عناصر الخطبة
1/قصة وعبرة 2/قلادة خديجة رضي الله عنها 3/وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين خديجة 4/أهمية حفظ عهود الود والوفاء بين الأزواج 5/من أجمل وأجل صور الوفاء.اقتباس
فالوفاءُ خلقٌ نبيلٌ؛ لا يليقُ إلا بالكرامِ، وهو من أجلِّ الأخلاقِ، وأرقِّها وأرْقَاها. هذا وإنَّ من أجملِ صورِ الوفاءِ: أن تفيَ لمن كان سبباً في نبوغِك، أو تجارتِك، أو تعليمِك، بالدعاءِ له، وبذكرهِ الطيبِ، وبالتواصلِ، فهذا دأَبُ النبلاءِ، وأدبُ الفضلاءِ...
الخطبةُ الأولَى:
الحمدُ للهِ الذي لا يُحصِي العبادُ ثناءً عليهِ، بل هوَ كما أثنَى على نفسهِ وهوَ العليمُ القديرُ. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ مُيسِّرُ كلِ عسيرٍ، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولهُ البشيرُ النذيرُ، صلى اللهُ وسلمَ عليهِ إلى يومِ المصيرِ.
أما بعدُ: فاتقُوا اللهَ؛ فتقوَى اللهِ ما جاورتْ قلبَ امرئٍ إلا وصلَ.
اغرورقتْ عينا رسولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالدموعِ وهو يُقلِّبُ بيديهِ قلادةً جاءتْ بها ابنتُهُ زينبُ، بعدَ وفاةِ أمِها خديجةَ!! يا عجبًا: أقلادةٌ تُبكيكَ يا رسولَ اللهِ؟!
نعمْ إنها الرقةُ والرقيُ والوفاءُ؛ فلقدْ أيقظتْ تلكَ القلادةُ في فؤادهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذكرياتٍ لتلكَ الإنسانةِ العظيمةِ التي ملكتْ عليهِ قلبَه ووجدانَه قبلَ أن ترحلَ من الدنيا، إنها قلادةُ زوجتهِ الحبيبةِ المحبةِ الوفيةِ خديجةَ بنتِ خويلدٍ.
وتَذكَّرَ وهو يُقلِّبُ القلادةَ ذلكَ اليومَ الذي خلعتْ به تلكَ الإنسانةُ قلادتَها من عنقِها؛ لكي تُلبِسَها لابنتِها زينبَ يومَ زواجِها، وابتسامتُها ترتسمُ على مُحياها، لِتنعكسَ تلكَ الابتسامةُ في عينَي أبِيها رسولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الذي عاشَ طفولتَه يتيمًا عائلاً، فآنسَه اللهُ وأغناهُ منذُ زواجهِ بخديجة.
إنها قلادةُ المرأةِ التي أحبتْهُ وواستْهُ بمالهِا وروحِها، وصبَّرتهُ وزمَّلتهُ برداءٍ؛ لتُهدِّئَ من رَوعهِ، يومَ جاءهُ جبريلُ بالوحيِ لأولِ مرةٍ، وكانت تصعدُ جبالَ مكةَ الشاهقةَ لتضعَ طعامَه وشرابَه في غارِ حراءٍ، ثم تتركَهُ هانئًا بخلوتهِ مع ربهِ.
إن مواقفَ خديجةَ لَمَواقفُ وفاءٍ عظيمةٌ، لكنَّ العَظَمةَ من لَدُنْ ذِي الخُلقِ العظيمِ لَتَتَجلَّى بأبهى صورِها؛ حيثُ الوفاءُ التامُّ، حين يُعلنُ للملأِ حبَّها دونَ خجلٍ أو كبرياءٍ -وحاشاهُ-، فيقولُ عن خديجةَ: "إني رُزِقتُ حُبَّها".
ولقد كانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتعاهَدُ صديقاتِها بعدَ موتِها. وربما ذبحَ الشاةَ، فيُقطِّعُها، ثم يبعثُ بها إليهن، فيترحَّموُنَ عليها.
ومرةً –وهذهِ الأعجبُ- حيثُ استأذنتْ أختُها هالةُ بنتُ خويلدٍ على رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعدَ وفاةِ خديجةَ، فعرفَ استئذانَ خديجةَ؛ لشَبَهِ الصوتِ بينهن، فتَذَكَّرَ خديجةَ فارتاعَ، ثم ارتاحَ للصوتِ: فقالَ: "اللهم هالة"؛ لأنهُ تَذكَّرَ أيامًا سابقة، كانَ عيشُهُ معها –رضوان الله عليها-.
لقد بلغَ من كثرةِ ذِكْرهِ لخديجةَ أن غارتْ منها عائشةُ -رضيَ اللهُ عنهنَ- حتى قالت: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ؟! مع أن خديجةَ ماتتْ قبلَ أن يتزوجَ عائشةَ بثلاثِ سنينَ.
