قبس من الشمائل المحمدية

ماهر بن حمد المعيقلي

2024-12-21 - 1446/06/19
التصنيفات: السيرة النبوية
عناصر الخطبة
1/المهمة السامية للرسل الكرام 2/حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية أمته 3/معاداة كثير من الناس للحق 4/مواقف من صبر النبي صلى الله عليه وسلم وحلمه 5/مظاهر من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في الآخرة 6/واجب الأمة الإسلامية نحو نبيها صلى الله عليه وسلم

اقتباس

وحريٌّ بنا -أُمَّةَ الإسلامِ- أن نُطِيعَ أمرَه، ونقتفي أثرَه، ونَذُبَّ عن مِلَّتِه وشريعتِه، ونقابِل حرصَه علينا باتباعنا لسُنَّتِه، فأسعدُ الناسِ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يومَ القيامةِ هُمْ أشدُّهم اتباعًا له، وتمسُّكًا بسُنَّته، وهم أهل محبتِه وولايتِه...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمدُ لله ربِّ العالَمِينَ، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادة نرجو بها النجاة من عذاب الجحيم، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، سيد الأولين والآخرين، أرسله ربه بالهدى ودين الحق إلى الناس أجمعين، فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 107]، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأزواجه، وأصحابه الغر الميامين، ومن اقتفى أثره، وأحيا سنته، إلى يوم الدين.

 

أمَّا بعدُ، فيا مَعاشِرَ المؤمنينَ: اتقوا اللهَ ما استطعتُم، وتمسَّكوا بسُنَّة نبيِّكُم، وأصلِحوا ذاتَ بينكم، وحافِظوا على اجتماع كلمتكم، تفوزوا برضا ربكم؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لُقْمَانَ: 33].

 

أُمَّةَ الإسلامِ: إنَّ مهمةَ الرسلِ الدعوةُ إلى الله -تعالى-، وإبلاغُ الرسالة، وتبيينُ الشريعة، فقد بُعثوا دعاةً للخير، وهداةً للبشر، مبشرينَ مَنْ أطاع اللهَ بعظيم الجزاء، ووافر العطاء، ومنذرينَ مَنْ عصاه بشديد العقاب، وسوء المآب؛ (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[النِّسَاءِ: 165]، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- خاتم الرسل، وسيد ولد آدم، بلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصَح الأمةَ، وجاهَد في الله حقَّ جهاده، حتى أتاه اليقين من ربه، فكان -صلى الله عليه وسلم- يدعو أمته ليلًا ونهارًا، سرًّا وجِهارًا، لا يدع مناسبة إلا ويغتنمها لإبلاغ دعوته، فكان -صلى الله عليه وسلم- يذهب للمشركين في أسواقهم ومجامعهم، يدعوهم إلى ربهم، ويصبر على أذاهم، وصدهم وإعراضهم، ففي مسند الإمام أحمد، من حديث جابر -رضي الله عنه- قال: "إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- ‌لَبِثَ ‌عَشْرَ ‌سِنِينَ ‌يَتَتَبَّعُ ‌النَّاسَ في مَنَازِلِهِمْ بِمِجَنَّةَ وَعُكَاظَ وَمَنَازِلِهِمْ بِمِنًى: يقول: "مَنْ يَقْرِينِي وَيَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ، وَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَلَا يُؤْوِيهِ".

 

مَعاشِرَ المؤمنينَ: لقد كان يحدو برسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمله، وتَحمِلُه رحمتُه وشفقتُه ليحيا الناسُ حياةً طيبةً في الدنيا، ونعيمًا أبديًّا في الأخرى، فحرصه -صلى الله عليه وسلم- على أمته، أشد من حرصهم على أنفسهم، حتى كان يتحسَّر ويحزن لإعراضهم، حزنًا يكاد يفتك به ويهلكه، فنهاه ربُّه عن ذلك؛ رأفةً ورحمةً به، فقال: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[الشُّعَرَاءِ: 3]؛ أي: لعلك من شدة حرصك على هدايتهم، مُهلِكٌ نفسَكَ يا محمدُ -صلى الله عليه وسلم-، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)[فَاطِرٍ: 8]، بل شبَّه -سبحانه- حزنَ رسوله -صلى الله عليه وسلم- عليهم برجل فارقه أحبته، فهو يسير على آثارهم، حتى كاد يهلك، وجدًا وتلهُّفًا على فراقهم، فقال -سبحانه-: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)[الْكَهْفِ: 6]، وبيَّن له أن التوفيق للهداية منه وحده -جل جلاله-، فقال: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[الْقَصَصِ: 56]، وقال -جل في علاه-: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)[النَّحْلِ: 37]، وفي مسند الإمام أحمد، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-، في قول الله -جل جلاله-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)[الْبَقَرَةِ: 6]، قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحرص على أن يؤمن جميع الناس، ويتابعوه على الْهُدَى، فأخبره الله جل ثناؤه أنَّه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول.

