عناصر الخطبة
1/ طريقتا تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود 2/ أولاً: معاملتهم بالرفق 3/ ثانيًا: المعاملة بالشدة حال غدرهم 4/ أمثلة على الغزوات ضد اليهود 5/ التعامل في اليهود في الوقت المعاصراهداف الخطبة
اقتباس
يا للعجب!! أين إرسال القوات العسكرية لحماية المقدسات؟! أين الحصار الاقتصادي والحصار العسكري؟! أين شعارات الانسحاب بلا قيد وشرط؟! أين إجماعات هيئة الأمم ومجلس الأمن على إيقاع العقوبة؟! أين مؤتمر علماء المسلمين في مكة ضد الظلم والظالمين؟! أين كل هذا؟! ولماذا لم يحدث؟! الجواب: لأن الإسلام والمسجد الأقصى ليسا من الأهمية في شيء ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: نريد أن نعرف اليوم كيف عامل النبي -صلى الله عليه وسلم- اليهود؟! لقد عاملهم -صلى الله عليه وسلم- بنوعين من المعاملة، لكل منهما ظروفه ومجاله:
فالنوع الأول من المعاملة: معاملة بالرفق وحفظ دمائهم وأموالهم، وذلك ما داموا مسالمين خاضعين كرعايا في دولة الإسلام، تجري عليهم أحكامه.
والنوع الثاني من المعاملة: معاملة بالشدة والغزو والقتل وإهدار الدم والمال، وذلك ما داموا متمردين أو غير خاضعين لدولة الإسلام، أو محاربين للإسلام وأهله بالقول أو العمل؛ وسواء في داخل بلاد الإسلام أو خارجها.
ولكل ذلك أمثلته من سيرته -صلى الله عليه وسلم-: أما النوع الأول -وهو المعاملة برفق- فذلك كما في معاملته -صلى الله عليه وسلم- لليهود في أول الأمر، لما قدم المدينة، وأصبح حاكمها الأعلى، الآمر الناهي، وكانوا خاضعين لحكمه، فعاهدهم على ما لهم وما عليهم من حقوق كرعايا مسالمين مستسلمين، ولكن هذا انتهى بمجرد أن ظهر منهم الغدر.
أما مثال المعاملة بالشدة فمنها: غزو اليهود خارج بلاد الإسلام لإخضاعهم لدين الله، ومنها عقوبة اليهود في داخل بلاد الإسلام، لما ظهر منهم الغدر والخيانة.
فمن أمثلة غزوه -صلى الله عليه وسلم- لليهود خارج بلاد الإسلام: خروجه -صلى الله عليه وسلم- إلى يهود خيبر مباغتًا لهم لمحاصرتهم وفتح بلدهم، فروى البخاري -رحمه الله- عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى خيبر ليلاً -وكان إذا أتى قومًا بليل لم يقربهم حتى يصبح- فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم -والمساحي من آلات الحرث، والمكاتل جمع مكتل، وهو القفة الكبيرة التي يُحوَّل فيها التراب وغيره- وفي رواية لأحمد عن أبي طلحة: حتى إذا كان عند السحر -وذهب ذو الزرع إلى زرعه وذو الضرع إلى ضرعه- أغار عليهم. قال أنس رضي الله عنه: فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد والخميس -يعني الجيش- قالوا ذلك ذعرًا وجبنًا، ثم هرولوا هاربين ولجؤوا إلى الحصن.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذَرين"، فقتل النبي -صلى الله عليه وسلم- المقاتِلة -أي الرجال- وسبى الذرية -أي النساء والأولاد- وذلك بعد زمنٍ من الحصار. وحالة اليهود التي يصفها أنس رضي الله عنه هنا هي حالتهم دائمًا أمام جنود التوحيد المؤمنين: (لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) [الحشر: 13، 14].
