عناصر الخطبة
1/ تزكية النفس من أسباب صلاح الدين. 2/ تأثير فعل المأمورات على دين المسلم. 3/ عواقب التفريط في الفرائض والواجبات الشرعية على دين العبد.اقتباس
وَلَنْ تَجِدَ شَيْئًا يُزَكِّي النَّفْسَ وَيُطَهِّرُهَا وَيَسْمُو بِهَا مِثْلَ فِعْلِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ، فَمَنْ فَعَلَ الْفَرَائِضَ فَقَدْ زَكَّى نَفْسَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَقْد دَنَّسَ نَفْسَهُ وَأَرْدَاهَا.. فَحِينَ يَقِفُ الْعَبْدُ أَمَامَ مَوْلَاهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي الصَّلَاةِ خَاشِعًا مُتَذَلِّلًا مُنْكَسِرًا دَاعِيًا...
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى أَتْبَاعِهِ فَرَائِضَ فِيهَا صَلَاحُهُمْ وَفَلَاحُهُمْ، وَأَلْزَمَهُمْ بِأَدَائِهَا وَحَذَّرَهُمْ مِنْ تَضْيِيعِهَا، قَائِلًا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا"(رواه الطبراني)، وَأُمَّهُاتُ هَذِهِ الْفَرَائِضِ هِيَ أَرْكَانُ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةُ، ثُمَّ الْفَرَائِضُ بَعْدَ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ؛ فَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ فَرِيضَةٌ، وَالْجِهَادُ فَرِيضَةٌ، وَحِجَابُ الْمسْلِمَةِ فَرِيضَةٌ، وَكُلُّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَمْرَ إِلْزَامٍ وَوُجُوبٍ فَهُوَ فَرِيضَةٌ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ خَيْرَ مَا اهْتَمَمْتُمْ لَهُ وَاعْتَنَيْتُمْ بِهِ هُوَ تَزْكِيَةُ نُفُوسِكُمْ وَالِارْتِقَاءُ بِهَا؛ فَقَدْ جَعَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْجَنَّةَ لِمَنْ زَكَّى نَفْسَهُ، فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى)[طه: 76]، وَالْفَلَاحُ كُلُّهُ لَهُ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى)[الأعلى: 14]، وَكَرَّرَهَا -سُبْحَانَهُ- قَائِلًا: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)[الشمس: 9].
وَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُ رَبَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنْ يُزَكِّيَ لَهُ نَفْسَهُ؛ فَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا"(رواه مسلم)، أَيْ: طَهِّرْهَا وَارْتَقِ بِهَا، لَا مُزَكِّي لَهَا إِلَّا أَنْتَ.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ مِنْ مُهِمَّاتِ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَزْكِيَةَ نُفُوسِ أَتْبَاعِهِ، قَالَ -تَعَالَى-: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ)[آل عمران: 164]، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يُزَكِّيهِمْ، "أَيْ: يُطَهِّرُهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَسَائِرِ الْأَرْجَاسِ وَالرَّذَائِلِ وَالنَّقَائِصِ".
