قبل أن تندم في وقت لا ينفع فيه الندم

الشيخ محمد بن مبارك الشرافي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ أحاديث نبوية موضِحة للفتن وكيفية الخلاص منها 2/ شهادة الواقع على آثار الخروج على الحكام 3/ تطبيق السلف العملي لسنة عدم مفارقة الجماعة 4/ وجوب الحفاظ على استقرار البلاد ونعمة الأمن 5/ شبهات تشكك في ولاة الأمر والجواب عليها 6/ بيانٌ فقهيٌّ للحكمة من الصبر على الحكام
اهداف الخطبة

اقتباس

إِنَّ احْتِمَالَ الْمَفْسَدَةِ الصُّغْرَى لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُظْمَى مَنْهَجٌ قُرْآنِيٌّ، وَطَرِيقٌ نَبَوِيٌّ، فَإِنَّ كَانَ هُنَاكَ ظُلْمٌ وَقَعَ، أَوْ سِجْنٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلا يُخَوِّلُنَا أَنْ نَسْعَى فِي انْفِلاتِ الأُمُورِ، وَخُرُوجِ الْغَوْغَاءِ وَالْجُمْهُورِ، بَلْ نَتَحَمَّلُ وَنَصْبِرُ، وَمَنْ أَصَابَهُ سِجْنٌ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِ، وَرِفْعَةٌ فِي دَرَجَاتِهِ. ثُمَّ نَسْعَى بِالطُّرِقِ السَّلِيمَةِ، وَنَتَمَسَّك بِالْهُدُوءِ، وَنُطِيلُ النَفَسَ، وَنَضْبِطُ النَّفْسَ، حَتَّى...

 

 

 

الْحَمْدُ للهِ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا نَسْمَعُ وَنُشَاهِد، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، عَظُمَ الْمَطْلُوبُ وَقَلَّ الْمُسَاعِدُ، وَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، خَيْرُ هَذِهِ الْحَيَاةِ نَاقِصٌ، وَشَرُّهَا زَائِد.

 

وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَلا ضِدَّ وَلا نِدَّ وَلا وَلَدَ وَلا وَالِد، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِمَامٌ عَابِدٌ زَاهِد، وَأَكْرِمْ بكُلِّ مُعَلِّمٍ وَأَصْبِرْ بكُلِّ مُجَاهِدٍ.

 

اللَّهُمَّ فَصَلِّ وَسَلِّمْ  عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الأَمَاجِد، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي الْوَسَائِلِ وَالْمَقَاصِد.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَسْتَهِلُّ خُطْبَتِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاسْمَعُوهُ: رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيهِمَا عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي.

 

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ"، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: "قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ".

 

قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ "نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: "هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا".

 

قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: "تَلْزمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ"، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: "فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ".

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هَذَا حَدِيثٌ عَجِيبٌ، رَوَاهُ هَذَا الصَّحَابِيُّ الذَّكِيُّ الأَرِيبُ، وَلا عَجَبَ أَنِ اسْتَحَقَّ أَنْ يَكُونَ أَمِينَ سِرِّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَسْمَاءِ الْمُنَافِقِينَ، وَذَلِكَ لِفِطْنَتِهِ وَحِنْكَتِهِ، فَعَرَفَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ الدُّنْيَا تَتَقَلَّبُ وَتَتَلَوَّنُ فَلا تَبْقَى عَلَى حَالٍ فِي الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ.

 

ثُمَّ تَأَمَّلُوا هَذَا الْجَوَابَ الْعَظِيمَ مِنَ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حَيْثُ أَخْبَرَ بِالشُّرُورِ ثُمَّ وَضَّحَ النَّجَاةَ مِنْهَا، وَكَيْفِيَّةَ الْخَلاصِ مِنْ آثَارِهَا.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ للرُّجُوعِ لِكِتَابِ رَبِّنَا وَإِلَى سُنَّةِ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي كُلِّ حِين، وَلا سِيَّمَا عِنْدَمَا تَدْلَهِمُّ الْخُطُوبُ وَتُطِلُّ الشُّرُورُ بِأَعْنَاقِهَا، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ.