أما عقابه -صلى الله عليه وسلم- وتأديبه لكل متمرد ومناوئ منهم في بلاد الإسلام فأمثلته كثيرة؛ فمن ذلك ما فعله بيهود بني قينقاع -وهم أول يهود نقضوا العهد بالمدينة- فأخرجهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بكرة أبيهم منها، ثم يهود بني النضير الذين نزلت فيهم سورة الحشر: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) [الحشر: 2]. روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر، قال: قل: سورة النضير.
وكان نقض العهد من بني النضير متمثلاً في الهمِّ بقتله -صلى الله عليه وسلم- حيث كان -صلى الله عليه وسلم- جالسًا إلى جانب جدار لهم، فخلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوه على مثل هذه الحال، ثم قالوا: مَنْ رجل يعلو على البيت فيلقي هذه الصخرة عليه فيقتله ويريحنا منه؟! فانتدب لذلك رجل، فأتاه -صلى الله عليه وسلم- الخبر من السماء، فقام، فنجاه الله. وكان عقاب بني النضير على ما هموا من الغدر أن سار إليهم -صلى الله عليه وسلم- ليحاربهم، فتحصنوا فحاصرهم، وقطع نخيلهم وحرقها، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فطلبوا أن يجلوا عن المدينة، فأخرجهم -صلى الله عليه وسلم- من المدينة على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم وأمتعتهم لا من السلاح، فاحتملوا حتى أبواب بيوتهم، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم، فيهدمونها ويحملون ما يوافقهم من خشبها، وكان جلاؤهم ذلك أول حشر الناس إلى الشام.
وأما بنو قريظة فإنهم حالفوا المشركين في القتال ضد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة الخندق، فأمر -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الخندق ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل عليه السلام فقال: قد وضعت السلاح!! والله ما وضعناه، فاخرج إليهم. قال -صلى الله عليه وسلم-: "فإلى أين؟"، قال: هاهنا. وأشار إلى قريظة، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم-. ويومها قال -صلى الله عليه وسلم- كما رواه البخاري أيضًا عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة". فأتاهم -صلى الله عليه وسلم- فنزلوا على حكمه، فردهم إلى حكم سعد بن معاذ -رضي الله عنه- سيد الأوس؛ لأن بني قريظة كانوا موالي الأوس، فحين يحكم سعد -رضي الله عنه- لا يكون في حكمه شبهة تحاملٍ عليهم، وهذا أيضًا دالٌّ على ثقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكبيرة في سعد، ويضاف إلى ذلك كما في بعض الروايات أن الأوس طلبوا أن يكون لهم رأي في بني قريظة، كما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سمع من عبد الله بن أُبيٍّ من الخزرج في شأن بني قينقاع، حيث لم يقتلهم -صلى الله عليه وسلم- واكتفى بإخراجهم من المدينة؛ ولذا قال -صلى الله عليه وسلم- للأوس كما في رواية ابن إسحاق: "ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟!"، قالوا: بلى. قال: "فذلك إلى سعد بن معاذ". وفي رواية عن جابر رضي الله عنه: فقال -صلى الله عليه وسلم-: احكم فيهم يا سعد". قال: الله ورسوله أحق بالحكم. قال -صلى الله عليه وسلم-: قد أمرك الله تعالى أن تحكم فيهم".
قالت عائشة رضي الله عنها -وذلك في رواية البخاري-: قال -أي سعد- فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى النساء والذرية، وأن تقسم الأموال. ولما حكم بهذا الحكم قال له -صلى الله عليه وسلم-: "لقد حكمت فيهم اليوم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سماوات". وكان المقتولون لا يقلون عن أربعمائة مقاتل.
ومن منهجه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع أفراد اليهود الذين أظهروا العداوة له -صلى الله عليه وسلم- والإسلام في بلاد المسلمين أن يعاقبهم بالقتل بلا استتابة، ومن ذلك قتل كعب بن الأشرف، وأبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق؛ ففي صحيح البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: من لكعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله؟!"، -وكان كعب شاعرًا وقد هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهجا المسلمين بعد وقعة بدر، وشبَّب بنسائهم- فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله: أتحب أن أقتله؟! قال صلى الله عليه وسلم: "نعم". قال: فأذن لي أن أقول شيئًا -يعني يوهم به كعبًا أنه لا يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال -صلى الله عليه وسلم-: "قل".
