عناصر الخطبة
1/الأمر بالجهاد ومراتبه 2/وجوب جهاد النفس وأقسام الناس في ذلك 3/كيفية جهاد النفس وبعض الأمور المعينة على ذلك 4/مراتب جهاد النفس وفضل استكمالها 5/كراهة النفس لمشقة الطاعة 6/عداوة الشيطان للإنسان وبعض صفات شياطين الإنس والجن وكيفية التحصن منهم 7/التحذير من الاستجابة للشيطان وخطر ذلكاقتباس
إنَّ النفسَ إذا أُطمعت طَمِعَتْ، وإذا فُوِّضَتْ إليها أساءَتْ، وإذا حَمَلْتَها على أمرِ الله صَلَحَتْ، وإذا تركتَ الأمرَ إليها فَسَدَت، فاحذَرْ نفسك واتهمْها على دينك، وأنزلْها منزلةَ مَنْ لا حاجة له فيها ولا بُدَّ له منها، وإنَّ الحكيمَ يُذِلُّ نفسَه بالمكاره حتى تعترفَ بالحقِّ، وإنَّ الأحمقَ يُخَيِّرُ نفسَه في الأخلاق، فما أَحبَّت منها أحبَّ، وما كَرِهَتْ منها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، أمرَ بالجهاد وجعلَه فريضةً على جميع العباد، بحسبِ الاستطاعة والاستعداد، وأشهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ الله وحده لا شريك له شهادةً تُنجي مَنْ قالها وعمل بها يوم يقوم الأشهاد، وأشهدُ أَنَّ محمداً عبده ورسوله وخيرتُه من جميع العباد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررةِ الأمجاد، وسلَّمَ تسليماً كثيراً يوم المعاد.
أما بعدُ:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى- وأطيعوه، يقولُ الله -تعالى-: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ)[الحج:78].
وهذا أمرٌ لعموم المسلمين بالجهادِ، كلٌّ عليه واجب منه حسبَ استطاعته، فقد أمرَهم أن يجاهدوا فيه حق جهاده كما أمرَهم أن يتَّقُوه حقَّ تُقاته.
والجهادُ أربع مراتب:
أولُها: جهادُ النفسِ.
وثانيها: جهادُ الشيطان.
وثالثها: جهاد الكفار.
ورابعها: جهاد المنافقين.
والأصلُ والأساس، هو جهادُ النفس.
فإنَّ العبدَ ما لم يجاهِدْ نفسَه أولاً، فيبدأْ بها، ويُلْزِمُها بفعلِ ما أُمرت به، وتركِ ما نُهيت عنه، لم يُمكنْه جهادُ عدوه الخارجي؛ لأنه لا يمكنُ جهادُ العدوِّ الخارجي مع ترك العدو الداخلي، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "المجاهدُ مَنْ جاهدَ نفسَه في طاعةِ الله، والمهاجرُ مَنْ هَجَرَ ما نهى الله عنه".
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الحاجة: "ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا".
وقال لِحُصَيْنِ بن عبيد: "أسْلِمْ حتى أعلِّمَكَ كلماتٍ ينفَعْكَ الله بها" فأسلم، فقال: "قُل: اللهم أَلْهِمني رشدي وقِني شرَّ نفسي".
فمَنْ يَسلمْ من شرِّ نفسه لم يَصِلْ إلى الله -تعالى-؛ لأنها تحولُ بينه وبين الوصول إليه.
والناسُ قسمان: قسمٌ ظَفِرَتْ به نفسُه، فَمَلَكَتْه وأهلكته، وصار مُطيعاً لها.
وقسمٌ: ظَفِرَ بنفسِه فقَهَرها، حتى صار مُطيعةً له.
وقد ذَكَرَ الله القسمين في قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات:37 - 41].
فالنفس تدعو إلى الطغيان، وإيثار الحياة الدنيا، والربُّ يأمُرُ عبدهَ بخوفِهِ، ونهي النَّفْسِ عَنِ الهوى، والعبدُ إمَّا أن يُجيبَ داعيَ النفس، فيَهْلِكَ، أو يُجيب داعيَ الربِّ، فيَنْجوَ.
