عناصر الخطبة
1/ الصحابة مثال رائع للسياسة والإدارة 2/ شكوى أهل الكوفة من سعد بن أبي وقاص 3/ رد سعد رضي الله عنه على افتراءاتهم 4/ سؤال أهل الكوفة عن رأيهم في سعد 5/ مقارنة بين ديمقراطية الغربيين ومنهج المسلمين 6/ من عادى لله وليًّا فقد آذنه بالحرب 7/ دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاباهداف الخطبة
اقتباس
اعْلموا أنَّ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ضربوا أروعَ الأمثلةِ في العدلِ والسِّياسَة، والإدارةِ والإمارة، والأمانةِ والدِّيانة. ولْنأخُذ قصةً واحدةً شاهدةً على ذلك، ومثالاً على عظمتهم وسُمُوِّ أخلاقهم، ولْنقارن بين ما وصلوا إليه، وما وصلتْ إليه ..
الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا، ولم يكن له شريكٌ في مُلْكه أبدًا، فسبحان الذي أنزل على عبده الكتاب، وجعله تبصرةً وَذكرى لأولي الألباب، والصلاة والسلام على مَن أرسله مولاه بالهدى ودين الحق ليظهرَه على الدين كله، وأيَّدَهُ بكتابٍ أعجزَ البلغاءَ والفصحاء أنْ يأتوا بسورةٍ مِن مثلِه، سيدِنا ونبيِّنا محمد، الذي بشَّر بظهوره التوراةُ والإنجيل، وتحقَّقَتْ بوجوده دعوةُ أبيه إبراهيمَ الخليل -صلى الله عليه وعلى آله-، الفائزين باتِّباع شريعته، السالكين منهج الإصابة في اقْتفاءِ طريقته، وصحبِه وأتْباعِه، الذين ألَّف اللهُ بالإسلام بينهم، حتى صاروا أشدّاءَ على الكفار، رحماء بينهم.
أما بعد: فاتقوا -عباد الله- واعْلموا أنَّ أصحاب النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ضربوا أروعَ الأمثلةِ في العدلِ والسِّياسَة، والإدارةِ والإمارة، والأمانةِ والدِّيانة.
ولْنأخُذ قصةً واحدةً شاهدةً على ذلك، ومثالاً على عظمتهم وسُمُوِّ أخلاقهم، ولْنقارن بين ما وصلوا إليه، وما وصلتْ إليه قِيَمُ الشرقِ والغرب.
ثبت في صحيح البخاري أنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ شَكَوا سَعْدًا إِلَى عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-، وهذه عادةُ أهلِ الكوفةِ والعراقِ عمومًا.
ويشكون مَنْ؟! يشكون سَعْدًا -رضي الله عنه-، وهو خالُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان إذا رآه يقول: "هَذَا خَالِي، فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ".
وكَانَ عُمَر بْن الْخَطَّاب -رضي الله عنه- أَمَّرَه عَلَى قِتَالِ الْفُرْسِ، فِي سَنَة أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَفَتَحَ اللهُ الْعِرَاقَ عَلَى يَدَيْهِ، وكَانَ في مُقَدِّمَةِ الجُيُوْشِ يَوْمَ القَادِسِيَّةِ.
ثُمَّ اِخْتَطَّ الْكُوفَة وبناها، سَنَة سَبْعَ عَشْرَةَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهَا أَمِيرًا إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، فكان مثالاً للأميرِ العادلِ المتواضع.
ولكنَّ أهلَ الكوفة، ما لبثوا أنْ شَكوه إلى عمر -رضي الله عنه-، حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لا يُحْسِنُ الصلاة، وهذا من عظيم افترائهم وجَورهم.
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رسولاً يطلب قدومه، لَيسمع منه كما سمع منهم، فَوَصَلَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ فأخبره، فَجَاءَ من العراق إلى المدينة، لِلقاء عُمَر -رضي الله عنه-، فلما دخل المدينة اسْتقبله عمرُ -رضي الله عنه- وعانقه وفرح به، ثم قَالَ له: يَا أَبَا إِسْحَاقَ: إِنَّ هَؤُلاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لا تُحْسِنُ تُصَلِّي.
وما أعجبهم وأجْرأَهُم!! يتهمون هذا الصحابيَّ الجليل، بأنه لا يُحسن الصلاة؟!
