عناصر الخطبة
1/لا يقدر على كتم السر إلا ذوو المروءة والشهامة 2/من أعظم الأسرار ما يجري بين المرء وزوجه 3/الأسرار ثلاثة أنواعاقتباس
ولكتمان السر فوائد كثيرة؛ من أهمها: أنَّ كتمان السر من الأمانة، وحِفظُ الأمانةِ من علامات الإيمان، وبكتمان السر يتمكن الإنسان من قضاء مصالحه ولا يُواجَه بما يعوقه عنها، وكتمان السر علامة على الوقار والرزانة، واكتمال العقل، وبكتمان السر تُوَثَّق الصلة والمحبة بين الناس...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعدُ: من الأخلاق الحميدة والصفات الفاضلة كتمُ السرِّ وعدمُ إفشائه، ولا يقدِر على ذلك إلَّا ذَوُو الشهامة والمروءة، ومن معاني السِّر لغةً: ما يُكتم في النفس، والجَمْعُ أسرار وسَرَائر، والإِسرارُ خِلاف الإعلان، قال الله -تعالى-: (أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)[البقرة: 77].
فلا تَكْتُمُنَّ اللهَ ما في صدوركم *** ليَخفَى ومَهما يُكتَمِ اللَّهُ يَعلَمِ
يُؤخَّرْ فَيُوضَعْ في كتابٍ فيُدَّخَرْ *** ليَوْمِ الحِسابِ أوْ يُعَجَّلْ فيُنقَمِ
قيل: إنَّ صدور الأحرار قبور الأسرار. وكتمانُ السر خُلُق مركَّب من الوقار وأداء الأمانة، فإنَّ إخراج السر من فضول الكلام، وليس بِوَقُورٍ مَنْ تكلَّم بالفضول.
ومما ورد في فضل كتم السِّر، وعدمِ إفشائه: قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)[النساء: 58]؛ وقوله -سبحانه-: (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا)[الأنعام: 152]؛ وقوله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الأنفال: 27]. فالأسرار كالودائع التي يجب حفظها.
وقد حثَّ النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- على رعاية جانب السر في قوله: "إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ؛ فَهِيَ أَمَانَةٌ" (صحيح، رواه أبو داود).
فإنْ كان في إفشاء السر ضرر؛ فإفشاؤه حرام باتفاق الفقهاء، والضرر عامّ في كل ما يؤذي الإنسانَ، وأمَّا إذا لم يتضمَّن ضررًا؛ فالمختار عدم جواز إفشائه متى ما طُلِبَ منه الكتمانُ، أو دلَّ الحالُ على ذلك، أو كان مِمَّا يُكتم في العادة. قال الحسن -رحمه الله-: "إنَّ من الخيانة أن تُحدِّثَ بسِرِّ أخيك". وقيل: "الصبر على القبض على الجمر أيسر من الصبر على كتمان السر". وقال ابن بطال: "الذي عليه أهل العلم: أنَّ السِّر لا يُباح به إذا كان على صاحبه منه مضرَّة، وأكثرُهم يقول: إنه إذا مات لا يلزم كتمانُه ما كان يلزم في حياته، إلَّا أن يكون عليه فيه غضاضة في دينه".
ومن أعظم الأسرار: ما يجري بين المرء وزوجه؛ ولذا حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من إفشاء أسرار المعاشَرَة بين الزوجين بقوله: "إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ -الإفضاء: هو الجِماع-، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا" (رواه مسلم). قال النووي -رحمه الله-: "في هذا الحديث تحريمُ إفشاء الرجل ما يجري بينَه وبينَ امرأته من أمور الاستمتاع، ووصف تفاصيل ذلك، وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه".
وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "القلوب أوعية، والشِّفاهُ أقفالها، والألسنة مفاتيحها، فَلْيحفظْ كلُّ إنسانٍ مفتاحَ سِرِّه".
أيها الإخوة الكرام: ومن الحَزْم مع النفس: أنْ يكتم الإنسانُ الأعمالَ والمشاريعَ التي ينوي القيامَ بها مستقبلًا؛ ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اسْتَعِينُوا على إِنْجَاحِ الحَوائِجِ بِالكِتْمانِ؛ فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ" (صحيح، رواه الطبراني، والبيهقي). أي: اكتفاءً بإعانة الله -سبحانه-، وصيانةً للقلب عمَّا سواه، وحذرًا من حاسد يطَّلع عليها قبل التمام فَيُعطِّلها، فاكتموا، واستعينوا بالله -تعالى- على الظَّفَر بها. ويُستثنى من ذلك: ما له تعلُّق بمصلحة راجحة؛ كمشاورة أصحاب الخِبرة في ذلك ونحوه.
والأسرار ثلاثة أنواع:
الأول: ما أمر الشرع بكتمانه؛ كما يجري بين الزوجين حال الجِماع، فلا يجوز إفشاؤه.
النوع الثاني: ما طَلَبَ صاحِبُه كِتمانَه؛ وهو ما استكتمَك إياه الغيرُ وائتمنك عليه، فلا يجوز بثُّه وإفشاؤه.