 

أَيُّهَا الإِخْوَةُ فِي اللهِ: إِنَّ هَذِهِ الأَحْدَاثَ التِي حَصَلَتْ حَوْلَنَا وَلا تَزَالُ تَحْصُلُ، كَثِيرٌ مِنْهَا جَرَّ شُرُوراً، وَأَحْدَثَتْ مَا لا تُحْمَدُ عُقْبَاهُ، وَإِنَّ الْعَاقِلَ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا انْفَلَتَ زِمَامُ الأَمْرِ صَعُبَ ضَبْطُهُ، وَإِذَا اتَّسَعَ الشَّقُّ صَعْبُ رَتْقُهُ.

 

وَإِنَّ كَثِيرَاً مِنَ الْبِلادِ التِي اضْطَرَبَ وَضْعُهَا تَعِيشُ الآنَ فِي حَالٍ يَتَمَنَّوْنَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ حُكُّامُهُمْ مِنْ ظُلْمٍ وَغُشْم، فَفِي كُلِّ يَوْمٍ قَتْلٌ وَتَشْرِيدٌ، وَكُلُّ بَيْتٍ فِيهِ ثَكَالَى وَيَتَاَمى، وَلَمْ يَعُدِ الإِنْسَانُ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ وَلا عَلَى أَهْلِهِ وَلا عَلَى بَيْتِهِ، فَكَمْ مِمَّنْ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ فَمَا يَرْجِعُ حَتَّى يَجِدَ بَيْتَهُ خَبرَاً بَعْدَ عَيْنٍ، وَأَهْلَهُ أَشْلاءَ مُمَزَّقَةً، وَآمَالهُ عَادَتْ أَحْلامَاً، وَفَرْحَتهُ صَارَتْ آلامَاً، فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ!.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ هَذِهِ الأَحْدَاثَ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ بِمَا أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ، فَتَعَالَوا نَنْظُر فِي بَعْضِ أَحَادِيثِ الْفِتَنِ وَمَا جَاءَ فِيهَا.

 

فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً، فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءهُ [خيمته]، وَمِنّا مَنْ يَنْتَضِلُ [يرمي بالنشاب يتدرب على القتال]، وَمِنَّا مَنْ هُوَ في جَشَرِهِ [دوابِّه]، إذْ نَادَى مُنَادِي رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الصَّلاة جَامِعَة.

 

فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "إنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبيٌّ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ حَقّاً عَلَيْهِ أنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُم شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإنَّ أُمَّتَكُمْ هذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا في أوَّلِهَا، وَسَيُصيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتنَةٌ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَتَجِيءُ الفتنَةُ فَيقُولُ المُؤْمِنُ: هذه مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تنكشفُ، وتجيء الفتنةُ فيقولُ المؤمنُ: هذِهِ هذِهِ. فَمَنْ أحَبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، ويُدْخَلَ الجَنَّةَ، فَلْتَأتِهِ منيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنَ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أنْ يُؤتَى إِلَيْهِ. وَمَنْ بَايَعَ إمَاماً فَأعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إن استَطَاعَ، فإنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنقَ الآخَرِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 

ثُمَّ تَأَمَّلُوا فِعْلَ ابْنِ عُمَرَ وَحَدِيثَهُ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُطِيع وَهُوَ الذِي تَزَعَّمَ الْخُرُوجَ عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ رَأَوْا مِنْهُ وَكَانَ خَلِيفَةً -فِيمَا ذَكَرُوا- مُنْكَرَاتٍ عَظِيمَةً، وَمَعَ ذَلِكَ انْظُرُوا فِقْهَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَاسْتِدْلالَهُمْ بِالسُّنَّةِ.

 

فَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَتَى ابْنَ مُطِيعٍ لَيَالِيَ الْحَرَّةِ، فَقَالَ[ابْنُ مُطِيعٍ]: ضَعُوا لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وِسَادَةً، فَقَالَ ابْنَ عُمَرَ: إِنِّي لَمْ آتِ لِأَجْلِسَ، إِنَّمَا جِئْتُ لِأُكَلِّمَكَ كَلِمَتَيْنِ سَمِعْتُهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "مَنْ نَزَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَمْ تَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَاتَ مُفَارِقَ الْجَمَاعَةِ فَإِنَّهُ يَمُوتُ مَوْتَةَ الْجَاهِلِيَّةِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ حِبَّانَ وَاللَّفْظُ لَهُ.

