عناصر الخطبة
1/ كثرة وقوع الفتن في زماننا 2/ صورٌ من تلك الفتن خصوصاً فتنة النساء 3/ من آثار تلك الفتن 4/ المخرج من الفتن 5/قصة تبين عاقبة التفسخ والانحلال

اقتباس

ونحن في هذا الزمان وقعنا في أخطار كثيرة، وأحاطت بنا شرور وفتن مستطيرة، لكن الله -تعالى- يعلم كل شيء، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض، فإذا علم من عبده الصدق والعمل نجاه وحفظه؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) [الطلاق:2].

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين، حذرنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له يعلم السر والعلن، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أمر عند ظهور الفتن بالاعتصام بالكتاب والسنن، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، واعلموا أن الإنسان، حينما يقع في خطر من الأخطار إما أن يفكر في أسباب النجاة، ويأخذ بها فينجو، وإما أن يستسلم ويترك الأسباب التي بها نجاته فيهلك.

 

ونحن في هذا الزمان وقعنا في أخطار كثيرة، وأحاطت بنا شرور وفتن مستطيرة، لكن الله -تعالى- يعلم كل شيء، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض، فإذا علم من عبده الصدق والعمل نجاه وحفظه؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) [الطلاق:2].

 

وقد أخبرنا نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- عن وقوع الفتن في آخر الزمان، وبين لنا أسباب النجاة منها؛ فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، قال: سمعت رسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ألا إنها ستكون فتن"، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم" رواه أحمد والترمذي. وقال -صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي".

 

ومن الفتن التي عمت وطمت في هذا الزمان ما تجلبه وسائل الإعلام من شرور كثيرة: مقالات مزيفة، وخطب مضللة، وصور نساء فاتنات ثابتة ومتحركة، وأغانٍ مثيرة، وتمثيليات مغرضة يقصد بها تزيين الفاحشة، وتعليم السرقة، وتعرض برامج عملية للتدريب على الجريمة!.

 

أيها المسلمون: لقد أصبح كثير من البيوت خالياً من ذكر الله والصلاة، أضحى مسرحاً للفتن وألوان الضلالات، حل فيه الشيطان وتجنبته ملائكة الرحمن؛ ولهذا تجد كثرة الأمراض النفسية، من اكتئاب تتعدد أعراضه؛ فمِن توهُّمٍ بالإصابة بالعين، إلى حدوث خوف وهلع عند آخرين، ومنهم من ينعكس اكتئابه حينما يتوضأ للصلاة على شكل وسواس قهري، وتظهر بعض أعراض الاكتئاب على صاحبه بما يسمى بمرض القولون العصبي، ولون رابع يتوهم كثيراً، إلى غير ذلك؛ مما استدعى فتح عيادات نفسية، بل ومجمعات طبية خاصة للأمراض النفسية، وعمد آخرون من المدعين الطب النفسي إلى فتح بيوتهم كعيادات قراءة على المرضى النفسانيين، فلم يزيدوهم إلا رهقاً! نسأل الله العافية والسلامة للمسلمين جميعاً! والحمد لله رب العالمين.

 

عباد الله: ومع كل تلك السلبيات، لا تزال بعض الجهات تعلن للشباب خاصة، تدعوهم لحضور السهرات، والمشاركة في المسرحيات، والفنون الشعبية، والموسيقى، ونحوها! إنها فتن عظيمة، وأخطار مخيفة، فاحذروا منها يا عباد الله، واحفظوا أولادكم، واستعينوا بالله، واصبروا.

 

ألا وإن من الفتن المخيفة في هذا الزمان فتنة النساء، حذر منها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- إذ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" متفق عليه. يقول ذلك -صلى الله عليه وسلم- وهو أنصح الناس لأمته، كما أنه يرى بنور الله -تعالى-، فلا ينطق عن الهوى.

 

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" رواه مسلم.

 

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" رواه مسلم.

 

عباد الله: لقد عظمت الفتنة بالنساء في هذا الزمان، لقد تبرجن في الأسواق، وعرضن أجسامهن أمام الرجال، لابسات أفخر الثياب، ومتطيبات بأزكى الأطياب، ومشين بملابس ضيقة تبرز أحجام أعضائهن، ووضعن على وجوههن أغطية شفافة من باب المخادعة، ومنهن من يكشفن عن وجوههن وأذرعتهن أمام أصحاب المعارض والصاغة، ومنهن من يذهبن إلى محلات التجميل ليلة الزفاف، وربما يتولى تجميلهن الرجال! وتذهب إلى المشاغل النسائية للثياب لتأخذ المقاس الذي يناسبها، ويلائم ذوقها كما حددته لها برامج الدعاية، وربما تولى ذلك معها رجل أجنبي أيضاً.

 

ولا تستوحش بعض النساء من الركوب مع سائق أجنبي ولو كانت وحدها، كما لا تمانع أن تذهب إلى الطبيب في عيادة خاصة ويخلو بها بدون محرم، إلى غير ذلكم من أنواع الفتن.