فتعجب سعدٌ من هذا وقال: أَتُعَلِّمُنِي الأَعْرَابُ اَلصَّلاةَ؟! وهذا يدلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ شَكَوْهُ، لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ والعقل، وهكذا في كلِّ زمانٍ ومكان، يتجرَّأ الجُهَّال والعوام، فيُنكرون ويتنقَّصون علماءَ الإسلام، وها نحن نرى شيئًا من هذه الجرأة والقدح، على علمائنا ومشايخنا، بأنهم لا يصدعون بالحق في بعض القضايا، أو أنهم يُداهنون ويسكتون، خوفًا على أنفسهم وعلى وظيفتهم، فنعوذ بالله من هؤلاء الجهال، الذين والله وقعوا في الفتنة والضلال.
ثم قَالَ سعدٌ -رضي الله عنه وأرضاه-، بعد الذي سمعه وآذاه: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ، فَإِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أي مِثْلَ صَلاته لا أزيد ولا أنقص.
ثم بيَّن ذلك بقوله: مَا أَخْرِمُ عَنْهَا، أَيْ لا أُنْقِصُ منها شيئًا أبدًا، أُصَلِّي صَلاةَ الْعِشَاءِ، فَأَرْكُدُ فِي الأُولَيَيْنِ -أَيْ: أُطَوِّلُ الْقِرَاءَة فِي الركعتين الأُولَيَيْنِ-، وَأُخِفُّ فِي الأُخْرَيَيْنِ -أي: أُقصِّرُ الْقِرَاءَة فِي الركعتين الأُخْرَيَيْنِ-.
فعندما سمع الفاروقُ من سعدٍ -رضي الله عنهما- صفةَ صلاتِه وهيئَتَها، عرف أنها هي صلاةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقَالَ له مُسْتبشرًا فرحًا: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ. وعرف أنه على حقّ، وهم على باطل، ولكنْ، هل اكْتفى عمرُ الفاروقُ العادلُ بهذا؟! لا، بل أراد أنْ يسمع من كلِّ أهل الكوفة وأعيانِها؛ لأنه لا يريد أنْ يولِّيَ أميرًا على بلد، إلا إذا رضيه أهلها وأحبوه.
فهو لا ينظر إلى عدالة وصلاح الأمير فقط، بل ينظر إلى الرعيَّةِ ورغبتها واخْتيارها، فيا لها من عدالةٍ وسياسةٍ لم تعرفها البشريَّةُ كلُّها.
فَأَرْسَلَ مَعَ سعدٍ -رضي الله عنه- رِجَالاً إِلَى الْكُوفَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلا سَأَلَ عَنْهُ، فيُثْنُونَ عليه خيرًا.
يَمْشي هؤلاء مع الأمير، في كلِّ حيٍّ ومسجد، ليطمئنُّوا على رضا الرعيَّة على واليها، وليتحقَّقوا بيقين: هل ما قيل عنه حقٌّ أو باطل! هل تعرف الدُّوَلُ الأوربيَّةُ والمتقدمة، مثلَ هذه العدالةِ والحضارة، والنزاهةِ والأمانة؟! أين مَن يَنْبهر ويُعْجَب بالغرب وعدالتِه!!
بل وصلنا إلى أعجبَ وأعظمَ من ذلك، أنَّ أمير المؤمنين بنفسه، لا يُنصَّب إلا بالشورى ورغبةِ الرعيَّة.
يقول ابن كثيرٍ -رحمه الله-: "ثُمَّ نَهَضَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -أي بعد وفاةِ عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَسْتَشِيرُ النَّاسَ فِيهِمَا -أي: في عليٍّ وعثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- وَيَجْتَمِعُ بِرُؤُوسِ النَّاسِ وَأَجْنَادِهِمْ؛ مَثْنَى وَفُرَادَى وَمُجْتَمِعِينَ، سِرًّا وَجَهْرًا، حَتَّى خَلَصَ إِلَى النِّسَاءِ الْمُخَدَّرَاتِ فِي حِجَابِهِنَّ، وَحَتَّى سَأَلَ الْوِلْدَانَ فِي الْمَكَاتِبِ، وَحَتَّى سَأَلَ مَنْ يَرِدُ مِنَ الرُّكْبَانِ وَالأَعْرَابِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَسَعَى فِي ذَلِكَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، لا يَغْتَمِضُ بِكَثِيرِ نَوْمٍ، إِلا صَلاةً وَدُعَاءً وَاسْتِخَارَةً، وَسُؤَالاً مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَعْدِلُ بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-". انتهى كلامه.
وأما الغرب -يا أمَّةَ الإسلام- فإنّ الْمُرشحين يجمعون أصوات الناخبين، بأموالهم ودعايتهم وخطابهم، وأما خلفاؤنا الراشدون، فيأتي طَرَفٌ خارجٌ مُحايد، ليضمن النزاهة وعدم الْمُحاباة، فيذهبُ بنفسه إلى بيوت الناس، ومساجدهم وتجَمُّعاتهم، فيسأل الصغير والكبير، والغنيّ والفقير، والنساءَ في بيوتهن، وربَّاتِ الخدورِ في خدورهنّ.