وَلَنْ تَجِدَ شَيْئًا يُزَكِّي النَّفْسَ وَيُطَهِّرُهَا وَيَسْمُو بِهَا مِثْلَ فِعْلِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ، فَمَنْ فَعَلَ الْفَرَائِضَ فَقَدْ زَكَّى نَفْسَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَقْد دَنَّسَ نَفْسَهُ وَأَرْدَاهَا... فَحِينَ يَقِفُ الْعَبْدُ أَمَامَ مَوْلَاهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي الصَّلَاةِ خَاشِعًا مُتَذَلِّلًا مُنْكَسِرًا دَاعِيًا مُبْتَهِلًا، فَإِنَّهُ يَتَرَقَّى فِي دَرَجَاتِ الْقَبُولِ وَيَتَطَهَّرُ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ، وَيَتَرَفَّعُ عَنْ كُلِّ نَقِيصَةٍ، أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ للهِ؛ فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ للهِ سَجْدَةً، إِلَّا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً"(رواه مسلم)، وَحِينَ يُخْرِجُ زَكَاةَ مَالِهِ مُؤْثِرًا بِهَا الْفَقِيرَ عَلَى نَفْسِهِ تَسْمُو رُوحُهُ وَتَتَطَهَّرُ، وَحِينَ يَمْتَنِعُ عَنْ شَهَوَاتِ جَسَدِهِ مُتَطَلِّعًا إِلَى مَا عِنْدَ اللهِ يَقُولُ -تَعَالَى- عَنْهُ: "يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ"(رواه البخاري)... وَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ أَدَاءَ هَذِهِ الْفَرَائِضِ وَإِتْقَانَهَا صَلَاحٌ لِدِينِ الْعَبْدِ وَزِيَادَةٌ لِإِيمَانِهِ وَتَوْثِيقٌ لِلْعَلَاقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ؛ فَإِذَا أَرَدْتَ التَّقَرُّبَ مِنْ رَبِّكَ -سُبْحَانَهُ- فَإِنَّ أَفْضَلَ مَا تَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ هُوَ أَدَاءُ فَرَائِضِهِ، فَهُوَ -عَزَّ وَجَلَّ- الْقَائِلُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: "وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ"(رواه البخاري)، حَتَّى لَقَدْ نَقَلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ قَوْلَهُمْ: "يَزِيدُ ثَوَابُ الْفَرْضِ عَلَى ثَوَابِ النَّفْلِ سَبْعِينَ دَرَجَةً".
وَإِذَا أَرَدْتَ تَقْوِيَةَ إِيمَانِكَ وَتَثْبِيتَ قَلْبِكَ وَتَرْسِيخَ دِينِكَ؛ فَإِنَّ أَقْرَبَ طَرِيقٍ وَأَنْسَبَ طَرِيقٍ لِذَلِكَ هُوَ تَأْدِيَةُ مَا عَلَيْكَ مِنْ فَرَائِضَ وَوَاجِبَاتٍ... وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَعْبَدِ النَّاسِ للهِ -تَعَالَى- فَاجْعَلْ أَوَّلَ أَوْلَوِيَّاتِكَ -بَعْدَ تَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ- هُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ وَالْفَرَائِضِ؛ فَهَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: "وَأَدِّ مَا افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكَ تَكُنْ مِنْ أَعْبَدِ النَّاسِ"(رواه البيهقي في شعب الإيمان).
وَمَنْ أَدَّى فَرَائِضَ اللهِ وَلَمْ يَنْتَقِصْ مِنْهَا شَيْئًا فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ جَنَّتُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: "اتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ"(رواه الترمذي).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الجَنَّةَ، قَالَ: "تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ المَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ"، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا"(رواه البخاري ومسلم)، وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ"، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِذَا صَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلَالَ، وَحَرَّمْتُ الْحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، أَأَدْخُلُ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: "نَعَمْ".
بَلْ إِنَّ أَرْبَعَةً مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ مُسَمَّاةٌ وَمُخَصَّصَةٌ لِأَهْلِ الْفَرَائِضِ الَّذِينَ يُتْقِنُونَهَا وَيَسْتَكْثِرُونَ مِنْهَا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ؛ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ"(متفق عليه).
وَالْفَلَاحُ كُلُّهُ لِمَنْ أَقَامَ فَرَائِضَ رَبِّهِ؛ فَقَدْ رَوَى طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ فَقَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُهُ عَنِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ"، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لاَ، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ"، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: "لاَ، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ"، قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لاَ، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ"، فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلاَ أَنْقُصُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ"(متفق عليه).
وَأَدَاءُ الْفَرَائِضِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ يَجْعَلُ صَحِيفَةَ الْمَرْءِ طَاهِرَةً نَقِيَّةً؛ فَيَغْسِلُ مِنْهَا الذُّنُوبَ، وَيُصْلِحُ الْعُيُوبَ، وَيَرْفَعُ صَاحِبَهَا الدَّرَجَاتِ؛ فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَقَدْ قَالَ عَنْهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسًا، مَا تَقُولُ: ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ؟" قَالُوا: لاَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا، قَالَ: "فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا"(متفق عليه).