 

وعن ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

 

فَهَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ، وَهَذَا تَطْبِيقُ السَّلَفِ، وَهَذَا الْوَاقِعُ يَشْهَدُ لِذَلِكَ، فَهَلْ نَحْنُ مُعْتَبِرُونَ؟ وَهَلْ نُقَدِّمُ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ عَلَى الْعَاطِفَةِ؟ أَمْ أَنَّنَا نُرِيدُ أَنْ نُخَالِفَ الشَّرْعَ وُنَجَرِّبَ حَظَّنَا فِي الثَّوْرَاتِ وَالْمُظَاهَرَاتِ وَالضَّغْطِ الْجَمَاهِيرِي كَمَا يُسَمُّونَهُ لِأَخْذِ حُقُوقِنَا؟.

 

أَيُّهَا الْعُقَلاءُ: إِنَّ بِلَادَكُمُ الْمَمْلَكَةَ بَلَدٌ مُتَرَامِي الأَطْرَافِ، وَيَجْمَعُ أُنَاسَاً مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى، وَمِنْ مَشَارِبَ مُخْتَلِفَة، فَوَاللهِ ثُمَّ وَاللهِ! لَوْ حَدَثَ انْفِلَاتٌ لِلأَمْنِ فِي هَذِهِ الْبَلادِ، وَضَيَاعٌ لِلسُّلْطَانِ، لَصَارَ عِنْدَنَا أَعْظَمُ بِمَرَاحِلَ مِمَّا تُعَانِيهِ الْبِلادُ الْقَرِيبَةُ التِي انْحَلَّ نِظَامُهَا وَانْفَرَطَ عِقْدُهَا، وَضَاعَ زِمَامُهَا! فَكُلٌّ يُرِيدُ اسْتِقْلَالاً بِقُطْرِهِ وَمَنْطِقَتِهِ، وَكُلٌّ يُرِيدُ الزَّعَامَةَ وَالرِّئَاسَةَ، فَهَلْ تَظَنُّونَ أَنَّهُ سَيَأْتِيْكُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ- لِيَحْكُمَ؟ أَمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِيَعْدِلَ فِيكُمْ؟!.

 

كَمْ سَيَفْرَحُ بِذَلِكَ الأَعْدَاءُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الصَّلِيبِيِّينَ! وَكَمْ سَتُغَرِّدُ وَتُهَلِّلُ دَوْلَةُ الْمَجُوسِ التِي كَانَتْ -وَلا تَزَالُ- تَتَرَبَّصُ بِنَا الدَّوَائِرَ، وَتُثِيرُ عَلَيْنَا الْقَلاقِلَ؟.

 

أَلَا نَكُونُ عُقَلاءَ، وَنَصْبِرُ عَلَى مَا يَحْصُلُ مِنْ ظُلْمٍ أَوْ اسْتِئْثَارٍ، إِنْ وُجِدَ؟.

 

إِنَّ احْتِمَالَ الْمَفْسَدَةِ الصُّغْرَى لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُظْمَى مَنْهَجٌ قُرْآنِيٌّ، وَطَرِيقٌ نَبَوِيٌّ، فَإِنَّ كَانَ هُنَاكَ ظُلْمٌ وَقَعَ، أَوْ سِجْنٌ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلا يُخَوِّلُنَا أَنْ نَسْعَى فِي انْفِلاتِ الأُمُورِ، وَخُرُوجِ الْغَوْغَاءِ وَالْجُمْهُورِ، بَلْ نَتَحَمَّلُ وَنَصْبِرُ، وَمَنْ أَصَابَهُ سِجْنٌ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِ، وَرِفْعَةٌ فِي دَرَجَاتِهِ. ثُمَّ نَسْعَى بِالطُّرِقِ السَّلِيمَةِ، وَنَتَمَسَّك بِالْهُدُوءِ، وَنُطِيلُ النَفَسَ، وَنَضْبِطُ النَّفْسَ، حَتَّى تَرْجِعَ الأُمُورَ لِنِصَابِهَا.