 

وأخريات يكلمن المذيعين يطلبن أغنية معينة أو أخرى، ويتجاذبن أطراف الحديث معه، والذي يتخلله مزاح وضحك؛ كل ذلك نشراً للميوعة، وعوناً على تذويب معاني الحشمة الذي تتميز به مجتمعاتنا.

 

والداهية العظمى ما نقرؤه في بعض الصحف بين آنٍ وآخرَ من مطالبة ملحَّة لتعمل المرأة مع الرجل في المكاتب، والمتاجر، وغيرها؛ أسوة بنساء الدول الكافرة، أو بعض الدول الإسلامية التي أضاعت دينها وأفقرت شعبها ولا تقيم للفضيلة وزناً، ولا تحسب للأخلاق حساباً، يتولى كِبْر تلك المطالبات حفنة قليلة من الإعلاميين، أو الكتاب، لا يمثلون المجتمع على الإطلاق، ولا يعبرون عن رأيه البتة، لكنهم ممكنون من الكلام ونفث سمومهم، فتصل آراؤهم إلى مواقع كثيرة، وكأنها رأي للجميع، بينما يحجب الرأي الآخر الذي يمثل القطاع العريض من المجتمع ولا ينشر إلا القليل من مقالاتهم.

 

ومن الفتن استقدام بعض الناس مربيات أو خادمات أجنبيات قد يكون بعضهن غير مسلم أو على غير مذهب أهل السنة كالرافضة والباطنيين، هذا في الوقت الذي ينادي فيه المجرمون بأعلى أصواتهم أن أخرجوا المرأة للعمل! ولماذا نصف المجتمع مشلول؟!.

 

إن العاقل الذي يغار على دينه، وعرضه، وعرض مجتمعه والمسلمين عامة، لا يقدم على جلب الخدم إلا مضطراً؛ ومع ذلك تتعين عليه المراقبة الدائمة، وعدم تسليم القياد المطلق لغيره، بل يلاحظ تحركاتها وتصرفاتها داخل البيت، وخاصة مع الأولاد البالغين. وإذا كان سائقاً فمع البنات البالغات؛ لأن التجربة -وهي أعظم برهان- أثبتت أحوالاً لا يرضاها الجميع، وحوادث يندى لها الجبين، في الحديث: قال -صلى الله عليه وسلم- : "ما خلا رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان". حمانا الله جميعاً والمسلمين وحفظنا من كل سوء ومكروه.

 

أيها المسلمون: اعلموا أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، ولن يتخلى عمن لاذ به واستجار، ففي الحديث الذي رواه حذيفة، وأخرجه الحاكم في مستدركه، وقال صحيح على شرط الشيخين، قال -صلى الله عليه وسلم-: "تكون فتنة لا يُنجِّي منها إلا دعاء كدعاء الغرقى".

 

اللهم يا منجى الهلكى، ومنقذ الغرقى، ويا عالم السر والنجوى، يا خير الراحمين، يا عفو يا كريم، لا نتقدم بين يديك، ولا نزكي أنفسنا عليك، تعلم كرهنا وبغضنا ومقتنا لكل ما يخدش الفضيلة، أو ينتهك عفاف مجتمعاتنا الإسلامية، اللهم فاحفظنا، وتول أمرنا، ودافع عنا أعداءك وأعداءنا، مَن علمناه ومن لم نعلمه. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله اللطيف الخبير، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الرؤوف الرحيم، يمهل رحمةً بعباده لعلهم يفيئون إليه ويرجعون، لكنه يغار على دينه ولا يهمل الضالين، وأخْذه أليم شديد.

 

والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد: أيها المسلمون، أسوق إليكم قصة رواها أحد الأطباء من هذا البلد ممن سافروا لإكمال دراساتهم العليا في كندا، لصلتها بالموضوع السابق، إذ النتيجة الحقيقية للتفسخ والانحلال والاختلاط هي فشو الأمراض التي لم تكن فيمن سبقنا كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، وليدَّكر من ابتلي بالعلاقات الجنسية المحرمة، أو بشيء منها، فالخاتمة مرض وفضيحة، والمصير نارٌ تلظى، والسعيد من وعظ بغيره.

 

يقول الدكتور: كنت أقوم بالمرور اليومي على المرضى في غرفة العناية المركزة في ذلك المستشفى الكندي الذي أتابع فيه الدراسة الطبية العليا، لفت انتباهي اسم المريض... محمد... نظرت إليه ملياً، أتفحص ملامحه، وأتفرس قسمات وجهه الذي كاد يتوارى من كثرة الأنابيب وأجهزة الإنعاش، إنه شاب في الخامسة والعشرين من العمر مصاب بمرض نقص المناعة (الإيدز)، أُدخل المستشفى قبل يومين بالتهاب حاد في الرئة، وحالته خطرة جداً، وشبه ميؤوس منها.