إنه رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القدوةُ الحسنةُ، الذي كانَ قولُهُ جليلاً وفعلُهُ جميلاً، فهوَ القائلُ: "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي"(سنن الترمذي: 3895).
فيا أيُها الأزواجُ والزوجاتُ: إن رأيتمْ من أزواجِكم شيئاً من وفاءٍ فلْتَحْمَدُوا الله، ولتُقابِلوا الوفاءَ بالوفاءِ، ولتشكُرُوا لبعضِكم بالثناءِ، ولا تكونُوا صامتينَ بلا مشاعرَ، فالزواجُ سَكَنٌ، جدرانُه المودةُ، وسقفُهُ الرحمةُ، وتفكرُوا في قولِ ربِنا: (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم: 21].
وأما الوفاءُ من قِبَلِ الزوجاتِ، فمنهُ مواقفُ كثيرةٌ تدعُو للفخرِ والذِكرِ؛ فهذه امرأةٌ دفعتْ حصيلةَ أموالِها لزوجِها لما أصابتْهُ نكبةٌ ماليةٌ، وثانيةٌ قَطَعَتْ جُلَّ زياراتِها؛ لأجلِ أن تُمرِّض زوجَها الذي توالَتْ عليهِ الجلْطاتُ، وثالثةٌ لما رحلَ زوجُها عن الدنيا جمعتْ راتبَه التقاعدي، حتى تَوَفَّرَ مبلغٌ كبيرٌ لبناءِ مسجدٍ؛ جعلَتْهُ باسمِ زوجِها الراحلِ.
ومن أجملِ صورِ حفظِ عهودِ الودِ بين الأزواجِ ما يكونُ بعدَ الطلاقِ، فترَى الأوفياءَ يَذكرونَ بعضَهم بالخيرِ، ويَتغاضَونَ عن التجاوزاتِ، بل يدْعُو أحدُهما للآخرِ، ممتثلينَ وصيةَ ربِهم: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)[البقرة: 237].
ويتجلَى الوفاءُ الزوجيُ أعظمَ ما يتجلَى حينَ الفجيعةِ بوفاةِ أحدِهما، وحينئذٍ يَظهرُ مدَى حُرقتِهِ، وقوةِ محبتِه. إنه الوفاءُ بين الأزواج ِفما أجلَّه!! وما أجملَه!!
فاللهم اجزِ أزواجَنا عنا خيراً على ما توددْنَ، وخدَمْنَ وربَّيْنَ وتبعَّلْنَ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ وكفَى، وصلى اللهُ وسلمَ على إمامِ الوفاءِ.
أما بعدُ: فالوفاءُ خلقٌ نبيلٌ؛ لا يليقُ إلا بالكرامِ، وهو من أجلِّ الأخلاقِ، وأرقِّها وأرْقَاها.
هذا وإنَّ من أجملِ صورِ الوفاءِ: أن تفيَ لمن كان سبباً في نبوغِك، أو تجارتِك، أو تعليمِك، بالدعاءِ له، وبذكرهِ الطيبِ، وبالتواصلِ، فهذا دأَبُ النبلاءِ، وأدبُ الفضلاءِ.
ومن صورِ الوفاءِ الرائعةِ: الوفاءُ للجارِ؛ بألا تنساهُ بعد رحيلهِ عنكَ، أو رحيلِك عنه، وتُعْرِضَ عن ذِكرِ ما تَعرفُ عنهُ من السوءِ.
ومن أعظمِ صورِ الوفاءِ: وفاؤُك مع معلِمِيك في شتى مراحلِك، خصوصاً مَن كانتْ لهم أيادٍ بيضاءُ في سيرتِكَ. وكذا للأصدقاءِ، خصوصاً إخوانَ الصِّبا، وهذا يتأكدُ في حقِ مَن نالَ بعدَهم مكانةً، أو فاقَهم بعلمٍ أو مالٍ.
فاللهم ارزقنا وفاءً وردَ جميلٍ لمن أحسنُوا إلينا.
اللهم اجزِ والدِينا عنا خيرَ الجزاءِ، وارحمهُما كما ربَيانا صغاراً، وأعِنَّا على برِّهِما كباراً.
اللهم كَمَا هَدَيْتَنا لِلإِسْلاَمِ فلاَ تَنْزِعْهُ مِنّا حَتَّى تَتَوَفَّانا وَنحن مُسْلِمونَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أعْمَارِنَا أواخِرَهَا، وخَيْرَ أعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا وخَيْرَ أيَّامِنَا يَوْمَ نَلْقَاك.
اللهم يا ذا الَمنِّ القَدِيْمِ، والإحْسَانِ العَمِيْمِ، اجْعَلْنَا أغَنْى خَلْقِكَ بكَ، وأفْقَرَ خَلْقِك إليْكَ.
اللَّهُمَّ صُبَّ عَليْنا الخَيْر صَبّاً صَبّاً، ولا تَجْعَل عَيْشَنَا كَدّاً كَدّاً.
اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.
التعليقات