عناصر الخطبة
1/المقصود بسنن الله الكونية 2/بعض سمات سنن الله الكونية 3/الأمر بالسير في الأرض واستلهام العظات العبر 4/بعض سنن الله الكونية 5/التسليم والانقياد للسنن الكونية والحذر من مخالفتهااقتباس
هي سنن شاملة تجري على الناس جميعا، بلا تمييز ولا استثناء، لا تحابي أحدا كائنا من كان, تجري عليهم بغض النظر عن الدين، والجنس واللون، والأصل، فالكل في ميزانها...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها المسلمون- حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فتقوى الله صلاحُ دنياكم وأخراكم.
عباد الله: إن كل ما يجري في هذا الكون يتعلق بأفعال الله وسننه وفق حكمته وتدبيره.
وسنن الله في الكون، هي: عاداته في تدبير الكائنات، وهي مجموعة القوانين التي سنها الله -عز وجل- لهذا الوجود وأخضع لها مخلوقاته جميعاً على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها.
وهي سنن شاملة تجري على الناس جميعا، بلا تمييز ولا استثناء، لا تحابي أحدا كائنا من كان, تجري عليهم بغض النظر عن الدين، والجنس واللون، والأصل، فالكل في ميزانها سواء: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا) [الأحزاب: 38]، (سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) [غافر: 85].
وهي ثابتة لا تتغير ولا تتبدل مع تغير الزمان والمكان، قال تعالى: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر: 43]، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وسنته، عادته التي يسوي فيها بين الشيء وبين نظيره الماضي، وهذا يقتضي أنه سبحانه يحكم في الأمور المتماثلة بأحكام متماثلة، ولهذا قال: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ) [القمر: 43]، وقال: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) [الصافات: 22] أي أشباههم ونظراؤهم، وقال: (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) [التكوير: 7]، قرن النظير بنظيره، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم) [البقرة: 214].
وقد أمرنا الله بالسير في الأرض لنتعلم هذه السن، ونستلهم منها العظات العبر، فقال جل شأنه: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ) [آل عمران: 137]، وبفهم طبيعة السنن التي تحكم الحياة، وتسير شؤونها، يمكن أن يتنبأ الإنسان ببعض ما سوف يأتي به المستقبل، فيعرف النتائج من أسبابها ومقدماتها، فيعمل وفق ما يتبين له منها, ويستعد لها.
وهنا أمر لا بد من التنبه له أن هذه السنن الكونية قد ينقضها الله لتحقيق سنة شرعية؛ كما حبس الشمس ليوشع -عليه السلام- لينتصر على أعدائه.
فمن سنن الله الكونية: سنة الابتلاء: فالله -جل وعلا- يبتلي البشر ويختبرهم بالخير والشر، والشدة والرخاء، والصحة والمرض، يبتليهم في أموالهم وأبدانهم، وجميع أحوالهم، قال الله -تعالى-: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35]، وقال تعالى: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف: 168].
والحكمة من ابتلاء الكافرين: لعلهم يتوبون من كفرهم، ويعودون إلى ربهم.
والحكمة من ابتلاء المؤمنين: ليُعلم الصادق في إيمانه من الكاذب والصابر والمجاهد ممن ليس كذلك، قال تعالى: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 1 – 3]، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد: 31]، وفي الحديث الصحيح: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يُبْتَلَى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بَلاَؤُهُ، وإن كان في دينه رِقَّةٌ ابْتُلِىَ على قدر دينه".
ومن سنن الله الكونية: سنة التغيير: قال جل وعلا: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11]، وقال: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 53]، فالله لا يزيل نعمة أنعمها على قوم أو نصراً أو تمكينا لهم لا يسلبها منهم حتى يظهر من نفوسهم ما يوجب إزالة النعم عنهم.
وكذلك لا يرفع المصائب والذلة والهوان والبلاء عن قوم حتى يغيروا من الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن البطر وكفر النعم إلى شكرها. عندها يرفع البلاء، ويتبدل الحال من هوان وذل إلى نصر وعزة وتمكين: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49]، عن إبراهيم قال: "أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله، إلا تحول لهم مما يحبون إلى ما يكرهون".