 

إخوةَ الإيمانِ: إن من عجيب أمر كثير من الناس مع حرصه -صلى الله عليه وسلم- على هدايتهم، إلا أنَّهم يقابلون ذلك بإعراضهم، كما قال -جل وعلا-: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)[يُوسُفَ: 103]، بل إن حرصه -صلى الله عليه وسلم- كان على أناس ما علموا بوسيلة شر وأذى، إلا سَعَوْا إليها، فهم حريصون أشدَّ الحرص، على أذيته بل على قتله، وهو حريصٌ أشدَّ الحرص، على هدايتهم ونفعهم؛ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ)[الْأَنْفَالِ: 30]؛ أي: ليسجنوك، (أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[الْأَنْفَالِ: 30]، وفي الصحيحين، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ‌هَلْ ‌أَتَى ‌عَلَيْكَ ‌يَوْمٌ ‌كَانَ ‌أَشَدَّ ‌مِنْ ‌يَوْمِ ‌أُحُدٍ؟ -يوم أحد يوم شج رأس النبي -صلى الله عليه وسلم- وكسرت رباعيته، واستُشهد سبعون من أصحابه، فذكر لها -صلى الله عليه وسلم- ما لقيه من قومه يوم العقبة، حين شتموه وضربوه، فانطلق -صلى الله عليه وسلم- وهو مهموم، فَإِذَا بِسَحَابَةٍ فوق رأسه، فيها جبريل وملك الجبال، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ؟ أي الجبلين، فاختار -صلى الله عليه وسلم- إنذارهم على عذابهم، والعفو عنهم، على عقوبتهم، فقال: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"، وفي صحيح مسلم، يحكي -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا من الأنبياء، ضربَه قومُه فأَدْمَوْهُ، وهو يمسح الدمَ عن وجهه ويقول: "اللهمَّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، فمع ما يتعرَّض له من الأذى لا يُبالي بما أصابَه، فيمسح الدمَ عن وجهه، ويدعو لِمَنْ آذَوْهُ، بل ويبحث لهم عن عذر فيما فعلوه؛ لكونهم لا يعلمون الحق، ولم يصلوا إلى معاني الصواب.

 

أيها المؤمنون بالله ورسوله: إن من كمال شفقته -صلى الله عليه وسلم- على أمته، واهتمامه بأمره، كثرةَ دعائه لهم، وبكاءَه لأجلهم؛ حرصًا عليهم، وخوفا من عذابهم، ففي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رفع يديه يدعو لأمته وبكى، فقال الله -عز وجل-: "يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، ‌وَرَبُّكَ ‌أَعْلَمُ، ‌فَسَلْهُ ‌مَا ‌يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ -عليه الصلاة والسلام-، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَا قَالَ: وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ في أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوؤُكَ".

 

وإن من عظيم حرصه -صلى الله عليه وسلم- تتبُّعه شؤونَ أصحابه وأتباعه؛ فهو يواسي المحزون، ويُعين المحتاجَ، ويُفرِّج عن المكروب، ويكون مع الناس في أفراحهم وأتراحهم، وشؤونهم وأحوالهم.