 

لم يكن هذا أول مريض مسلم في بلاد الغرب أعالجه، ولكني أحسست نحوه بشعور خاص لا أعرف سببه.

 

بعد انتهاء المرور الصباحي، اختلست لحظات واقتربت من هذا الشباب، حاولت أن أكلمه برفق، إنه يسمعني، ولكنه لا يستطيع أن يجيب إلا بكلمات غير مفهومة، اتصلت ببيته، ردت عليّ أمه، يبدو أنهم من أصول عربية وأبوه تاجر كبير في تلك المدينة، شرحت للأم حالة ابنها، وأثناء حديثي معها بدأت أجراس الإنذار تتعالى بشكل مخيف من الأجهزة الموصلة بذلك الفتى مؤشرة على هبوط حاد في الدورة الدموية، ارتبكت في حديثي مع الأم، وقلت لها: لا بد أن تحضري الآن. قالت: أنا مشغولة في عملي سوف أحضر بعد انتهاء الدوام. قلت لها: ربما يكون الوقت متأخراً، وأغلقت السماعة.

 

بعد نصف ساعة طُلب مني أن أحضر للقاء والدة المريض، امرأة في متوسط العمر، لا تبدو عليها مظاهر الإسلام، بدت مضطربة.

 

شرحت لها الوضع الحرج لابنها، انهارت باكية، حاولت تهدئتها، قلت لها: اسألي الله له الشفاء. نظرت إليَّ بدهشة، وقالت: ماذا تقول؟ قلت: تعلقي بالله، واسألي له الشفاء. قالت: أنت مسلم؟ قلت الحمد لله. قالت: نحن مسلمون كذلك. قلت: ما شاء الله، لماذا لا تذهبين عند رأسه، وتقرئين عليه شيئاً من القرآن؟ لعل الله أن يخفف عنه؟ وانتفضت بارتباك، وقد أجهشت في بكاء مرير، قالت: لا أعرف. قلت: كيف تصلين؟ قالت: نحن لا نصلي إلا في العيد منذ أن أتينا إلى هذا البلد، ولكني أذهب لزيارة أضرحة أجدادي في بلدي كل عامين، وأدعو لهم دون علم زوجي، أنا امرأة متدينة.

 

سألتها عن حال ابنها، قالت: كان طيب القلب، يحب الحياة، ولكنه انحرف قليلاً في السنة الماضية مع تلك الفتاة التي استولت عليه، وكان حاله على أحسن ما يرام. قلت: هل كان يصلي؟ قالت: لا، ولكنه كان ينوي أن يحج في آخر عمره.

 

اقتربت من الفتى وهو يعالج سكرات الموت، أجهزة المنبه تتعالى، الأم تبكي بصوت مسموع، والممرضات ينظرن بدهشة، وجاهداً حاولت أن ألقن الفتى الشهادتين لكنه لا يستجيب، عاودت المحاولة مرات عديدة، وبدأ الفتى يفيق شيئاً ما، قل لا إله إلا الله، يحاول المريض بكل جوارحه والدموع أخذت تفترّ من أطراف عينيه، وجهه يتغير إلى السواد. قل لا إله إلا الله، لقد بدأ يتكلم بصوت خافت مرتجف: آه، آه ألم شديد، أريد مسكناً للألم! قل لا إله إلا الله، الفتى يحاول وشفتاه ترجفان، ثم تكلم، ولكن بماذا؟ قال باللغة الإنجليزية: لا أستطيع، لا أستطيع، أريد صديقتي، أريد صديقتي، لا أستطيع!.

 

النبض يتناقص، والتنفس يتلاشى، لم أتمالك نفسي، أخذت أبكي بحرقة، وأعاود المحاولة: أرجوك قلها، فيجيبني: لا أستطيع. وقف النبض وأنا ممسك بيده في ذهول تام، والأم مرتمية على صدره تصرخ، ووجه الفتى غطاه سواد كالح، لم أتمالك نفسي، ونسيت كل الأعراف الطبية، وذهلت من حساسية الموقف، انفجرت صارخاً مخاطباً الأم: أنتِ المسؤولة أنت وأبوه، ضيعتم الأمانة، ضيعكم الله.

 

وهكذا يقفل ملف العمل! (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية:21]، قال ابن القيم: فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان، واستعمله فيما يريده من معاصي الله، فكيف الظن به عند سقوط قواه، واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع، وجَمَعَ الشيطان عليه كل قوته وهمته لينال منه فرصته، فأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت، وأضعف ما يكون هو في تلك الحال، فمن ترى يسلم من ذلك؟ فهناك (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم:27].

 

اللهم أحسن خاتمتنا في الأمور كلها، وثبتنا على الحق في جميع أحوالنا، ومُنَّ علينا بالثبات على دينك في الحياة وعند الوفاة.

 

اللهم...

 

المرفقات
في-التحذير-من-الفتن.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life