عناصر الخطبة
1/أسباب صلح الحديبية 2/وقائع بيعة الرضوان 3/عبادات القلب هي أعظم العبادات 4/من أعظم أسباب إصلاح القلوب.اقتباس
والمسابقة والمسارعة إلى الله تكون بالقلوب قبل الأبدان. وأعظم ما تملأ به قلبك، وهو أشرف أعماله؛ إيمان بالله، وأصله تعظيم الخالق مع المحبة له راجيًا خائفًا منه.. خرجتَ من موسم عظيم وشهر كريم، وقد آنستَ رقةً في قلبه، وإقبالاً على خالقك؛ فاستبقِ هذا الشعورَ، واستدِمْ أسبابَ لِين قلبك، وطواعية نفسك؛ فهي مكاسب عظيمة أحطها بما...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيستوقف القارئ لكتاب الله معنًى عظيم، نتج عنه وترتب عليه أمر آخر عظيم!
فتعالوا بنا إلى تحت شجرة استظل بها أشرف الخلق، وصافحت يده تحتها أشرف جيل، وأعظم رجال.
أما الشجرة فهي سَمُرَة في فلاةٍ من أرض الحديبية ليس لها خاصية ولا لبقعتها مزية، انتهى أمرها ونُسِيَ مكانها.
فالأشكال والطقوس الجوفاء ليست من معالم ديننا، وتعنينا حقائق الأشياء، وما تضمنته من دروس وعبر.
خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة السادسة من الهجرة خرج من المدينة إلى مكة زائرًا بيت الله الحرام، معتمرًا ليس في نيته غدر ولا قتال.
فاغتمت قريش لذلك؛ (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)[الفتح: 26]، وأبت قريش حين بلغها الخبر أشد الإباء أن يدخل محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن معه مكة مهما كلف الثمن!
وكيف تقبل ذلك؟ وما عسى العرب أن يقولوا عن قريش؟
وأيّ هيبة تبقى لهم إن تم ما أراده النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
فجرت مراسلات بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين كفار قريش.
وكان مما جرى أن اختار النبي -صلى الله عليه وسلم- عثمان بن عفان ذا النورين -رضي الله عنه- ليكون سفيره إلى أهل مكة.
وتمَّ ما أراده، وذهب عثمان -رضي الله عنه- لينظر في أمر قريش وما عساهم أن يفعلوا؟
وتأخر مجيء عثمان فجاء خبر غير صادق، وأُشيع أنه قد قُتِلَ على خلاف عادة الرُّسل الذين يكونون بين الطرفين في الجاهلية والإسلام، وأنهم لا يُقْتَلُونَ.
فجمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَن معه مِن المؤمنين، وكانوا نحو ألف وأربعمائة وحثهم على المبايعة على قتال قريش، وصاروا يأتون إليه تحت الشجرة فردًا فردًا فبايعوه على ما أراد -عليه الصلاة والسلام-، وأن لا يفرُّوا حتى يموتوا.
فما أقرّ عين النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم!، وأكرِم بهم من صحب أوفياء، ورجال شرفاء!
ليس الحدث عاديًّا، ولا تلك البيعة ببيعة تساويها أيّ بيعة؛ فهي بيعة القلوب قبل الأيدي، وبيعة صدق الأفعال قبل الوعود والأقوال والله عليم شكور!
فماذا قال الله عن تلك البيعة؟ وأيّ خبر سطّره القرآن ليقرأه من حضر ومن بلغ! (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)[الفتح: 18]؛ إنها بيعة الرضوان اكتسب بها الصحابة سعادة الدنيا والآخرة، توجُّوا بها أنفسهم، وبيَّضُوا فيها وجوههم؛ بيعة أهل الشجرة قال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لن يَلِجَ النارَ أحدٌ بايع تحت الشجرة"(رواه الترمذي، وهو حديث صحيح).
فما الذي أوصل هؤلاء إلى ما أوصلهم إليه؟!
إنه ما في القلوب؛ (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ)، وإنه ليبلغ الإنسان بما في قلبه أعلى المراتب، وفي أخبار صدِّيق الأمة؛ يقول أبو بكر بن عياش -رحمه الله-: "ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بشيءٍ وَقَرَ في قلبه".