 

أَسْأَلُ اللهَ بِمَنَّهِ وَكَرَمِهِ أَنْ يَحْفَظَ دِينَنَا وَأَمْنَنَا، وَأَنْ يُوَفِّقَ وُلاةَ أَمْرِنَا لِمَا يُحِبِّهُ وَيَرْضَاهُ، وَأَنْ يَأْخُذَ بِنَواصِيهِمْ لِلْحَقِّ وَالصَّوَابِ. وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ*:

 

 

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلا إِلَهَ إِلا اللهُ وَلِيُّ الصَّالحِينَ، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأَمِينِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ.

 

 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ مَعَ انْتِشَارِ وَسَائِلِ الاتِّصَالِ وَكَثْرَتِهَا صَارَ كُلٌّ يَتَكَلَّمُ وَيَتَلَقَّى مِمَّنَ هَبَّ وَدَبَّ، وَإِنَّهُ -مَعَ الأَسَفِ- صَارَ بَعْضُ النَّاسِ يَتَنَاقَلُونَ شُبْهَاتٍ لَبَّسُوا بِهَا عَلَى الْعَامَّةِ، وَأَقْنَعُوا بِهَا قَلِيلَ الْعِلْمِ وَالْبَصِيرَةِ، تَشْكِيكَاً فِي وُلَاةِ أَمْرِ بِلادِنَا.

 

فَتَارَةً يَقُولُونَ: الإِمَامَةُ لا تَكُونُ إِلَّا فِي قُرَيْشٍ، أَيْ أَنَّنَا لا نُطِيعُ إِلَّا حَاكِمَاً قُرَشِيَّاً وَمَنْ سِوَاهُ لا طَاعَةَ لَهُ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: لا بَيْعَةَ إِلَّا لِمَعْصُومٍ، فَمَنْ عِنْدَهُ مَعْصِيَةٌ لا يُطَاعُ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: لابُدَّ فِي الْبَيْعَةِ مِنْ مُصَافَحَةِ الْمُبَايِعِ بِالْيَدِ، يَعْنِي: فَمَا دَامَ الْمَلِكُ لَمْ يُصَافِحْكَ بِيَدِهِ فَلَيْسَ لَهُ عَلَيْكَ بَيْعَةٌ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: لا تَكُونُ الْبَيْعَةُ إِلَّا فِي خِلَافَةٍ عَامَّةٍ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي أَقْطَارِ الْعَالَمِ!.

 

وَهَذِهِ شُبُهَاتٌ فَاسِدَةٌ، وَالْجَوَابُ عَلَيْهَا -بِاخْتِصَارٍ- كَمَا يَلِي:

 

أَمَّا قَوْلُهُمْ: "إِنَّ الإِمَامَةَ لا تَكُونُ إِلَّا فِي قُرَيْشٍ"؛ فَهَذَا بَاطِلٌ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى صِحَّةِ الْوِلايَةِ لِمَنْ تَوَلَّى مَا دَامَ مُسْلِمَاً لَمْ يُرَ مِنْهُ كُفْرٌ بَوَاحٌ، بَلْ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِطَاعَةِ مَنْ تَوَلَّى وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلاً، فَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإنْ تَأمَّر عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.

 

وَأَمَّا قَوْلهُمْ: "لا نُبَايِعُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَعْصِيَةٌ"؛ فَهَذَا مَرْدُودٌ عَقْلاً وَشَرْعَاً، فَأَمَّا بِالْعَقْلِ: فَأَيْنَ لِلنَّاسِ بِإِمَامٍ لَيْسَ عِنْدَهُ مَعْصِيَةٌ؟ فَلَيْسَ هُنَاكَ مَعْصُومٌ إِلَّا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-! وَأَمَّا شَرْعَاً: فَالنُّصُوصُ مُتَوَاتِرَةٌ فِي طَاعَةِ وُلاةِ الأَمْرِ وَإِنْ جَلَدَ الظَّهْرَ وَأَخَذَ الْمَالَ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمَيرِ وَإِنْ ضَرَبَ ظَهْرَكَ وَأَخَذ مَالَكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ" رَوَاهٌ مُسْلِمٌ عَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