فذهب محمد بن مسلمة -رضي الله عنه- إلى كعب، وقال له: إن هذا الرجل -يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم- قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا -يعني أتعبنا- وإني قد أتيتك أستسلفك. فقال كعب: نعم، ارهنوني، قالوا: أي شيء تريد؟! قال: ارهنوني نساءكم. قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟! قال: فارهنوني أبناءكم. قالوا: كيف نرهنك أبناءنا فيُسَب أحدهم فيقال: رُهِنَ بوَسق أو وسقين -والوسق ستون صاعًا- هذا عار علينا، ولكنا نرهنك اللأمة -يعني السلاح-، فواعده أن يأتيه من الليل بالسلاح، وقد أمن ابن مسلمة -رضي الله عنه- بهذه الطريقة من شكوك كعب فيه إذا دخل بالسلاح.
فجاء محمد بن مسلمة من الليل ومعه رجلان وأخ لكعب من الرضاعة، وقال لهما: إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه، ونزل إليهم كعب بن الأشرف من حصنه، وقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟! فقال: إنما هو محمد بن مسلمة... إن الكريم لو دُعي إلى طعنة بليل لأجاب. فنزل إليهم متوشحًا وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال له محمد بن مسلمة -رضي الله عنه-: ما رأيت كاليوم ريحًا -أي أطيب- قال كعب: عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب. فقال أحد الرجلين مع ابن مسلمة لكعب: أتأذن لي أن أشم رأسك؟! قال: نعم.. فشمه، ثم أشمَّ أصحابه، ثم قال محمد بن مسلمة لكعب: أتأذن لي؟! قال: نعم. فلما استمكن منه قال: دونكم. وفي رواية أبي سعيد: اقتلوا عدو الله، فقتلوه، ثم أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبروه بتمام المهمة، فحمد الله تعالى.
أما قتل أبي رافع عبد الله بن أبي الحُقيق، فعند ابن إسحاق أن مما صنع الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن الأوس والخزرج كانا يتصاولان تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئًا إلا صنعت الخزرج مثله، وكذلك الأوس، فكانا يتنافسان في الخير وفي مرضاة الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فلما أصابت الأوس كعب بن الأشرف -حيث كان محمد بن مسلمة من الأوس- تذاكرت الخزرج: مَنْ رجل له من العداوة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما كان لكعب، فذكروا ابن أبي الحقيق، فاستأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتله فأذن لهم. وفي صحيح البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- بعث لقتله عبد الله بن عتيك في رهط معه، فتمكن عبد الله بن عتيك من قتله بعد مغامرة عجيبة.
وذلك أن أبا رافع كان يقيم في حصن في الحجاز ليس من السهل دخوله، فأتى عبد الله بن عتيك قريبًا من الباب عند الغروب حين يغلق الحصن، وتقنَّع بثوبه وتظاهر بأنه يقضي حاجة. فقال البواب: يا عبد الله: إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب. فدخل عبد الله فكمن، وتابع الحارس حتى أنهى غلق الأبواب وعلق الأغاليق -يعني المفاتيح- على وتد، فلما كان الليل وذهب من كان يسمر مع أبي رافع في أعالي الحصن عمد عبد الله إلى الأغاليق؛ لأنها يغلق بها ويفتح، فأخذها وأخذ يفتح أبواب الحصن بابًا بابًا، كلما فتح بابًا ودخل أغلقه وراءه، حتى انتهى إلى أبي رافع، فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله، لا يميزه أبو رافع، ولا يميز هو أبا رافع ولا يدري أين هو. فنادى فقال: أبا رافع، قال: من؟! فأهوى عبد الله نحو الصوت بالسيف وهو دهش، فلم يصبه في مقتل، وصاح أبو رافع، وخرج عبد الله. ولكن هل تفوت الفرصة هكذا؟!