أيها الإخوة بما في القلب يحل الله على عبده رضوانه (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ)، وإنه ليحصل بما في قلبه سكينة من ربه (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ)؛ فهي ساكنة بسكينة من الله، ومطمئنة بطمأنينة من ربها؛ فأمورها على ثبات وهدى، ليس فيها تشتُّت ولا هوى.
أنزل السكينة عليهم؛ فليس للهلع مدخلٌ لقلوبهم، ولا للجزع وجود في أقوالهم ولا أفعالهم، يُعطون ولا يمنعون، مهتدون فلا يضلون.
وإنه بما في قلوبهم يدركون ما فاتهم، ويؤتيهم الله خيرًا مما أخذ منهم؛ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الأنفال: 70].
أيها الإخوة شأن القلوب عند علام الغيوب شأن عظيم (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ)[الطارق: 9- 10].
(أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)[العاديات: 9- 11].
وإن للقلب عباداتٍ هي محلُّ نظر الله -عزَّ وجلَّ-؛ "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم"؛ فعبادات القلب هي أعظم العبادات، فهي أعظم من عبادات الجوارح وأشد فرضية منها، بل ومستحب عبادات القلوب أعظم من مستحبات عبادات الجوارح.
وكيف لا تكون كذلك وإنما الجوارح تعمل بما تمليه القلوب؛ "فالأعمال بالنيات"، وبهذا تمحض الإيمان، وفارقوا أهل النفاق والعصيان.
والمسابقة والمسارعة إلى الله تكون بالقلوب قبل الأبدان.
وأعظم ما تملأ به قلبك، وهو أشرف أعماله؛ إيمان بالله، وأصله تعظيم الخالق مع المحبة له راجيًا خائفًا منه.
أيها الأخ المبارك: خرجت من موسم عظيم وشهر كريم، وقد آنستَ رقةً في قلبه، وإقبالاً على خالقك؛ فاستبقِ هذا الشعورَ، واستدِمْ أسبابَ لِين قلبك، وطواعية نفسك؛ فهي مكاسب عظيمة أحطها بما يحفظها، وهي كنوز سَفَه أن تبذلها في أدنى مناسبة وتصرفها عند أول خاطرة معصية أو داعي مخالفة.
وإن من أسباب دوام ذلك التعرُّف على الله بأسمائه وصفاته فالله لطيف بعباده؛ يحب التوابين ويحب المتطهرين، والله شكور حليم، ورحمته وسعت كل شيء؛ قال الله تعالى: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)[الأعراف: 156].
ومن أعظم الأسباب لإصلاح القلوب: إبقاء علاقتك، والتمسك بحزبك اليومي من كتاب ربك قراءةً بترتيل وصوت مسموع؛ فـ"ما أَذِنَ الله لأحدٍ ما أَذِنَ لنبيٍّ حَسَن الصوت يتغنَّى بالقرآن"؛ يجهر به.
ومن ذلك سماع القرآن من غيرك؛ ففي الصحيحين عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اقرأ عليَّ القرآن" فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)[النساء: 41]؛ قال: "حسبك الآن" فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان"؛(متفق عليه).
وقد جعل الله كلماته شفاء من كل داء؛ (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ)[فصلت: 44]، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[الإسراء: 82].
اللهم أصلح لنا قلوبنا...
الخطبة الثانية:
الحمد لله.. أما بعد:
فالنبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: "ألا وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلُّه..؛ ألا وهي القلب".
وإنه بما في القلب يحصل العبد فتح الله، وخير الدنيا، وسعة رزقه؛ يقول الله –تعالى- في شأن أصحاب الشجرة الذين علم ما في قلوبهم (وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)، وهو: فتح خيبر، جعله الله مثوبة للذين بايعوا تحت الشجرة لما قام في قلوبهم ما قام، فلم يحضره سوى أهل الحديبية، فاختصوا بخيبر وغنائمها، جزاء لهم، وشكرًا على ما فعلوه من طاعة الله –تعالى- والقيام بمرضاته، (وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا).
وإنه حريُّ بك –يا عبد الله– ألا تغفل عن قلبك؛ فعبادة القلب هي ملازمةٌ لك، وما دامت روحك في جسدك فأنت متعبَّدٌ لله في قلبك.
قال شيخ الإسلام –رحمه الله-: "فإنَّ الأعمالَ تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وإنَّ الرجلين ليكون مقامُهما في الصف واحدًا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض".
فاللهم املأ قلوبنا بخشيتك...
التعليقات