فَعندما سَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلا سَأَلَ عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ وقَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا، فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لا يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، أي لا يسير مع الجيش، لِجُبْنه وتفريطه، وَلا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ -أي لا يقسم المال بالعدل والإنصاف-، وَلا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ -أَيْ لا يعدل في حكمه وقضائه-.
فيا له من بُهْتانٍ وكذب، وعدم احْترامٍ وأدب، حيث نَفَى عَنْهُ أشرف الفضائل، وأكرمَ الشمائل، فنفى عنه الشَّجَاعَة بقوله: "لا يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ"، وَالْعِفَّة بقوله: "وَلا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ"، وَالْحِكْمَة بقوله: "وَلا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ". فأيُّ بهتانٍ أعظم من هذا!!
فطلب سعدٌ -رضي الله عنه وأرضاه- حاكمًا وقاضيًا عادلاً مُنْصفًا، يقدرُ على أخذ حقِّه، وردّ مظلَمته، فلم يجد أقدر ولا أعدل من الله، فقال له: أَمَا وَاللَّهِ لأَدْعُوَنَّ بِثَلاثٍ، فرفع يديه إلى السماء وقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بالْفِتَنِ".
يا لها من دعواتٍ صادقات، من رجلٍ مجابِ الدعوة، طاهرِ السريرة!! ألم يعلم هذا وأمثالُه مِمَّن يتحامل ويتنقَّصُ أهل العلم والدين، أنّ الله تعالى قال في الحديث القدسيّ: "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ"!!
إنها حربٌ أعلنها الله تعالى، على الذين يؤذون عباد الله الصالحين، وأولياءه المتقين، فيا خسارةَ مَن حاربه الله تعالى.
فنسأل الله تعالى، أن يجعلنا من عباده الصالحين، وأنْ يُجنبنا مُعاداةَ أوليائه الْمُتقين، إنه سميعٌ مُجيب الدعاء.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مجيبِ دعوةِ الْمَظلومين، ومُلْحقِ الأذى بالظالمين والْمُفْتَرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: تأملوا قول سعدٍ -رضي الله عنه- في دعائه: "اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً". قال الحافظ ابنُ حجرٍ -رحمه الله-: "وَمِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ، أَنَّ سَعْدًا -رضي الله عنه- مَعَ كَوْنِ هَذَا الرَّجُل وَاجَهَهُ بِهَذَا وَأَغْضَبَهُ، حَتَّى دَعَا عَلَيْهِ فِي حَال غَضَبِهِ، رَاعَى الْعَدْل وَالإِنْصَاف فِي الدُّعَاءِ عَلَيْهِ، إِذْ عَلَّقَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، وَأَنْ يَكُونَ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْغَرَضُ الدُّنْيَوِيّ". انتهى كلامه.
فلْيتحر العدل مَن يدعو على ظالمه، فقد يكون بتعديه ظالمًا آثمًا.
وحينما دعا سعدٌ عليه بقوله: "اللهم أَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ". أجاب الله دعاءَ الشيخِ المظلوم، فمرَّت الأيَّامُ والسنون، فأصبح شيخًا فقيرًا مفتونًا، فكَانَ إِذَا سُئِلَ عنْ حاله، ولامَه الناسُ على قبيح فِعالِه، يُجيبهم فيَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قَالَ أحدُ مَنْ رآه: فَأَنَا رَأَيْتُهُ، قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنْ الْكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ.
يا لها من عقوبةٍ شديدةٍ، على هذا الظالم الكاذب، الذي لم يعرف حقَّ وفضلَ الصحابةِ -رضي الله عنهم-، فابْتُلي بطولِ عمُره، وعمى بصيرَتِه، وولَعِه وفتنته بالجواري، فما أقبح حاله، وما أخزى فعله، وما أبأس نهايتَه.
نعم -يا أُمَّةَ الإسلام-، إنها دعوةُ الْمَظلوم، التي ليس بينها وبين الله حجاب، فكيف إذا كانت من عبدٍ من عباد الله الصالحين، وأوليائِه المؤمنين، فلْيحذر كلُّ عاقلٍ من الظلم والافتراء، والتعدي على حقوقِ الآخرين، أو سبِّهم وغيبتهم بلا بيِّنة، فقد يرفع عليك أكفَّ الضراعة إلى الله، فتبوء بعدها بالخسران.
نسأل الله تعالى أنْ يُصْلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وأنْ يُعيد أمَّتنا إلى سالف عهدها ومجدها، إنه على كل شيء قدير.
التعليقات