النوع الثالث: ما اطُّلِع عليه بسبب الخُلْطة؛ كما يفعل النَّمام أحيانًا من إفشاء السِّر؛ كتبليغه الخَبَرَ على وجه الإفساد بين الناس، فهذا حرام، ويُستثنى من ذلك: إذا كان قصدُه رَفْعَ الظلم والعدوان عن الآخرين فهذا واجب، وهو من النصيحة للمسلمين.
عباد الله: ينبغي توخِّي الحذر من إفشاء السر والبوح به لناشري الأخبار، الذين هم مثل المنخل أو الغربال، وهؤلاء ضاقت صدورُهم بكتمان الأسرار، فلا يُستودَعون سِرًّا إلَّا نشروه وبالغوا في نشره وإفشائه. قال بعضهم: "ما وضعتُ سِرِّي عند أحدٍ فَلُمْتُه على إفشائه، وكيف ألومُه وقد ضِقْتُ به ذرعًا". وقيل: "إنَّ سِرَّكَ من دمك، فانظر أين تُرِيقه".
إذا المَـرْءُ أفْشَـى سِـرَّه بلـسانِهِ *** وَلاَمَ علـيه غَيْـرَه فـهو أحْمَقُ
إذا ضاق صَدْرُ المرءِ عن سِرِّ نَفْسِهِ *** فَصَدْرُ الذي يُسْتودَعُ السِّرَّ أضْيَقُ
ولكتمان السر فوائد كثيرة؛ من أهمها: أنَّ كتمان السر من الأمانة، وحِفظُ الأمانةِ من علامات الإيمان، وبكتمان السر يتمكن الإنسان من قضاء مصالحه ولا يُواجَه بما يعوقه عنها، وكتمان السر علامة على الوقار والرزانة، واكتمال العقل، وبكتمان السر تُوَثَّق الصلة والمحبة بين الناس.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أيها المسلمون: إنَّ حِفظَ السر يُقيَّد بعدم حصول ضررٍ على الآخرينَ، فَإِنْ كان هناك ضررٌ على الآخرين؛ كأنْ يتكلَّم شخصٌ في مجلسٍ مَّا؛ أنه سيفعل فِعلًا من الأفعال القبيحة أو التي فيها ضرر على الناس؛ فإنَّ مِثلَ ذلك يجب أن يُفْشَى؛ حتى يُحال بينه وبين مقصوده السيئ، فلا ضرر ولا ضرار، وقَبْلَ ذلك كلِّه يُنصح ويُحذَّر، فهذا من النصيحة الواجبة للمسلمين، قال العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "السَّتر على الناس شيمة الأولياء، ويجوز إفشاء السِّر إذا تضمَّن مصلحةً أو دفعَ ضرر، وقد كشف يوسفُ -عليه السلام- سِرَّ المرأة التي راودته فقال: (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي)[يوسف: 26]؛ ليدفع عن نفسه ما قد يتعرَّض له من قتلٍ أو عقوبة".
ومِنْ كَشْفِ السر لتحقيق مصلحة؛ ما جاء عن في حديث معاذٍ -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ: أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: "لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا" (رواه البخاري ومسلم). ثم أخبر معاذ بذلك في آخِرِ حياته؛ خوفًا من كتم العلم، ووصولًا لمصلحة نشره.
ومن أعظم الأسرار التي يجب كتمانها، ويحرم إفشاؤها: الإخبار بما يقترفه المرء من معاصٍ وآثامٍ، وقد سَتَرَه الكريمُ المنَّان -سبحانه-، فالمجاهرة بالمعاصي تشمل فِعلَها أمام الناس أو إخبارَهم بها؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافَاةٌ إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الإِجْهَارِ؛ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحُ قَدْ سَتَرَهُ رَبُّهُ، فَيَقُولُ: يَا فُلاَنُ! قَدْ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، فَيَبِيتُ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ" (رواه مسلم).
قال ابن بطال -رحمه الله-: "وفي المجاهرة بالمعاصي استخفافٌ بحق الله وحق رسوله، وضَرْبٌ من العناد لهما".
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اجْتَنِبوا هذه القَاذُورات التي نَهَى اللهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ بشيءٍ منها؛ فَلْيَسْتَتِرْ بسِتْرِ الله، ولْيَتُبْ إلى اللهِ" (صحيح، رواه الحاكم والبيهقي). والقاذورات: مفردها: قاذورة، وهي كلُّ قولٍ أو فِعلٍ يُستفحَش أو يُستقبَح، والمراد به هنا: فاحشة الزنا.
عباد الله: في السَّتر للمعاصي السلامةُ من الاستخفاف؛ لأنَّ المعاصي تُذِلُّ أهلَها، وسِترُ اللهِ -تعالى- مُستلزِم لستر العبد على نفسه، فمَنْ قصد إظهارَ المعصية والمجاهَرَة بها؛ أغضب ربَّه فلم يستره، ومَنْ قصد السِّترَ بها حياءً من ربِّه -سبحانه-، ثم من الناس؛ مَنَّ السِّتِّيرُ -سبحانه وتعالى- عليه بستره إياه، ولربما وفَّقه للتوبة منها، ولا سيما مع الإقلاع عنها واستحضار الندم.
التعليقات