عناصر الخطبة
1/ كلمات الله تعالى من صفاته 2/ من آثار كلماته سبحانه 3/ كلمات الله لا معقب عليها 4/ حال من استبدلوا كلمات الله بكلمات غيره 5/ عظمة كلمات الله تعالى 6/ تكبر الإنسان وغروره بما يعلمه من علماهداف الخطبة
اقتباس
وكلماته سبحانه ليست ككلمات خلقه الضعاف المترددين المقهورين، فكلماته -عز وجل- لا تتغير ولا تتبدل ولا تتعطل؛ لأنها صادرة عن علم وحكمة وقدرة؛ فلا جهل يسبقها، ولا عجز يلحقها، ولا مكره له سبحانه عليها: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ). وهي صدق في الأخبار، وعدل في الأقضية والأحكام، وكلمات هذا شأنها لا بد أن تكون ..
الحمد لله الخلاق العليم؛ علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، نحمده على ما هدى وكفى، ونشكره على ما أجزل وأعطى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ العزيز الغفار، الكريم الوهاب؛ وهب عباده حياتهم، وكتب آجالهم، وقدّر أرزاقهم، وأكمل لهم أعمارهم، فلا تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ غرس تعظيم الله تعالى في قلوب أصحابه وأتباعه؛ فهم يحبون الله تعالى ويعظمونه ويعبدونه ويرجونه ويخافونه، ولا يشركون معه أحدًا غيره، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإن من عرف الله تعالى حق المعرفة بأسمائه وصفاته وأفعاله وآياته امتلأ قلبه تعظيمًا له سبحانه، وقد قال تعالى للكليم -عليه السلام- لما طلب رؤيته (لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ) [الأعراف:143].
أيها الناس: يعظم العظيم من الخلق في عيون الخلق بقوة كلامه، ونفاذ أمره، وعجائب فعله، وكثرة صنائعه، وعدله في حكمه، وسيطرته على مملكته، وعلمه بأحوال رعيته.
وخالق الخلق، ومدبر الأمر -سبحانه وتعالى- له القدرة التي ليست لخلقه، وما قدرة كل خلقه إلا من قدرته سبحانه؛ فهو -عز وجل- خالق كل شيء، وواهب كل موهوب.
وكلمات الله تعالى من صفاته، وصفاته ليس لها ابتداء ولا انتهاء؛ فهو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء.
ومن آثار كلماته سبحانه خلق الخلق، وتدبير الأمر، وتصريف الكون: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل:40]، (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصِّلت:11].
وكلماته سبحانه ليست ككلمات خلقه الضعاف المترددين المقهورين، فكلماته -عز وجل- لا تتغير ولا تتبدل ولا تتعطل؛ لأنها صادرة عن علم وحكمة وقدرة؛ فلا جهل يسبقها، ولا عجز يلحقها، ولا مكره له سبحانه عليها: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) [الكهف:27]. وهي صدق في الأخبار، وعدل في الأقضية والأحكام، وكلمات هذا شأنها لا بد أن تكون ثابتة: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) [الأنعام:115].
لقد تمّت كلمة الله سبحانه صدقًا فيما قال وقرر، وعدلاً فيما شرع وحكم، فلم يبق بعد ذلك قول لقائل في عقيدة أو تصور أو أصل أو مبدأ أو قيمة أو ميزان، ولم يبق بعد ذلك قول لقائل في شريعة أو حكم، أو عادة أو تقليد، ولا معقب لحكمه، ولا مجير عليه.
فيا لخيبة من استبدلوا كلمات الله تعالى بغيرها، وأعرضوا عن كتاب الله تعالى وعن شريعته، ويمموا وجوههم شطر أفكار البشر وفلسفاتهم يبحثون فيها قضايا الوجود والكون والموت والمصير، فنقلتهم من اليقين إلى الشك، ومن الإيمان إلى الجحود والإلحاد، فعاشوا تعساء في الدنيا، يمزقهم الشك والحيرة، ولعذاب الآخرة أخزى، وما لهم من الله من واقٍ، وهذا جزاء المعرضين عن كلمات الله تعالى.