 

ومن حُسن سيرته -صلى الله عليه وسلم- حرصه على مراعاة نفسيات أصحابه، ففي الصحيحين: قال -صلى الله عليه وسلم-: "لولا أن أشقَّ على المؤمنين ما قعدتُ خلفَ سَرِيَّة تغزو في سبيل الله، ولكِنْ لا أجدُ سعةً فأحملهم، ولا يجدون سعة فيتَّبِعُوني، ولا تطيبُ أنفسُهم أن يقعدوا بعدي"، وقال مالك بن الحويرث -رضي الله عنه-: "أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ‌وَنَحْنُ ‌شَبَبَةٌ ‌مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَحِيمًا، فَلَمَّا ظَنَّ أَنَّا قَدِ اشْتَهَيْنَا أَهْلِينَا وَاشْتَقْنَا، سَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا بَعْدَنَا فَأَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ: "ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَأَقِيمُوا فِيهِمْ، وَعَلِّمُوهُمْ، وَأْمُرُوهُمْ"، ومثل -صلى الله عليه وسلم- نفسه وما كان فيه من الرأفة والرحمة، والحرص على نجاة الأمة، بِرَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا، ‌فَجَعَلَ ‌الْجَنَادِبُ ‌وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا، وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا، قال: فذلك مثلي ومثلكم، أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ، هلم عن النار، فتغلبوني، تقحمون فيها"(رواه مسلم).

 

مَعاشِرَ المؤمنينَ: إن حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أمته بلغ الغاية في بيان شريعته، ممتثلًا أمرَ به -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)[الْمَائِدَةِ: 67]، فما من شيء يُقرِّب الأمةَ من الجنة، ويزحزحهم عن النار إلا وقد بيَّنَه -صلى الله عليه وسلم-، يريد الفوزَ العظيمَ للأُمَّة، في الدنيا والآخرة، والله -تبارك وتعالى- يقول: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)[آلِ عِمْرَانَ: 185]، وفي صحيح مسلم: قال حذيفة -رضي الله عنه-: "قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَقَامًا، ‌مَا ‌تَرَكَ ‌شَيْئًا ‌يَكُونُ ‌فِي ‌مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا حَدَّثَ بِهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ"، فما ترك -صلى الله عليه وسلم- بلاغ أمته حتى وهو يجود بنفسه، وروحه تخرج من جسده، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خميصة سوداء، حين اشتدَّ به وجعُه، فهو يضعها مرةً على وجهه، ومرةً يكشفها عنه، ويقول: قاتَل اللهُ قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يُحرِّم ذلك على أُمَّتِه"، وقال أنس -رضي الله عنه-: "كانت عامَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين حضرته الوفاة: الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانُكم، حتى جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغرغر بها صدره، وما كاد يفيض بها لسانه"(رواه أحمد في مسنده).

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التَّوْبَةِ: 128].

 

بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعني وإيَّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِروه، إنه كان غفَّارًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، الحمد لله وفَّق مَنْ شاء لمكارم الأخلاق، وهداهم لما فيه فوزهم يوم التلاق، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 

أمَّا بعدُ، فيا مَعاشِرَ المؤمنينَ: إن حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على من اتبعه من أمته لا ينتهي بانتهاء الحياة الدنيا، بل إذا انشغل الناس بأنفسهم يوم القيامة، حتى إذا قال الأنبياء -عليهم السلام-: "نفسي نفسي"، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أمتي أمتي"؛ ففي الصحيحين: قال -صلى الله عليه وسلم-: "‌إِذَا ‌كَانَ ‌يَوْمُ ‌الْقِيَامَةِ ‌مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ في بَعْضٍ"، ثم ذكر مجيئهم إلى الأنبياء، قال: "فَيَأْتُونَنِي، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بها لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي"، فسبحان الله! كم بين قول الرسل -عليهم السلام-: "نفسي نفسي"، وبين قول نبيننا -صلى الله عليه وسلم-: "أمتي أمتي" من معان عظيمة، ودلالات كريمة، تبين حرصه -صلى الله عليه وسلم- على نجاة أمته، كما أنَّه -صلى الله عليه وسلم- يحضر عرصات يوم القيامة ليكون شفيعًا لأمته، فتارة يقف عند الميزان، وتارة على جنبات الصراط، يطلب لأمته السلامة والنجاة، والناس يمرون وهو يدعو: "اللهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، اللهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ"، ففي سنن الترمذي سأل أنسُ بنُ مالك -رضي الله عنه- رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أن يشفع له يومَ القيامة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "أنا فاعل"، قال: قلتُ: "يا رسول الله، فأين أَطْلُبُكَ؟"؛ أي: أين أجدكَ وفي أي عرصات القيامة أبحث عنكَ؟"، قَالَ: "‌اطْلُبْنِي ‌أَوَّلَ ‌مَا ‌تَطْلُبُنِي ‌عَلَى ‌الصِّرَاطِ"، قَالَ: قُلْتُ: فَإِذَا لَمْ أَلْقَكَ عَلَى الصِّرَاطِ؟ قَالَ: "فَأَنَا عِنْدَ الْمِيزَانِ"، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ؟ قَالَ: "فَأَنَا عِنْدَ الْحَوْضِ، لَا أُخْطِئُ هَذِهِ الثَّلَاثَ مَوَاطِنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"؛ يعني لابدَّ أن تلقاني في واحد من هذه المواطن، فيشفع -صلى الله عليه وسلم- لأهل الكبائر من أمته؛ ليخرجهم من النار، ويلح على الله -تعالى- في الدعاء، حتى يقال له: "‌انْطَلِقْ ‌فَأَخْرِجْ مِنْهَا مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ"(رواه البخاري ومسلم).