والنفس تأمرُ بالشحِّ، وعدم الإِنفاق في سبيل الله، والربُّ يدعو إلى الإِنفاق في سبيله، فيقول سبحانه: (وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[التغابن:16].
فالنفس تسمَحُ بالملايين في سبيلِ البَذَخِ والإِسراف، ولا تسمَحُ بالقرشِ للفقير والمحتاج، تكونُ تارةً أمَّارةً بالسُّوءِ، وتارة لوَّامةً تلومُ صاحبَها بعد الوقوع في السوء، وتارةً مطمئنةً، وهي التي تسكن إلى طاعةِ الله ومحبته وذكره، فكونُها مطمئنةً، وصفُ مدحٍ لها، وكونُها أمَّارةً بالسوء، وصفُ ذمٍّ لها، وكونُها لوَّامةً ينقسمُ إلى: المدحِ والذمِّ.
وجهادُ النفس يكون بمحاسبتها ومخالفتها، وفي الحديث: "الكَيِّسُ من دانَ نفسه، وعَمِلَ لِما بعدَ الموتِ، والعاجزُ مَنْ أتبعَ نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأمانيَّ".
ومعنى: "دانَ نفسهَ" حاسبَها.
وعن عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "حاسِبُوا أنفُسَكم قبل أن تحاسَبُوا، وزِنُوا أنفسكم قبل أن تُوزنوا، فإنَّه أهونُ عليكم في الحساب غداً أن تحاسِبُوا أنفسَكم اليومَ، وتُزينوا للعرض الأكبر: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)[الحاقة:18].
وقال ميمونُ بن مِهْران: "لا يكونُ العبد تقيّاً حتى يكونَ لنفسه أشدَّ محاسبةً من الشريكِ لشريكه".
ولهذا قيلَ: "النفسُ كالشريك الخَوَّانِ، إنْ لم تُحاسبْه ذهبَ بمالك".
وكتب عمر بنُ الخَطَّاب -رضي الله عنه- إلى بعض عماله: "حاسِبْ نفسَك في الرَّخاء قبل حسابِ الشدة، فإنَّ مَنْ حاسبَ نفسه في الرخاء قبل حسابِ الشدة، عادَ أمره إلى الرضا والغِبْطة، ومَنْ ألهَتْه حياتُه وشغَلَتْه أهواؤُه، عاد أمرُه إلى الندامة والحسرة".
وقال الحسن: "وإنَّما خَفَّ الحسابُ يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسَهم في الدنيا، وإنَّما شَقَّ الحسابُ يوم القيامة على قومٍ أخذوا هذا الأمر من غيرِ محاسبة".
ويعينُ الإِنسانَ على محاسبة نفسه: معرفتُه أنه كلما اجتهدَ فيها اليوم استراحَ منها غداً إذا صار الحساب إلى غيره، وكُلَّما أهملَها اليوم اشتدَّ عليه الحسابُ غداً، وأنه إذا حاسَبَها اليوم رَبحَ سُكْنَى الفِرْدوس غداً، وإذا أهملَها اليوم فخسارتُه بدخول النار غداً.
فحَقٌّ على العاقلِ الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر: أن لا يَغْفُلَ عن محاسبةِ نفسه في حركاتِها وسكناتها وخُطُواتِها وخطراتها.
ويظَهرُ التغابنُ بينَ مَنْ حاسبَ نفسه اليوم ومَنْ أهملَها في يوم القيامة: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران:30].
فاتقوا الله -عِبادَ الله- وحاسِبُوا أنفسَكم قبلَ يوم المعاد، وجاهدوها في الله حقَّ الجهاد.
يقول الإِمامُ ابنُ القيم -رحمه الله-: "جهادُ النفس أربعُ مراتب:
إحداهما: أن تجاهدَها على تعلُّمِ الهدى ودينِ الحق الذي لا فلاحَ لها ولا سعادة في معاشها ومعادِها إلاَّ بهِ، ومتى فاتَها علْمُه شَقِيَتَ في الدارين.
الثانية: أن تُجاهدها على العمل به بعد علمِه، وإلاَّ فمجردُ العلم بلا عملٍ إن لم يَضُرَّها لم يَنْفَعْها.
