عناصر الخطبة
1/تيسير الإسلام ورفعه للحرج 2/الطرق الشرعية لدخول رمضان وخروجه 3/محاذير تشكيك أدعياء علم الحساب الفلكي في دخول رمضان وخروجه 4/الاجتهاد في تحرِّي هلال رمضان 5/مفاسد الاعتماد على الحساب الفلكي في دخول رمضان 6/الرد على أدعياء علم الحساب الفلكي7/صيام يوم الشك بين التحريم والجوازاقتباس
أما الشهادةُ بخروجِ شهر رمضان، فلا بُدَّ فيها من شهادةِ رجلين، قال الإِمام ابنُ القيم -رحمه الله-: وكانَ من هَدْيِه صلى الله عليه وسلم أمرُ الناس بالصومِ بشهادةِ الرجل الواحد المسلم، وخروجِهم منه بشهادةِ اثنين. وذلك -والله أعلم-؛ لأنَّ الدخولَ لا تُهمةَ فيه، فقُبل فيه خبرُ الواحدـ، ولأنه أحوطُ للعبادة. وأمَّا الخروجُ؛ فلوجودِ التُّهمةِ فيه بالرغبة في الإِفطار، لم يُقْبَلْ فيه إلا...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الذي جعلَ الأَهِلَّةَ مواقيتَ للناس، يعرفون بها أوقاتَ عباداتِهم وآجالَ معاملاتهم، وأشهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، ولا نعبُدُ إلا إيَّاهُ له الملك وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، وأشهَدُ أَنْ محمدًا عبدهُ ورسوله، حدَّدَ لأُمَّتِه بدايةَ الصيام ونهايتَه، فقال: "صُوموا لرؤيتِه، وأفطِروا لرؤيتِه، فإنْ غُمَّ عليكم فأكمِلُوا عدَّة شعبانَ ثلاثينَ يومًا" صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أما بعدُ:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى- واشكُروه على تيسيرِه: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ)[الحج:78].
(مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ)[المائدة:6].
ومن تيسيرِ الله ورفعِه الحرج عنا: أَنْ حدَّدَ بداياتِ مواقيت العبادات ونهايتَها بعلامات واضحة، يعرِفُها كلُّ أحدٍ من العامة والمتعلمين.
ومن ذلك: بدايةُ شهر رمضان المبارك ونهايتهُ، قالَ صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا حتى تَرَوُا الهلالَ، ولا تُفطروا حتى تروه؛ فإنْ غُمَّ عليكم؛ فأَكْمِلُوا العُدَّةَ ثلاثين".
فقد بيَّن صلى الله عليه وسلم أنه يجبُ الصيام والإِفطارُ بأَحدِ أمرين: رؤيةِ الهلال، أو إكمالِ عدة الشهر ثلاثين.
وإذا رآه واحدٌ من المسلمين عند دخوله ثبتَتْ بدايةُ الشهر، ولَزِمَ المسلمين الصيامُ، فليس من شرطِه: أن يراهُ جماعةٌ من الناس، قالَ جابر -رضي الله عنه-: جاء أعرابيٌّ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: إنِّي رأيتُ الهلالَ -يعني: هلالَ رمضان-: فقالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أتشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله؟"؛ فقال: نعم، قال: "أتشهَدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله؟" قال: نعم، قال: "يا بلالُ، أَذِّنْ في الناس أن يصوموا غداً"(رواه أبو داود).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قالَ: "تراءَى الناسُ الهلالَ، فأخبرتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أنِّي رأيتُه، فصامَ وأمرَ الناسَ بصيامه".
وأما الشهادةُ بخروجِ شهر رمضان، فلا بُدَّ فيها من شهادةِ رجلين، قال الإِمام ابنُ القيم -رحمه الله-: وكانَ من هَدْيِه صلى الله عليه وسلم أمرُ الناس بالصومِ بشهادةِ الرجل الواحد المسلم، وخروجِهم منه بشهادةِ اثنين. انتهى.
وذلك -والله أعلم-؛ لأنَّ الدخولَ لا تُهمةَ فيه، فقُبل فيه خبرُ الواحدـ، ولأنه أحوطُ للعبادة.
وأمَّا الخروجُ؛ فلوجودِ التُّهمةِ فيه بالرغبة في الإِفطار، لم يُقْبَلْ فيه إلا شهادةُ عدلين، واحتياطٌ للعبادة، ولأنَّ الأصلَ بقاءُ رمضان، ولا يخرجُ عن الأصلِ إلا بيقين.
والأمر الثاني: مما أَمَرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن يُصام وَيُفْطَرَ بموجبه: إكمال الشهر ثلاثين يوماً، عندما لا يرى الهلال؛ لأنَّ الأصلَ بقاءُ الشهر، واحتياطاً للعبادة في الخروج.