ومن سنن الله الكونية: سنة الترف: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء: 16]، والمترفون هم: الأغنياء المنعمون الذين أبطرتهم النعمة وسعة العيش، فنسوا أن هذه النعم من الله، وأن الذي رزقهم هذه النعم قادر على أن يسلبها منهم.
وقد قص الله علينا من أخبار السابقين، وما أترفوا فيه، وضرب لنا الأمثال: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل: 112]، (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ) [الأنبياء: 11 - 15].
فاتقوا الله -عباد الله- واشكروا نعمه عليكم، ولا تفعلوا فعل المترفين، فتكون العاقبة كعاقبة المكذبين، فإن سنن الله لا تحابي أحدا فتعفيه، وليس بين الله وبين أحد من الناس نسبا فيراعيه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
ومن سنن الله الكونية: سنة المداولة، وهي أن الأمور لا تدوم على حال، فإن الله -جل شأنه- من سنته أن يغير أحوال العباد، وينقلهم من حال إلى حال: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140]، بين شدة ورخاء, وغنى وفقر, ونصر وهزيمة، وعزة وذل، وهكذا تتداول الأيام، وتتقلب الأحوال لحكمة يريدها الله، ولكن من أخذ بأسباب النصر والعز حري أن ينالها، ومن ترك الأسباب وقعد عنها فلن يكون حليفه إلا الخذلان: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) [الأنفال: 60]، (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً) [التوبة: 46]، مع الاستقامة على منهج الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7]، (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحـج: 40].
ومن سنن الله الكونية: سنة الجزاء، وهي أن الجزاء من جنس العمل: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا) [النساء: 123]، فعمل السيئات يستوجب ترتب الجزاء بغض النظر عن فاعلها, فكل من يعمل سوءًا أو يقترف معصية يلق جزاءه.
فمن سنة الله وحكمته: أن من زرع خيرًا حصد خيرًا، ومن زرع شرًا حصد شرًا، قال الله -تعالى-: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة: 7 - 8].
ومن سنن الله الكونية: سنة التسليط: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الأنعام: 129]، يقول ابن سعدي: "يقول تعالى: من سنتنا أن نولي كل ظالم ظالما مثله، يؤزه إلى الشر، ويحثه عليه، ويزهده في الخير، وينفره عنه، وذلك من عقوبات الله العظيمة الشنيع أثرها، البليغ خطرها. والذنب ذنب الظالم، فهو الذي أدخل الضرر على نفسه، وعلى نفسه جنى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].
ومن ذلك أيضا: أن العباد إذا كثر ظلمهم وفسادهم، ومنْعهم الحقوق الواجبة، ولَّى عليهم ظلمة، يسومونهم سوء العذاب، ويأخذون منهم بالظلم والجور أضعاف ما منعوا من حقوق الله، وحقوق عباده، على وجه غير مأجورين فيه ولا محتسبين.
كما أن العباد إذا صلحوا واستقاموا، أصلح الله رعاتهم، وجعلهم أئمة عدل وإنصاف، لا ولاة ظلم واعتساف.
ومن سنن الله الكونية: سنة الاستبدال: قال تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38]، وفي آية أخرى: (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التوبة: 39]، فإذا أعرض قوم عن أوامر الله ووقعوا في ما حرم الله فإن سنة الله ماضية فسيأتي الله بقوم خيرا منهم يسمعون ويطيعون, ومن أجل إعلاء كلمة الله يجاهدون.
عباد الله: ها قد عرفتم بعض سنن الله في عباده وخلقه، وإنها لسنن تستجيب لمن يوافقها ولو كان ضعيفا، وتستعصي على من يعارضها ولو كان قويا جبارا.
ومن العجيب: أن انقياد السنن لمن يأخذ بها ويوافقها هو أيضا سنةٌ من سنن الله -تعالى- في عباده، كما أن استعصاء سنة الله -تعالى- على من يعارضها ويخالفها سنة من سننه، فسبحان ربي ما أعظمه! وما أحكمه! وما أحلمه على عباده! وما أرحمه بهم!
التعليقات