الثالثة: أن يجاهدَها على الدعوة إليه وتعليمِه مَنْ لا يعلمه، وإلاَّ كان من الذين يكتمون ما أنزلَ الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه ولا يُنجيه من عذابِ الله.
الرابعة: أن تجاهدَها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأَذَى الخلق، وتتحَمَّلَ ذلك كلَّه لله.
فإِذا استكملَ هذه المراتب الأربع صار من الربَّانيين، فإنَّ السلف مجمعون على أن العالِمَ لا يستحق أن يُسَمَّى ربَّانياً، حتى يعرف الحقَّ، ويعمَلَ به، ويعلمَه، فمَنْ عَلِم وعَمِلَ وعلَّم، فذاك يُدعى عظيماً في ملكوتِ السماوات.
في وصية لقمان لابنه قال: يا بُنيَّ، إن الإِيمانَ قائدٌ، والعمل سائق، والنفس حَرُونٌ، فإن فَتَرَ سائقُها ضلَّت على الطريق، وإنْ فَتَرَ قائدُها حَرَنَت، فإذا اجتمعا استقامَتْ.
إنَّ النفسَ إذا أُطمعت طَمِعَتْ، وإذا فُوِّضَتْ إليها أساءَتْ، وإذا حَمَلْتَها على أمرِ الله صَلَحَتْ، وإذا تركتَ الأمرَ إليها فَسَدَت، فاحذَرْ نفسك واتهمْها على دينك، وأنزلْها منزلةَ مَنْ لا حاجة له فيها ولا بُدَّ له منها، وإنَّ الحكيمَ يُذِلُّ نفسَه بالمكاره حتى تعترفَ بالحقِّ، وإنَّ الأحمقَ يُخَيِّرُ نفسَه في الأخلاق، فما أَحبَّت منها أحبَّ وما كَرِهَتْ منها كره.
عباد الله: لا شَكَّ أنَّ النفس تكَرهُ مشقةَ الطاعة، وإن كانت تعقُبُ لذَّةً دائمة، وتُحِبُّ لذَّةَ الراحة وإن كانت تعقُبُ حسرةً وندامة، فهي تكرهُ قيامَ الليل وصيام النهار، وتكَرهُ التبكيرَ في الذهاب إلى المسجد، فكم من شخصٍ يجلِسُ الساعات في المقاهي والأسواق ويبخَلُ بالدقائق القليلة يجلِسُها في المسجد، تكرهُ إنفاق المال في طاعة الله، تكرهُ الجهادَ في سبيل الله؛ كما قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة:216].
تكرهُ الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، والدعوةَ إلى الله، تكرهُ القيامَ بالإِصلاح بين الناس، وهكذا ما من طاعةٍ إلا وللنفسِ منها موقفُ الممانع المعادي، فإن أنت أطعْتَها أهلكتك وخَسِرْتَها؛ كما قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)[الزمر:15].
إنْ أنت أطعتَها فقد ظلمتَها، حيثُ عرَّضْتَها لسَخَطِ الله وعقابه، وأهنتها وأنت تظُنُّ أنك قد أكرمتَها، حيث أعطيتَها ما تشتهي، وأرحْتَها من عناءِ العمل ومشقتِهِ، فحرمتَها من الثواب.
عباد الله: والعدوُّ الثاني بعد النفس هو: الشيطان، عدُّ أبينا آدمَ، وعدوُّ البشرية كُلِّها، وقد حذَّرنا الله منه، فقال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)[فاطر:6].
وقال تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)[يس:60].
وقد أمرَنا الله بالاستعاذةِ منه.
ومعناها: أن نستجيرَ بالله من شَرِّه، فإنَّ الشيطانَ الجنيَّ لا يكُفُّه عن الإِنسانِ إلا الله، فإن الشيطان قد يكونُ من الجنِّ، وقد يكون من الإِنس، وقد يكونُ من الدوابِّ، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)[الأنعام:112].
وهم يتعاونُونَ على إهلاكِ بني آدم: شيطانُ الجنِّ بالوسوسة والإِغراء بالشرِّ والتخذيل عن الخير، وهو عدوٌّ خفيٌّ لا يراه الإنسانُ؛ لأنه يجري منه مجرى الدَّمِ، كما قال تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)[الأعراف:27].