ومن آثار ثبات كلماته سبحانه في الدنيا: وعد المؤمنين بالنصر والعاقبة؛ فإن ذلك حتم لا يتغير، ووعد لا يتخلف؛ لأنه من كلمات الله تعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ المُرْسَلِينَ) [الأنعام:34].
وقد قال سبحانه في بني إسرائيل عند ولادة موسى وهم معذبون: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ) [القصص:5]، فوقع مراد الله تعالى بعد سنوات كما جاء في كلماته سبحانه: (وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا) [الأعراف:137].
ومن آثار ثبات كلماته سبحانه: أنه لا يوقع عقوبته إلا في أجلها المضروب لها، سواء كان في الدنيا كما في قول الله تعالى: (وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) [الكهف:59]، أم في الآخرة كما في تأخيره الفصل بين عباده في القضاء إلى يوم القيامة؛ فإنه مهما وقع منهم من ظلم وبغي وسفك للدماء، وسألوا الله تعالى فصل القضاء بينهم؛ فإنه لا يقع إلا يوم القيامة على مقتضى كلماته سبحانه، وجاء خبر ذلك في آيات عدة من كتاب الله تعالى: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [يونس:19]، وفي آية أخرى: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى) [طه:129]، وفي آية ثالثة: (وَلَوْلَا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) [الشُّورى:21].
والإيمان بذلك يجعل المؤمن لا يستبطئ نصر الله تعالى، ويثبت على دينه، ويصبر على الأذى فيه مهما كان؛ ليقينه بكلمات الله تعالى.
ومن آثار كلماته سبحانه: أنه مانح الهداية ومانعها، ولا تطلب الهداية من سواه: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ) [الفاتحة:6]، فمن وفّقه اهتدى، ومن خذله ضل وغوى: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ) [يونس:97]، وفي آية أخرى: (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) [النحل:36].
ومن آثار كلماته سبحانه: نعيم المؤمنين في الجنة، وعذاب الكافرين في النار، جاء الإخبار بذلك في كلمات الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتغير؛ ففي أهل الإيمان والطاعة قال سبحانه: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ) [يونس:62-64].
وفي أهل الكفر والعصيان قال تعالى: (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) [غافر:6]، وفي آية أخرى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود:119]، ويخاطب بكلماته سبحانه أفضل خلقه، وخاتم رسله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) [الزُّمر:19]، وهذه الآية يجب أن تتمثل للمؤمن في كل أحيانه، فيكررها بلسانه، ويعيها قلبه، ويخشاها على نفسه، ويلهج لسانه بدعاء الله تعالى يسأله الهداية، ويخاف أن يكون ممن حقّت عليه كلمة العذاب. وكيف لا يفزع المؤمن منها وأفضل الخلق لا يستطيع إنقاذ من مضت فيه كلمة الله تعالى فحق عليه العذاب؛ فاللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت. آمين يا رب العالمين.
وحين يقول الملائكة للكفار: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) [الزُّمر:71]، يكون جوابهم إقراراهم بكلمة الله تعالى التي كانوا ينكرونها في الدنيا: (قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرِينَ) [الزُّمر:71].
وكلمات الله تعالى هي التي أنقذت البشرية من العذاب الدائم والهلاك المضاعف حين أسعفت أبانا آدم -عليه السلام- بعد المعصية: (فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة:37]، وهي قوله وزوجه: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ) [الأعراف:23]. وهذا يجب أن يزيد في محبة البشر لله تعالى؛ إذ بكلماته أنقذوا.
ومن عظيم كلمات الله تعالى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستعيذ بها، ويعلم أمته الاستعاذة بها؛ فكَانَ يُعَوِّذُ الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ، وَيَقُولُ: "إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ". رواه البخاري.
وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ". رواه مسلم. وفي السنة كان التعوذ بكلمات الله تعالى ذكرًا يوميًّا؛ كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: مَا لَقِيتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي الْبَارِحَةَ، قَالَ: "أَمَا لَوْ قُلْتَ: حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ؛ لَمْ تَضُرَّكَ". رواه مسلم.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتفكروا في صفاته، وتأملوا آياته، وتدبروا كلماته؛ فإن كلماته لا تنفد، وقد قال اليهود للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا، أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَمَنْ أُوتِيَ التَّوْرَاةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، فَأُنْزِلَتْ: (قُلْ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) [الكهف: 109]". رواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب.