 

فصلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه، من نبي كريم، بالمؤمنين رؤوف رحيم، وحريٌّ بنا -أُمَّةَ الإسلامِ- أن نُطِيعَ أمرَه، ونقتفي أثرَه، ونَذُبَّ عن مِلَّتِه وشريعتِه، ونقابِل حرصَه علينا باتباعنا لسُنَّتِه، فأسعدُ الناسِ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يومَ القيامةِ هُمْ أشدُّهم اتباعًا له، وتمسُّكًا بسُنَّته، وهم أهل محبتِه وولايتِه؛ لقوله تبارَك اسمُه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آلِ عِمْرَانَ: 31].

 

ثم اعلموا معاشر المؤمنين أن الله أمركم بأمر كريم، ابتدأ فيه بنفسه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهمَّ صلِّ على محمدٍ، وعلى أزواجه وذريته، وعلى آلِ محمدٍ، كما صليتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركتَ على آل إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدينَ، الأئمة المهديينَ؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وجودك ورحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.

 

اللَّهُمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واحم حوزة الدين، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا، سخاء رخاء، وسائرَ بلاد المسلمينَ، اللهمَّ يا حي يا قيوم، برحمتك نستغيث، اللهمَّ أَصْلِحْ أحوالَ المسلمينَ في كلِّ مكانٍ، اللهمَّ إنَّا نسألُكَ بفضلِكَ ومِنَّتِكَ، وجودِكَ وكرمِكَ، أن تحفَظَنا مِنْ كلِّ سوءٍ ومكروهٍ، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

 

اللهمَّ فَرِّجْ همَّ المهمومينَ من المسلمين، ونَفِّسْ كربَ المكروبينَ، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، اللهمَّ أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهمَّ مَنْ أرادَنا وبلادَنا وبلاد المسلمين وأمنَنا وشبابَنا بسوء، فأَشْغِلْهُ بنفسه، واجعَلْ كيدَه في نحره، بقوتك وعزتك يا قوي يا عزيز، يا ذا الجلال والإكرام، اللهمَّ انصر جنودنا المرابطين على حدود بلادنا، عاجلًا غير آجل، برحمتك يا أرحم الراحمين، لا إله إلا أنتَ سبحانك، إنَّا كنا من الظالمين.

 

اللهمَّ وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين، لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهمَّ وفقه وولي عهده الأمين وأعوانهم لما فيه صلاح البلاد والعباد، اللهمَّ وجازهم بالخيرات على خدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما، برحمتك وفضلك وجودك يا أرحم الراحمين، اللهمَّ وفق جميع ولاة أمور المسلمين لما تحبه وترضاه.

 

اللهمَّ احفظ شباب وفتيات المسلمين، وانفع بهم أمتهم وأوطانهم، اللهمَّ حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، واجعلهم من الراشدين.

 

اللهمَّ اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ويسر أمورنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهمَّ اغفر لنا ولوالدينا وأزواجنا وذرياتنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

(رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الْبَقَرَةِ: 127]، (وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[الْبَقَرَةِ: 128]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life