 

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ:"إِنَّ الْبَيْعَةَ لا تَكُونُ إِلَّا بِالْمُصَافَحَةِ" فَهَذِهِ مَرْدُودَةٌ كَذَلِكَ شَرْعَاً وَعَقْلاً، فَكَيْفَ يُبَايِعُ الإِمَامُ كُلَّ الشَّعْبِ بِيَدِهِ وَهُمْ يَبْلُغُونَ الْمَلايِينَ؟ وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟  وَأَمَّا شَرْعَاً فَإِنَّهُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةِ الْهُدَى أَنَّ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ إِذَا بَايَعُوا الإِمَامَ فَقَدْ ثَبَتَتْ بَيْعَتُهُ وَوَجَبَتْ لَهُ الطَّاعَةُ كَمَا حَصَلَ لِلْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْحُكَّامِ وَالسَّلاطِينِ وَالْمُلُوكِ.

 

وَأَمَّا مَنْ يَقُولُونَ:"لا تَجِبُ الطَّاعَةُ إِلَّا إِذَا قَامَتِ الْخِلافَةُ الْعُظْمَى" فَهَذَا مُتَعَذِّرٌ بَعْدَ الْخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ وَلا يُمْكِنُ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ مِنَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنَّ مَنْ دَانَ لَهُ إِقْلِيمٌ بِالطَّاعَةِ وَالْوِلايَةِ وَجَبَتْ بَيْعَتُهُ وَحَرُمَ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ.

 

أَيُّهَا الإِخْوَةُ فِي اللهِ: وَلا يُفْهَمُ أَنَّنَا نُؤَيِّدُ الأَنْظِمَةَ الْمُجْرِمَةَ التِي تَهَاوَتْ، وَلَكِنَّنَا نَقُولُ بِمَا تَقَرَّرَ شَرْعَاً:َ إنَّ الْمُنْكَرَ لا يُزَالُ بِمُنْكَرٍ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَإنَّهُ يُرْتَكَبُ أَخَفُّ الضَّرَرَيْنِ، وَإنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ.

 

أَسْأَلُ اللهَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَجُودِهِ وَلُطْفِهِ أَنْ يَهْدِيَ شَبَابَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ يَرُدَّ مَنْ ضَلَّ مِنْهُمْ إِلَيْهِ رَدَّاً جَمِيلاً، وَأَسْأَلُهُ -جَلَّ وَعَلا- أَنْ يَجْعَلَنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ لا ضَالِّينَ وَلا مُضِلِّينَ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَحْفَظَنَا بِالإِسْلامِ قَائِمِينَ، وَأَنْ يَحْفَظَنَا بِالإِسْلَامِ قَاعِدِينَ.

 

وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْنَا أَمْنَنَا وَاسْتِقْرَارَنَا، وَأَنْ يَحْفَظَ عَلَيْنَا عَقِيدَتَنَا وَقِيَادَتَنَا، وَأَنْ يُبْرِمَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَمْرَ رُشْدٍ يُعَزُّ فِيهِ أَهْلُ الطَّاعَةِ وَيُهْدَى فِيهِ أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلاةَ أُمُورِنَا، وَاجْعَلْ وِلايَتَنَا فِيمَنْ خَافَكَ وَاتَّقَاكَ.

 

اللَّهُمَّ وَفِّقْ خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَنَائِبَهُ لِمَا تُحِبَّهُ وَتَرْضَاهُ، اللَّهُمَّ سَدِّدْ آرَاءَهُمْ وَصَوِّبْ عَمَلَهُمْ، وَأَصْلِحْ بِطَانَتَهْمُ.

 

 

وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

 

* استفدت في الخطبة الثانية من خطبة الشيخ الفاضل حمود بن ناصر مدير إدارة الأوقاف، حفظه الله.

 

 

المرفقات
قَبْلَ أَنْ نَنْدَمَ فِي وَقْتٍ لَا يَنْفَعَ فيه النَّدَمُ.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life