فن التغافل والتجاهل

خالد بن عبدالله الشايع

2024-10-07 - 1446/04/04
عناصر الخطبة
1/ الإنسان مدني بطبعه 2/تنوع طبيعة العلاقات بين البشر 3/أهمية التجاهل والتغافل 4/الفرق بين التغافل والتجاهل 5/من صور التجاهل في القرآن والسنة 6/فوائد استخدام أسلوب التجاهل والتغافل.

اقتباس

التغاضي والتغافل لغةٌ لا يفهمها إلا أصحاب الإرادة القوية والنفوس الراقية التي تُقدّر الشعور الإنساني، ولا تريد أن تخدش حياء الناس أو تكسر خاطرهم، وذلك بالترفع عن الدنايا التي لا تُؤثّر في الحقوق، ولا تُقِرّ منكرًا ولا تهدم معروفًا...

الخطبةُ الأولَى:

 

أما بعد: فيا أيها الناس: إن الإنسان مدنيّ بطبعه، يألف ويُؤلَف، ومع تلك العلاقات التي قد تكون بعضها هبة من الله ونعمة، والتي يُعدّ بعضها ابتلاء وأذى، كلّ بحسب طبيعته وتربيته، فقد خلق الله الناس من ماءٍ وطين، بعضهم غلب ماؤه طينَه فصار نهرًا، وبعضهم غلب طينُه ماءَه فصار حجرًا.

 

وقد يكون الشخص حينها في حيرة من أمره؛ كيف يتعامل مع تلك العلاقات، سواء كانت ذات قرابة أم لا، فكان لا بد من التجاهل والتغافل، وهذا فنّ في التعامل يجب على المرء أن يتعلمه ويستخدمه في حياته، والفرق بين التغافل والتجاهل بسيط ودقيق، وهو أن: التغافل: رسالة ودّ واحترام. وأما التجاهل: فهو دلالة إهمال وازدراء.

 

فالتغافل: وسيلة لتنبيه الشخص أنك حريص على دوام الود معه، وأنه يعنيك أمره. وقد قيل: إن التغافل معناه أن تغضّ الطرف عن الهفوات، وألا تُحصي السيئات، وأن تترفع عن الصغائر، ولا تُركِّز على اصطياد السلبيات، فهو فنّ راقٍ لا يُتقنه إلا محترفو السعادة؛ قال أبو الطيب المتنبي:

لَيْسَ الْغَبِيُّ بِسَيِّدٍ فِي قَوْمِه *** لكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ المُتَغَابِي 

أَيْ: المُتَغَافِل.

 

أما التجاهل: فهو انتقام راقٍ وصدقة على فقراء الأدب؛ فمن كمال الأدب: تجاهلك لقليل الأدب، ومن تمام الذوق إعراضك عن عديم الذوق.

 

ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُسوة حسنة في سورة التحريم عندما أسرَّ إلى بعض أزواجه حديثًا؛ قال -تعالى-: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ)[التحريم: 3]، ومعنى (وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ)؛ أي تجاهل، ولم يحقّق، ولم يدقق في كل الأمور رغم علمه بها.

 

ومن صور تجاهل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن كفار قريش كانوا يسبونه وينادونه مذممًا، فما كان منه إلا أنه قال: "أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ؛ يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا، وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا، وَأَنَا مُحَمَّدٌ"(أخرجه البخاري في صحيحه).

 

ومن صور التجاهل في القرآن الكريم: ما أرشدنا إليه في قوله -تعالى- في سورة الفرقان: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا)[الفرقان: 63]، والجاهل: هو السفيه الذي لا يزن الكلام، ولا يضع الكلمة في موضعها، ولا يدرك مقاييس الأمور لا في الخُلق ولا في الأدب.

 

ومنها قوله -تعالى- في سورة القصص: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)[القصص: 55].