ولا يمنع منه جدرانٌ ولا أبواب، وإنما يمنع منه ذكرُ الله.
وأما الشيطانُ الإِنسيُّ، فيراه الإِنسان ويجالسه ويكلِّمُه، ويتلبَّسُ بلباس الدين والإِنسانية، وما أكثرَ شياطين الإِنس اليوم، ومما أكثرَ دعايتهم للشرِّ فهم يدعُون إليه بكل وسيلة، يدعون إلى الإِباحية والرذيلة باسمِ الحرية، يدعون النساءَ إلى الخروج من البيوت، وإلى العُرْي والسفور باسم إخراجها من الكَبْتِ، ويدعُونَ إلى سماعِ الأغاني والمزامير، وتعاطي المخدرات، وشُرب الخمور باسم الترفيهِ، ويدعون إلى إضاعة الصلاة، واتَّباع الشهوات، وتركِ الجُمَعِ والجماعات، باسم التسامُحِ، ويدعون إلى تعطيلِ الشريعة، وتحكيمِ القوانين، باسم العدالة والمرونة، ويدعون إلى الشِّرْكِ والبدع، ويحذَرُونَ من التوحيد، والتمسُّكِ بالسنن، باسم حرية الرأي، وترك الجمود، ويأمرون بالمنكرِ، وينهَوْنَ عن المعروفِ، ويقفون في طريق الدعوة إلى الله، ويصدُّون عن سبيل الله، ويشجعون العُصاةَ، ويُهينون أهلَ الطاعات من المؤمنين والمؤمنان، ويحاولون تعطيلَ الحدود، باسمِ مسايرة الأمم المتحضرة، وإنْ كانت كافرةً.
أولئكم هم شياطينُ الإِنس، وهذه أعمالُهم، وعلاماتُهم، وهم من جنود إبليس، وأعوانُه وإخوانه، فاحذروهم وجاهدوهم، حتى تُوِقفُوا زحفَهم إلى بيوتكم ومجتمعاتكم.
لكن اعلَمُوا -يا عبادَ الله-: أنَّ الشيطانَ الجنيَّ لا تمنَعُ منه الحُجُب والأبواب، ولا يُدْفَعُ إلا بالاستعاذةِ بالله منه ومن شره.
والشيطانَ الإِنسيَّ تمنَعُ منه الحُجُبُ والأبواب، ويُدْفَعُ بالحَذَرِ منه، والابتعاد عنه وهَجْرِه، والردِّ على ما يُدلي به من الشُّبَه والمقالات، والأخذِ على يده، ومنعهِ بالقوة من تنفيذ مخططاتِه، والتنبُّهِ لكيده ومكره.
قالَ الإِمامُ ابنُ القَيِّمِ -رحمه الله-: فإنَّ الله -سبحانه وتعالى- خَلَقَ هذا الآدميَّ واختاره من بينِ سائر البرية، وجعَلَ قلبَه محلَّ كنوزِهِ من الإِيمان والتوحيد والإِخلاص، والمحبة والحياء، والتعظيم والمراقبة، وجَعَلَ ثوابَهَ إذا قَدِمَ عليه أكملَ الثواب وأفضله، وهو النظرُ إلى وجهه، والفوزُ برضوانه، ومجاورته في جنته، وكان مع ذلك قد ابتلاه بالشهوةِ والغضب والغَفْلة، وابتلاه بعدوِّه إبليسَ لا يفتُرُ عنه، فهو يدخل عليه من الأبوابِ التي هي من نفسه وطبعه، فتميلُ نفسُه معه؛ لأنه يدخُلُ عليها بما تُحِبُّ، فيتفقُ هو ونفسه وهواه على العبدِ: ثلاثة مُسلَّطون آمرون ... فاقتضت رحمةُ ربِّه العزيز الرحيم: أَنْ أعانه بجُندٍ آخرين يقاوم بهم هؤلاء الجندَ الذين يريدون هلاكَهَ، فأرسلَ إليه رسوله، وأنزلَ عليه كتابَه، وأيَّده بمَلَكٍ كريم يقابلُ عدوَّه الشيطان، فإذا أمرَه الشيطانُ بأمرٍ أمره المَلَكُ بأمر ربِّه، وبَيَّنَ له ما في طاعةِ العَدُوِّ من الهلاك، فهذا يُلِمُّ به مرةً، وهذا مرة، والمنصورُ مَنْ نصرَه الله -عز وجل-.
