ليحل محله حبّ الدنيا والتعلق بها، والحرص على شهواتها وأهوائها، حتى تفتر همة المرء عن الطاعات ويتقاعس في أدائها ولا يجد في قلبه محبة لها.
كم من إنسان كان محسوباً على أهل الخير والصلاح جرَفه حبّ المال فأصبح ممن يتأخر في الصلوات ويتكاسل في الجمع والجماعات، وينأى عن مجالس الوعظ والتذكير!! وكم من خيّر كان يتقد حماساً للدعوة والإصلاح، أصبح بعد كثرة المال بارد الهمة ضعيف الذمة، ساء مظهره بعد أن ساء مخبره!!
إن المسلم الحق والذي يرجو الله ويخاف يومًا عبوسًا قمطريرًا، وهو يؤمن بنظرة الإسلام للمال، وأنه لا بد للمرء من اشتغال بشيء من الدنيا ليكفَّ بها نفسه عن سؤال الناس، وليساهم بماله في نصرة الدين ودعم معالم الخير والإصلاح، فإنه قبل ذلك لا ينسى أنه واقف بين يدي ربه، وسائله عن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وقبل أن يجمع المال يقشعر قلبه وهو يسمع حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في "الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنَّى يُستجاب لذلك".
إنه يؤمن أن الربا إعلان للحرب من الله ورسوله، وأن الله يمحقه، وأن درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية، ولذا فإنه يتقي الشبهات ويتورع عما فيه شبهة ربا، ويتسامى على الحِيَل التي تُوصّل للربا؛ استبراءً لدينه وعِرْضه وطهرةً وزكاة لماله؛
إنه يمتثل أمر الله فلا يأكل إلا طيبًا (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)[النحل:114].
إنه يخاف الله فيما يكتسب ويتورع عما فيه شبهة حرام، فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام، قال عمر -رضي الله عنه-: "كنا ندع تسعة أعشار الحلال؛ مخافةَ أن نقع في الحرام".
المسلم يتقي الله في ماله، فلا يأكل أموال الناس بالباطل بالغصب أو بالنصب أو القوة والغلبة أو تحايلاً على القضاء؛ فإن قضاء القاضي لا يُحِلّ حرامًا ولا يُحِق باطلاً، ومن قضي له بالباطل فإن خصومته لم تنقضِ حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة.
المسلم الحق لا يكوّن ثروته من أكل أموال اليتامى وهو يعلم (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)[النساء:10]، ولا يجمع ماله بالغش والتدليس وهو يسمع حديث: "مَن غشَّ فليس منا"، ولا يدنس ماله بأخذ الرشوة وقد لُعِنَ أهلها والمتعاملون بها.
المسلم الصادق الأمين لا يكتسب ماله من التلاعب بأموال الناس بالمساهمات الصورية بثوبها البرّاق وحقيقتها الزائفة، والإثراء على حساب الضعفاء؛ فكم ضاعت بسبب ذلك من حقوق وامتلأت من سجون!
المسلم الأمين لا يبني ثروته من ديون لم يعزم على سدادها؛ فكم كانت هذه الدناءة سببًا في هموم المستدين، وقطعًا للمروءة والشهامة عند الدائنين.
المسلم الخائف من ربه لا يكتسب ماله من سرقة، وقد "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السارق يسرق البيضة فتقطع يده"؛ فكيف بما فوقها؟!، ولا يكتسب ماله من الاستيلاء على ميراث النساء والصغار والسفهاء ولا من مهور البنات والموليات، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه وباء بسخط من الله.
المسلم يتورع عن درهم من حرام؛ لأنه يوقن أن نهايته محق البركات وحلول الحسرات وفي الآخرة نار تلظى وفي الحديث "من نبت لحمه من سحتٍ؛ فالنار أَوْلَى به، وإن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق؛ فلهم النار يوم القيامة"، و"من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة"، فقيل يا رسول الله: "وإن كان شيئًا يسيرًا؟ فقال: "وإن كان قضيبًا من أراك".
المسلم الذي يتقي الله من ورائه زوجة صالحة وأهل بيت صالحون، تقول إحداهن لزوجها إذا خرج يطلب رزقًا: اتق الله فينا، ولا تطعمنا من حرام؛ فإننا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار.
وهكذا فإن المسلم الحق غايته لا تبرر الوسيلة، ونظرته أخروية لا مادية.. يبتغي من فضل الله؛ متزملاً بالخوف من عقاب الله، متسلحًا بالرضا والقناعة، مؤمنًا أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، موقنًا أن ما عند الله لا يُطلب بمعصيته.