وَعَنِ الزَّكَاةِ يَقُولُ الْجَلِيلُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)[التوبة: 103]، وَيُؤَكِّدُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ)[البقرة: 271]، وَيُبَشِّرُنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِلًا: "كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ"(رواه ابن حبان).
وَعَنِ الصِّيَامِ يَقُولُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"(متفق عليه). وَفِي شَأْنِ هَذِهِ الْفَرَائِضِ الثَّلَاثَةِ مُجْتَمِعَةً يَقُولُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَ الْكَبَائِرُ"(رواه مسلم).
وَعَنِ الْحَجِّ يَقُولُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ حَجَّ للهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"(متفق عليه).
وَهَذِهِ الْفَرَائِضُ تُدَافِعُ وَتُنَافِحُ عَنْ صَاحِبِهَا فِي قَبْرِهِ وَتَحْمِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، إِنَّهُ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ؛ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا، كَانَتِ الصَّلَاةُ عِنْدَ رَأْسِهِ، وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْ شِمَالِهِ، وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا قِبَلِي مَدْخَلٌ..."(رواه ابن حبان).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ. وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللهِ: مَعَ أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- مَا فَرَضَ عَلَى عِبَادِهِ إِلَّا مَا يُطِيقُونَ، مُقَرِّرًا فِي كِتَابِهِ: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا)[البقرة: 286]، وَقَائِلًا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"(متفق عليه)، أَقُولُ: مَعَ ذَلِكَ فَإِنَّكَ تَجِدُ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُفَرِّطُ فِي تِلْكَ الْوَاجِبَاتِ وَالْفَرَائِضِ وَيُضَيِّعُهَا!
وَمَنْ ضَيَّعَ الْفَرَائِضَ فَهُوَ -فِي الْحَقِيقَةِ- قَدْ أَضَاعَ نَفْسَهُ وَظَلَمَهَا وَأَوْجَبَ لَهَا الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَعَنِ الصَّلَاةِ -مَثَلًا- قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)[مريم: 59].
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ؛ فَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ لَمْ يَنْتَقِصْ مِنْهُنَّ شَيْئًا، اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ، فَإِنَّ اللهَ جَاعِلٌ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَهْدًا أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ جَاءَ بِهِنَّ قَدِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا، اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ؛ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ"(رواه ابن ماجه)، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ أَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنِّي فَرَضْتُ عَلَى أُمَّتِكَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، وَعَهَدْتُ عِنْدِي عَهْدًا: أَنَّهُ مَنْ جَاءَ يُحَافِظُ عَلَيْهِنَّ لِوَقْتِهِنَّ أَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ فَلَا عَهْدَ لَهُ عِنْدِي"(رواه أبو داود).
وَعَنْ تَارِكِ الْحَجِّ مَعَ الْقُدْرَةِ يَقُولُ اللهُ -تَعَالَى-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران: 97]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: "الْمَعْنَى: وَمَنْ كَفَرَ بِفَرْضِ الْحَجِّ وَلَمْ يَرَهُ وَاجِبًا"، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ: "إِنَّ مَنْ تَرَكَ الْحَجَّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَهُوَ كَافِرٌ".
وَعَنْ تَارِكِ فَرِيضَةِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ يَقُولُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ"(رواه النسائي في الكبرى)، وَوَرَدَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي تَرْكِ كَثِيرٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ.
أَيْضًا فَإِنَّ مَنْ قَصَّر فِي الْوَاجِبَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ فَقَدْ فَوَّتَ كَثِيرًا مِنْ مَصَالِحِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ؛ فَإِنَّهَا مَا شُرِعَتْ إِلَّا لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "إِنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ- إِنَّمَا أَوْجَبَ الْوَاجِبَاتِ وَحَرَّمَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لِمَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ لِخَلْقِهِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُمْ".
فَاللَّهُمَّ نَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَنَا مِمَّنْ يُؤَدُّونَ فَرَائِضَكَ خَالِصَةً لِوَجْهِكَ، وَمِمَّنْ يَقُومُونَ بِمَا أَوْجَبْتَ خَيْرَ قِيَامٍ، وَمِمَّنْ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيْكَ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ، وَتَقَبَّلْهَا مِنَّا يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
التعليقات