فكَّر عبد الله سريعًا، فمكث غير بعيد، ثم دخل مرة أخرى كأنه رجل آخر من حراسه، وقال: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟! فتكلم الغبي -عدو الله- مرة أخرى، فقال: لأمك الويل، إن رجلاً في البيت ضربني قَبْلُ بالسيف. فأهوى عليه عبد الله على الفور بالسيف حتى قتله. وعاد يفتح الأبواب بابًا بابًا حتى انتهى إلى درجة، فوضع رِجله يظن أنه انتهى إلى الأرض فوقع، فانكسرت ساقه، فعصبها بعمامة، وعاهد نفسه أن يجلس عند الباب ولا ينصرف حتى يعلم يقينًا أن أبا رافع قد قتل. فانتظر حتى إذا صاح الديك سمع الناعي على السور يقول: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلق عبد الله إلى أصحابه يقول: النجاء؛ فقد قتل الله أبا رافع، فانتهى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فحدثه، فقال له: ابسط رجلك، فبسطها، فمسحها -صلى الله عليه وسلم- يقول عبد الله: فكأنها لم أشتكها قط.
هكذا كان حسمه وحزمه -صلى الله عليه وسلم- مع أحفاد القردة والخنازير، لا يتهاون أبدًا في أي بادرة تمرد أو خيانة منهم؛ صيانةً لدين الله -جل وعلا- وعباده المسلمين، وحرصًا على بلاد الإسلام. وكان من آخر وصاياه قبل موته -صلى الله عليه وسلم- أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يجمع في جزيرة العرب دينان".
(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].
الخطبة الثانية:
عرفنا فيما مضى كيف كان -صلى الله عليه وسلم- يعامل اليهود، أما اليوم فكيف صار الحال؟! وكيف صرنا نعاملهم بعد أن أقاموا المذابح لأبناء الإسلام، تجيبكم بعض الصحف على هذا منذ أيام قليلة، فتقول: إقامة نصب تذكاري للجنود "الإسرائيليين" الذين قتلوا في حرب سنة 48، وفي المقابل وعدت "إسرائيل" بإقامة نصب تذكاري للجنود المصريين الذين قتلوا في حرب سنة 73، كأنها لعبة رياضية ودية قامت على العبث بدماء المسلمين، وهذا في نفس الآونة التي تحدثت فيها الصحف عن المذبحة التذكارية التي أقامها اليهود في المسجد الأقصى ضد المسلمين لرفضهم محاولة اليهود إقامة معبد وثني لهم في ساحة المسجد الأقصى، فكانت مذبحة وحشية وقَتْل وجرح واعتقال، فماذا كانت ردود الأفعال المحلية والعالمية؟! فمحليًّا تمت مطالبة "إسرائيل" -في خجل وعلى استحياء- أن تعيد النظر في سياستها في المنطقة، أما عالميًّا فقد تم تشكيل لجنة تحريات لتذهب إلى "إسرائيل" فرفضت "إسرائيل" دخولها، وتعجب العالم من التحدي اليهودي وانتهى الأمر.
يا للعجب!! أين إرسال القوات العسكرية لحماية المقدسات؟! أين الحصار الاقتصادي والحصار العسكري؟! أين شعارات الانسحاب بلا قيد وشرط؟! أين إجماعات هيئة الأمم ومجلس الأمن على إيقاع العقوبة؟! أين مؤتمر علماء المسلمين في مكة ضد الظلم والظالمين؟! أين كل هذا؟! ولماذا لم يحدث؟! الجواب: لأن الإسلام والمسجد الأقصى ليسا من الأهمية في شيء، أما مصالح أمريكا فيستنفر لها الناس في مشارق الأرض ومغاربها، ومن أولهم المسلمون المستغفلون في بلاد الإسلام.