والمحفوظُ من حَفِظَه الله -تعالى-، وجَعَلَ له مقابلَ نفسه الأمارة بالسوء نفساً مطمئنة إذا أمرته النفس الأمارة بالسوء نَهَتْه عنه النفسُ المطمئنة.
وإذا نَهَتْه عن الخير أمرتْهُ به النفسُ المطمئنة، وجَعَلَ له مقابلَ الهَوَى الحامل على طاعة الشيطان والنفس الأمارة نوراً وبصيرةً وعقلاً يَرُدُّه عن الذهابِ مع الهوى.
فالحمد لله الذي رَدَّ كيدَ الشيطان باتباعِ السنة والقرآن.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا)[الشمس:1]. إلى قوله: (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس:10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله مُعيذِ مَن استعاذ به، ومُجيرِ من التجأَ إلى جنابه، وأشهدُ أَنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا به، وأشهدُ أَنَّ محمداً عبده ورسوله أرسلَه إلى الناس كافةً بشيراً ونذيراً، وأنزل عليه كتابه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعدُ:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى- واعتصموا بحبله، وكونوا من حزبه: (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)[المائدة:56].
عبادَ الله: هناك حزبانِ:
حزبُ الله -تعالى-، وحزبُ الشيطان.
فحزبُ الله: هم الذين آمنوا به، واتَّبعوا رسلَه، وجاهدوا في سبيله.
وحزبُ الشيطان: هم الذين آمَنُوا بالباطل، وكفروا بالله، أولئك هم الخاسرون.
والله يدعو إلى دارِ السلام.
ورسوله يدعو إلى الإسلام.
والشيطانُ يدعو حزبَه ليكونوا من أصحاب السعير: (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)[البقرة:221].
فَمِن استجابَ لدعوةِ الله، فهو من حزبِهِ، قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النساء:69].
ومَنِ استجابَ لدعوة الشيطان؛ فأضاعَ الصلاة، واتبعَ الشهواتِ، واستمعَ إلى أصوات المعازف والقينات، بدلاً من الاستماع إلى السُّوَرِ والآيات، وأضاعَ الأوقات، باللَّهْوِ والغفلات، فلا شَكَّ أنه من حِزْبِ الشيطان، لا سيَّما إذا صارَ مع ذلك يدعو إلى الباطِل، ويحاولُ صرفَ المسلمين عن كتاب ربِّهم، وسنة نبيِّهم، ويجلبُ المبادئَ الهدَّامة، والأفكارَ المنحرفة إلى مجتمع المسلمين.
فاحذَرُوا حزبَ الشيطان، واستعيذوا بالله من شَرِّهم، ولا تنخدعوا بدعاياتِهم ومظاهرِهم مهما تظاهَرُوا لكم بالمحبة والنصح، فقد قالَ قائدهُم وإمامُهم إبليس لأبينا آدم -عليه السلام-: (يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى)[طه:120].
بل غَرَّرَ بالأبوين -عليهما السلام- بأنْ حَلَفَ لهما أنَّهُ لا يُريدُ لهما إلاَّ النُّصْحَ، كما قال الله -تعالى-: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)[الأعراف:21].
فانخدعا بذلك ووقعا في المعصيةِ التي حَذَّرَهما الله منها، وعوقبا بالإِخراج من الجنة، ثم مَنَّ الله عليهما بالتوبة.
وقد حذَّركم الله من هذا العدوِّ، فقال: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ)[الأعراف:27].
وجنودُ الشيطان وأعوانه اليوم كثيرون يدعُون إلى الإِباحية والكُفرِ والضَّلال، باسم التقدُّمِ والرُّقِيِّ والحضارة، وقد انخدعَ بهم كثير من الناس إلا مَنْ رحمه الله.
فاتقوا الله -عبادَ الله-، واحذَروا من دسائسِ الشيطان وأعوانه.
واعلَمُوا أنَّ خيرَ الحديث كتاب الله ... إلخ.
التعليقات
زائر
30-12-2020جزاكم الله خيرا
زائر
11-06-2023جزاكم الله خيرا