يا لعظمة الله تعالى وعظمة كلماته حين يكون البحر حبرًا لها فينفد البحر ولا تنفد كلماته، إنه لا قدرة لعقل بشري على استيعاب ذلك وتصوره لولا أن الله تعالى أخبرنا به، وما نرى في كل دقيقة، بل في كل ثانية من أحداث متجددة على الأرض فهي من آثار كلمات الله تعالى التي لا تنفد، وما في الوجود من أحداث لا نعلمها أكثر مما نعلم.
وفي آية أخرى أكثر تفصيلاً، وأشد بيانًا لعجز الخلق أمام كلمات الله تعالى، يقول سبحانه مخبرًا عنها: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [لقمان:27].
إنه مشهد منتزع من معلومات البشر ومشاهداتهم المحدودة؛ ليقرب إلى تصورهم معنى تجدد المشيئة الذي ليس له حدود، والذي لا يكاد تصورهم البشري يدركه بغير هذا التجسيم والتمثيل.
إن البشر يكتبون علمهم، ويسجلون قولهم، ويمضون أوامرهم، عن طريق كتابتها بأقلام يمدونها بمداد من الحبر ونحوه، لا يزيد هذا الحبر على ملء دواة أو ملء زجاجة! فها هو ذا يمثل لهم أن جميع ما في الأرض من شجر تحول أقلامًا، وجميع ما في الأرض من بحر تحول مدادًا، بل إن هذا البحر أمدته سبعة أبحر كذلك، وجلس الكتاب يسجلون كلمات الله المتجددة، الدالة على علمه، المعبرة عن مشيئته، فماذا؟!
لقد نفدت الأقلام ونفد المداد، نفدت الأشجار ونفدت البحار، وكلمات الله باقية لم تنفد، ولم تأت لها نهاية، إنه المحدود يواجه غير المحدود، ومهما يبلغ المحدود فسينتهي ويبقى غير المحدود لم ينقص شيئًا على الإطلاق. إن كلمات الله لا تنفد؛ لأن علمه لا يحد، ولأن إرادته لا تكف، ولأن مشيئته سبحانه ماضية ليس لها حدود ولا قيود.
وتتوارى الأشجار والبحار، وتنزوي الأحياء والأشياء وتتوارى الأشكال والأحوال، ويقف القلب البشري خاشعًا أمام جلال الخالق الباقي الذي لا يتحول ولا يتبدل ولا يغيب، وأمام قدرة الخالق القوي المدبر الحكيم: "إن الله عزيز حكيم".
إن البشر قد يدركهم الغرور بما يكشفونه من أسرار في أنفسهم وفي الآفاق، فتأخذهم نشوة الظفر العلمي، فيحسبون أنهم علموا كل شيء، أو أنهم في الطريق، ولكن المجهول يواجههم بآفاقه المترامية التي لا حد لها، فإذا هم ما يزالون على خطوات من الشاطئ، والخضم أمامهم أبعد من الأفق الذي تدركه أبصارهم.
إن ما يطيق الإنسان تلقيه وتسجيله من علم الله تعالى ضئيل قليل؛ لأنه يمثل نسبة المحدود إلى غير المحدود.
فليعلم الإنسان ما يعلم، وليكشف من أسرار هذا الوجود ما يكشف، ولكن ليطامن من غروره العلمي، فسيظل أقصى ما يبلغه علمه أن يكون البحر مدادًا في يده، وسينفد البحر وكلمات الله لم تنفد، ولو أمده الله ببحر مثله فسينتهي من بين يديه، وكلمات الله ليست إلى نفاد.
ومن لم يعظم الله تعالى وهو يقرأ كلماته، ويبصر آياته؛ فإنه زائغ القلب، مدخول النفس، حسير الرأي، ضعيف العقل، فلنعظم الله تعالى كما يجب أن يعظم، ولنقدره حق قدره، فنذعن له سبحانه، ونتبع أمره، ونجتنب نهيه لنفلح ونسعد.
وصلوا وسلموا...
التعليقات