رزقنا الله من فضله رزقًا طيبًا واسعًا، وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
إن المتأمل في عالم الناس اليوم يرى عالمًا سيطرت فيه المادة، فراحوا يجمعون الدنيا بكل طريق، ويستكثرون منها بأي سبيل، وتساهلوا في جمع الأموال، لا يبالي المرء ما أخذ أمن الحلال أم من الحرام، عالمًا غدت فيه كلمة "حرام"، أكثر كلمة تنفر منها الأسماع، وأصبح الحلال فيه هو كلّ ما حلّ في اليد، ولو كان حرامًا واضحًا لا شُبهة فيه، ويجد لنفسه مبرّرًا من واقعه أو واقع المجتمع من حوله، ويتعلّل بأنّه ليس وحده من يُواقع ذلك.
أكل الأموال الباطل يأتي بصور وأشكال، ومنها ما عم وانتشر من ظاهرة التستر التجاري، والتي من خلالها يتحايلون على الأنظمة المنظمة للتجارة والعمل، وينشرون في الأسواق عمالة وافدة بطرق فوضوية؛ حيث لا رقابة ولا محاسبة ولا متابعة، ومن خلال بعضها انتشر بيع المحرمات والممنوعات مع ما فيها من ظلم ومضايقة للعاملين بصورة نظامية.
وإن واجب الديانة ومن طاعة الله وطاعة رسوله وأولي الأمر أن يتجنّب المسلم مثل هذه الصور من المعاملات فلا ضرر ولا ضرار والعمل بشكل واضح ومنظم هو السبيل لتجارة رابحة وأمان من المسؤولية والعقوبات النظامية.
وإن من أشد صور أكل المال بالباطل ما كان باسم الدين والتلاعب بعواطف المسلمين كما يفعله دعاة البدع والمحدثات ممن اشتروا بآيات الله ثمنًا قليلاً، وأشغلوا المسلمين بالبدع عن السنة وبالضلالات عن الهدى، وأكلوا أموال الضعفاء باستغلال عاطفتهم الدينية وحبهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
في الثاني عشر من هذا الشهر ستكون بقاع من بلاد المسلمين على موعد مع رقص وطرب وأصوات وصخب وطبل وغناء وتبرج واختلاط بالنساء.. في ذلك اليوم توسلات شركية وطواف بالقبور وذبح ونذور.. فيه يبيت أناس يغلون في رسول الله ويصبحون على هجر منهجه وجفائه.
كل هذا تحت مسمى الاحتفال بالمولد النبوي!!. فيا للعجب كيف تصبح فيه محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيدةً عن دينه وهديه؟!، كم يحزن المسلم ويأسى وهو يرى هذه المهزلة والمسخرة يمارسها مسلمون في بقاع شتَّى وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
إن مَن يحيون هذه البدع إما جهلة مقلدون شعارهم (إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ)[الزخرف:22]، وإما مرتزقة فساق يجنون من وراء هذه البدع أموالاً وكنوزًا، وإما ضُلّال مغرضون يريدون الدسّ على الإسلام وصرف الناس عن المنهج الحق وإشغالهم بالبدع.
لن نخوض مع هؤلاء التائهين غمار مناظرة لإبطال بدعتهم وبيان ضلالها، لكننا نسألهم فحسب: أأنتم أزكى وأبر أم أبو بكر وعمر؟ أأنتم أسبق إلى كل عمل رضيّ من عثمان وعلي؟ أأنتم أحرص على السنة من سلف هذه الأمة؟
فإن قلتم نحن خير وأتقى فذلك بهتان عظيم، وإن قلتم: إنهم أزكى وأنقى وأسبق إلى كل ما يبقى فلم لم يفعلوا فعلتكم ولم يمارسوا بدعتكم؟ أأنتم أشد حبًّا لرسول الله منهم؟ فما علامة حبكم؟ لقد قدم هؤلاء أرواحهم وبذلوا أموالهم وضحوا بأوطانهم وتركوا أهلهم وذرياتهم فداء لرسول الله؛ فماذا قدمتم أنتم لدين محمد -صلى الله عليه وسلم-.
أتدرون أن من ابتدع الموالد هم الدولة العبيدية الفاجرة المسماة زورًا بالدولة الفاطمية، والتي تحتفظ بسجل مخزٍ من العداوة للدين وقمع الصالحين.
وإن من يحييها ويشارك فيها اليوم قوم تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء، وعرف عنهم محاربة التدين وأهله ومظاهره وشعائره، وإن من كان يشارك فيها كفار محاربون كما كان يصنع نابليون حينما أمر بإقامة احتفال للمولد وحضره حتى نهايته.
عمل لم يأذن به الله، ولم يأمر به خير خلق الله، ولم يفعله المؤمنون العارفون بالله، وإنما هو ضلال ابتدعه أعداء الله ويشجّعه قوم مُعطّلون لشريعة الله محاربون لأولياء الله؛ فهل في مثل هذا العمل ما يقرب إلى الله؟ وهل ينتظر من المستنقعات الآسنة أن يخرج منها ريح طيبة؟!
ألا ما أجمل اتباع السنة والحياة في ظلالها..
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وأغننا بفضلك عمن سواك.
اللهم صَلِّ وسَلِّم ...
التعليقات