وإذا كان الأمرُ كذلك، فإنَّ مَنْ زعمَ أنه يُصامُ ويفطر بغير هاتين العلامتين اللتين حدَّدهما رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لأمتِه، كمن يقولُ: "إنه يُصامُ ويُفطرُ بناءً على خبرِ الحاسب، وخبر الفلكيين، فقد زادَ على ما شَرَعَهُ الله ورسوله، وأجمعَ عليه المسلمون، زادَ علامةً ثالثة ابتدعها من عنده: "وكل بدعة ضلالة".
فإنَّ هناك جماعةً من أدعياءِ علم الحساب الجهلة يشوِّشُون على الناس كلَّ عام، ويُشَكِّكون في رؤيةِ الهلال، ويغلِّطُون من رآهُ، ويتهمونه بالكذب إذا خالف تخرُّصاتهم، ويريدون من المسلمين أن يبنوا صومَهم وفطرَهم على قولِ أهل الحساب؛ لأنَّهم بزعمِهم أضبطُ، وفي هؤلاء يقول شيخُ الإِسلام ابنُ تيمية -رحمه الله-: "إنِّي رأيتُ الناسَ في شهرِ صومهم، وفي غيره أيضاً منهم مَنْ يُصغي إلى ما يقوله بعض جهال أهل الحساب من أنَّ الهلالَ يُرى أو لا يرى، ويَبني على ذلك إما في باطنِهِ، وإما في باطنه وظاهِره، حتى بلغني أنَّ مِنَ القضاةِ مِنَ كانَ يردُّ شهادةَ العدد من العدولِ لقولِ الحاسب الجاهل الكاذب أنه يُرى أو لا يُرى، فيكونُ ممَّنْ كَذَبَ بالحقِّ لَمَّا جاءه -إلى أن قال-: فإنَّنا نعلَمُ بالاضطرار من دين الإِسلام أنَّ العملَ في رؤية هلال الصوم، أو الحج، أو العدة، أو الإِيلاء، أو غير ذلك من الأحكام المعلَّقة بالهلال بخبرِ الحاسب أنه يُرى أو لا يرى، لا يجوزُ...
والنصوص المستفيضة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك كثيرة، وقد أجمعَ المسلمون عليه ولا يُعرف فيه خلافٌ قديم أصلاً، ولا خلافٌ حديث. انتهى.
وقولُ هؤلاءِ الجهال يُعتبرُ بدعةً في الدين؛ لأنَّه مخالفٌ لِما أمرَ به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد قالَ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنَا، فهو رَدٌّ".
وفيه طعنٌ بالشهود العدول، ووصفُهم بالكذب والزُّورِ، وفيه بلبلةٌ لأفكارِ العوامِّ، وتشويشٌ على المسلمين، وفيه طعنٌ في القضاة واتهامُهم بالتساهُلِ في قبول شهادة الشهود، وفيه إبطالُ لحكمِهم بذلك، وفيه طعنٌ في ولاة أمور المسلمين الذين يُنفذون حكمَ القضاة، ويأمُرون الناس بالصوم والفطر بموجبه.
وهذا الذي يقولونه مع أنه يتضمَّنُ كل هذه المحاذير، وأكثر منها فيه تعريضٌ لصيام المسلمين وإفطارِهم للخَطَرِ، فإنَّ عملَ الحاسب عرضةٌ للخطأ؛ لأنَّهُ عملٌ بَشَري، ولا يخلو من التخرُّصِ، وهو أيضًا إحراجٌ وتضييق؛ لأنَّ الحسابَ لا يعرِفُه كلُّ أحدٍ، ولا يتوفر المختصون فيه في كل زمان ومكان، لو فرضنا صحةَ الأخذ به، وسلامتَه من الخطأ، وهو فرضٌ بعيد.
ودينُنا مبنيٌّ على اليُسر والسهولة -والحمد لله- لا تعقيدَ فيه؛ ولذلك أحالَ المسلمين في فطرهم وصيامهم على علامةٍ واضحة يعرفُها كلُّ أحد، وفي كلِّ مكان وزمان، للحاضرة والبادية، للجماعات والأفراد، للمتعلمين والعوام.
فالحمدُ لله على التيسيرِ.
فلا تغترُّوا -أيها المسلمون- بما يقولُه هؤلاء، فإنه شذوذٌ وجهلٌ وشرعُ دين لم يأذَنْ به الله.
صُوموا مع جماعة المسلمين وأفْطِرُوا؛ كما أمرَكُم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم= بذلك في قولِه: "صَوْمُكم بومَ تصومون، وفِطْرُكم يوم تُفطرون"(رواه الترمذي وغيره).
وقال الإِمام أحمد وغيره: "يصومُ ويُفْطرُ مع الإِمام وجماعة المسلمين، في الصحوِ والغيم، وقال: "يدُ الله على الجماعة".