 

والتجاهل يكون لمن ساء خُلقه من الناس؛ ففي الصحيحين من حديث أَنسٍ قَالَ: كُنتُ أَمْشِي مَعَ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانيٌّ غلِيظُ الحَاشِيةِ، فأَدْركَهُ أَعْرَابيٌّ، فَجَبَذهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَديدَةً، فَنظرتُ إِلَى صَفْحَةِ عاتِقِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وقَد أَثَّرَتْ بِها حَاشِيةُ الرِّداءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِن مالِ اللَّهِ الَّذِي عِندَكَ؛ "فالتَفَتَ إِلَيْه، فضَحِكَ، ثُمَّ أَمر لَهُ بعَطَاءٍ".

 

اللهم ارزقنا حُسن الخُلق، وأعِذْنا من سوئه يا رب العالمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: فيا أيها الناس: لقد حثَّ علماء السلف وحكماؤهم على استخدام أسلوب التجاهل والتغافل، وبيَّنوا أنه من أسباب التراضي وزرع الحب في قلوب الناس؛ فمن ذلك قول الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "تسعة أعشار حُسْن الخُلق في التغافل". وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "ما زال التغافل مِن فِعْل الكرام".

 

ويقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "ما يزال التغافل عن الزلات من أرقى شِيَم الكرام، فإنَّ الناس مجبولون على الزلات والأخطاء، فإن اهتم المرء بكل زلة وخطيئة تعب وأتعب، والعاقل الذكي مَن لا يُدقِّق في كل صغيرة وكبيرة، مع أهله، أحبابه، وأصحابه، وجيرانه، وزملائه، كي تحلو مجالسته، وتصفو عشرته".

 

وهنالك آيات كثيرة في القرآن الكريم ترشدنا إلى التغاضي والإعراض عن جهل الجاهلين والدعوة إلى السماحة والعفو والتغافل عن الأخطاء.

 

والتغاضي والتغافل لغة لا يفهمها إلا أصحاب الإرادة القوية والنفوس الراقية التي تُقدّر الشعور الإنساني، ولا تريد أن تخدش حياء الناس أو تكسر خاطرهم، وذلك بالترفع عن الدنايا التي لا تُؤثّر في الحقوق، ولا تُقِرّ منكرًا ولا تهدم معروفًا، بل هي من سفاسف الأمور.

 

ولما كانت طبيعة الإنسان قد جُبِلَت على ارتكاب بعض الأخطاء والزلل فـ"كل ابن آدم خطاء"، و"كلنا ذوو خطأ"، فلا بد من التغاضي حتى تستقيم الحياة خاصةً بين الأزواج والأقرباء والجيران والأصدقاء وزملاء العمل.

 

وإذا أردتَ أن يدوم لك الود فلا تحقّق ولا تدقّق، ودع عنك ماذا وكيف وأين ومتى؛ لأن التحقيق والتدقيق هادم لجسور الحب بين الناس.

 

ومن أمثلة التغافل بين الإخوان: ما قاله -تعالى- حاكيًا عن تغافل يوسف وتجاهله؛ (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ)[يوسف: 77].

 

كم من مشاكل أُثيرت بسبب تافه! فمثلاً بين الزوجين بسبب تأخُّر في موعد أو زيادة ملح في طعام، أو تأخُّر الزوجة في إعداد الطعام.

 

حتى مع الخدم والعمال استخدِم هذا الخُلق، ففي الصحيحين من حديث أنس -رضي الله عنه-: "خدمتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عشرَ سنينَ، فما قال لي أُفٍّ قطُّ، وما قال لي لشيٍء صنعتُه: لِمَ صنعتَه، ولا لشيٍء تركتُه: لِمَ تركتَه، وكان رسولُ اللهِ من أحسنِ الناسِ خُلُقًا".

 

عباد الله: استخدِموا هذا الأسلوب مع الجميع، وسترون عجبًا في الراحة النفسية ودوام الألفة.

 

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت....

المرفقات
storage
storage
التعليقات
زائر
10-10-2024

جزاكم الله خير 

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life