ولعل توقيت تلك المذبحة كان مقصودًا في هذه الآونة لإلهاء الناس وصرف انتباههم عن أحداث الخليج، التي انتهت باستقرار قوات الشرك والكفر في بلاد المسلمين، وتطويقها لهم، ونحن نعلم أن القدس وغير القدس لن يحررها العلمانيون ولا المرتدون ولا المنافقون، وإنما يحررها عباد الله المسلمون، كما أخبر -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "تقاتلون اليهود، فيختبئ اليهود وراء الحجر والشجر، فينادي الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله: هذا يهودي خلفي، تعال فاقتله"، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-، فهو ينادي: يا مسلم يا عبد الله، لا يقول: يا علماني، ولا يا مرتد، ولا يا مجلس الأمن، ولا يا هيئة الأمم؛ ولذا فأعداء الله يعرفون هذه الحقيقة، ولذا يخططون على مستوى عالمي لضرب الصحوة الإسلامية الجارفة، ويقوم العملاء بالقسط الأكبر من التنفيذ، ومن ثم يجب أن تدركوا معنى الحملات المشنعة على التيار الإسلامي ومحاولات التشويه والتنفير، فما أعظم الغفلة والسذاجة حين تغترون بذلك، وتقفون في الصف المعادي لإخوانكم المسلمين الداعين إلى الالتزام بدين الله، فتقرَّ بكم عيون أهل الكفر والشقاق.
عُدْ -أخا الإسلام- إلى صف المسلمين الملتزمين، وضع يدك في أيديهم، وتب إلى الله ولا تُسوِّف، بادروا للالتزام بدين الله ونصرته شيوخًا وشبابًا، فالشيخ ماذا ينتظر؟! والشاب نحذره من الاغترار؛ فإن بعض الشباب لا يتصور أنه قد يموت في لحظة، فيلقى الله عاصيًا غير تائب، الموت لا يستأذن على أحد، ولا يعرف صغيرًا ولا كبيرًا، لعل فيكم من كان على معرفة بالثلاثة الشباب الذين فُقدوا منذ أيام من حيث يرجون اللهو والفرح، نعم انطلقوا بسيارتهم يمرحون مسرعين ولكن إلى مثواهم، والله إنها لعبرة لقساة القلوب الذين يسوِّفون في التوبة، والذين يعرضون ويستخفون إذا ما وُعِظوا بالموت والدار الآخرة، ويرون أن ذلك بعيد عنهم، سبحان الله!! إن أحدكم والله لا يضمن إذا قام من مجلسه ذلك اليوم أن يصل سالمًا إلى بيته، نعم والله، يأتي الموت لأهون سبب.
وما أدري وإن أملت عمرًا *** لعلي حين أصبح لست أمسي
ألم تر كل صباح يوم *** وعمرك فيه أقصر من أمس
أخا الإسلام:
تزود من التقوى فإنك لا تدري *** إذا جن ليل أن تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة *** وكم من سقيم عاش حينًا من الدهر
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم *** وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروس زينوها لزوجها *** وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر
إخوة الإسلام: الموت يأتي ما بين عشية وضحاها:
يا من بدنياه اشتغل *** وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتــة *** والقبر صندوق العمل
(أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ) [النجم: 59، 60]، (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ) [غافر: 39]، (إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر: 44].
ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم تب على التائبين، واعف عن العصاة المذنبين، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين، واغفر لجميع موتانا وموتى المسلمين، اللهم وثبتنا على ديننا واجعلنا حماة له وأنصارًا، وأهلك من أرادنا بسوء أو فتنة، ومكنّا من أعداء الدين، وانصرنا عليهم نصرًا مؤزرًا يا عزيز يا حكيم، وارزقنا بصيرة نافذة في كل أمر، وأرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم عرِّفنا الحق وأعنَّا على العمل به، واعصمنا من الضلال والتخبط والغواية، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
التعليقات