ولو قُدِّرَ أنَّ المسلمين اجتهدوا في تحرِّي الهلال ليلةَ الثلاثين فلم يروْه؛ فأكملوا الشهرَ ثلاثين، ثم تبيَّنَ بعد ذلك أنه قد رئيَ في تلك الليلة، فإنهم يقضُون اليومَ الذي أفطَروه، ولا حَرَجَ عليهم، وهم معذورون ومأجورون.
وأما لو صاموا بخبرِ الحاسب؛ فإنهم آثمون ولو أصابوا؛ لأنَّهم فعلُوا غيرَ ما أُمروا به، ثم إنَّ عملَهم بقول الحاسب قد يؤدِّي إلى أن يصوموا قبلَ وقت الصيام، وقد نَهَىَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن تقدُّمِ رمضان بصوم يوم أو يومين.
قال عليه الصلاة والسلام: "لا تقدِّموا الشهرَ بصيام يوم ولا يومين"[رواه أبو داود].
كما أنَّ عملهم بذلك قد يؤدِّي إلى أن يُصامَ يوم الشكِّ، وهذا يخالفُ قولَه صلى الله عليه وسلم: "فإن غُمَّ عليكم فأكملُوا عُدةَّ الشهر ثلاثين".
وقال عمارُ بن ياسر -رضي الله عنه-: "مَنْ صامَ اليوم الذي يُشَكُّ فيه، فقد عَصَى أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم-" (رواه أصحاب السنن وصححه الترمذي، ورواه البخاري تعليقًا).
وقد يؤدي العملُ بقول الحاسب إلى التأخُّرِ في الصيام عن أول الشهر.
قد يقول بعضُ المتحذلقين: أنَّ العلمَ قد تطوَّرَ، ويعنون بالعلمِ تقدُّمَ الصناعة، والمخترعات الحديثة، والدراسات الفلكية، ويقولون: إنَّ علمَ الحساب قد تطوَّرَ، وصار بإمكان الحاسب أن يعرفَ ما إذا كان الهلالُ يُرى أو لا يرى.
ونقول لهؤلاء:
أولاً: علمُ الحساب كان موجودًا من قديم، ولم يعوِّلْ عليه الشارعُ؛ لأنه عُرضةٌ للخطأ والاختلاف؛ فأهلُ الحسابِ لا يتفقون أبدًا.
ثانيًا: العباداتُ توقيفية مدارُها على الأمرِ والنهي، وقد أمرَ الشارعَ بالصوم لرؤيةِ الهلال، والفطرِ لرؤيته، ونَهَى عن الصوم والإِفطار بدونِ رؤيةِ الهلال، وإكمال ثلاثين، تيسيرًا على العبادِ، وإبعادًا لهم عن الشُّكوكِ والأوهامِ عَلَّقَ الحكمةَ على شيءٍ محسوس ليس فيه مجالٌ للاختلاف.
ولا مانعَ من استعمال الآلاتِ التي تُساعد على الرؤيةِ، كالمراصد والمناظر المكبرة إذا تيسَّرَ ذلك بدون تكلُّفٍ، ولسنا مُلْزَمين بإيجادها واستعمالِها، لكن لو وُجدت فلا مانعَ من الاستعانةِ بها.
فاتقوا الله -أيها المسلمون-: وتقيَّدُوا بما شَرَعَه الله لكم؛ فإنَّ فيه الكفايةَ والهداية.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[البقرة:189].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله الذي أنعَمَ علينا بنعمه الباطنة والظاهرة، وأشهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، شهادةً أدَّخِرُها للدارِ الآخرة.
وأشهَدُ أن محمداً عبدهُ ورسوله المؤيَّدُ بالمعجزات الباهرة، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أما بعدُ:
أيها الناس: اتقوا الله -تعالى-، واعلموا أنَّ خيرَ الحديث كتاب الله -تعالى-، وخيرَ الهَدْيِ هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتها.
واعلَمُوا: أنه لا يجوزُ صومُ يوم الشك، وهو يوم الثلاثين من شعبان إذ لم يُرَ هلالُ رمضان بسببِ الغيم أو القتر؛ لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أمرَ باعتبارِ هذا اليوم من شعبان، حيثُ قال: "فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عدةَ شعبان ثلاثين"(رواه البخاري).
ويجوزُ صومُ هذا اليوم تطوعاً، إذا كان عادته صيام الاثنين والخميس، وصادَفَ يومُ الشك أحدَ هذين اليومين، فإنه يصومُه تطوُّعاً على عادتِه، وكذا مَنْ عليه قضاءٌ من رمضان سابق، فإنه يصومُ هذا اليوم عن ذلك القضاء؛ لأنَّ الممنوعَ صيامُهُ على أنه من رمضان الجديد من باب الاحتياطِ، أو اعتماداً على قوم أهلِ الحساب أنه من رمضان، لأنَّ ذلك بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
اللهم صَلِّ وسلِّم على نبينا محمد ... الخ.
التعليقات