عناصر الخطبة
1/فضل يوم عرفةاقتباس
ورأى الفضيلُ دعاءَ النّاسِ وبكاءَهم عشيّةَ عرفةَ فقال: أرأيتم لو أنّ هؤلاء صاروا إلى رجلٍ فسألوه دانقًا، يعني سُدُسَ درهم، أ كانَ يَرُدُّهم؟ فقالوا: لا، فقالَ: واللهِ لَلمغفرةُ عندَ اللهِ أهونُ من إجابةِ رجلٍ لهم بدانق.
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا من يهده اللهُ فلا مضلَّ له ومن يضللْ فلا هاديَ له وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه صلّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا أمّا بعدُ عبادَ الله
في هذا اليومِ العظيم، يقفُ إخوانُكم الحجّاجُ على صعيدِ عرفات، تُصاحبُهم قلوبُ ملايينِ المسلمين، في تلاحمٍ إيمانيٍّ مَهيبٍ فريد، يَهتزُّ له الكونُ بالتلبيةِ والتّكبيرِ والتّوحيد، وتَتَجلّى من خلالِه عظمةُ هذا الدّينِ المجيد، ويُذكّرُ بقولِ اللهِ -تعالى- حُبًّا وحنينًا وعزّةً ويقينًا (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)؛ ففي مثلِ هذا اليومِ نزلتْ هذه الآيةُ العظيمةُ على رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلّمَ-، وهو واقفٌ بعرفةَ يومَ الجمعة، ولعظمةِ هذينِ اليومينِ أقسمَ اللهُ بهما ولا يُقسمُ ربُّنا إلا بعظيم، قالَ تعالى: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)؛ فالشّاهدُ يومُ الجمعة، والمشهودُ يومُ عرفة، فجَمَعَ اللهُ لعبادِه في هذا اليومِ الشاهدَ والمشهود، كما جَمَعَهما لنبيِّه محمدٍ -صلى اللهُ عليه وسلم-، فياله مِن يومٍ عظيمٍ ومَشهدٍ جليل، إنّه يومُ المُباهاة، حيثُ يَنزلُ ربُّنا -تباركَ وتعالى- عشيَّةَ ذلك اليومِ فيُباهي بأهلِ الأرضِ أهلَ السّماء، قالَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-: "ما مِن يومٍ أكثرَ مِن أنْ يُعتقَ اللهُ فيه عبدًا من النّارِ مِن يومِ عرفة، وإنّه ليدنو ثمّ يُباهي بهم الملائكةَ فيقولُ: ما أرادَ هؤلاء".
فتَفضّلَ اللهُ في هذا اليومِ على أهلِ عرفةَ بشرفِ الزّمانِ والمكان، وعلى سائرِ المسلمينَ بشرفِ الزّمان، وأكرمَهم بما شَرَعَ لهم من صيامِه، وعظيمِ أجرِه وثوابِه، وبذلك يَشتركُ عمومُ المسلمينَ مع الحجّاجِ في العتقِ والمغفرة، ممّنْ صحّتْ نيّتُهم وقُبِلَتْ توبتُهم، قالَ ابنُ -رجبٍ رحمَه الله-: إنّ العتقَ من النّارِ في هذا اليومِ عامٌّ لجميعِ المسلمين.
فاتّقوا اللهَ -رحمَكم اللهُ- وأرُوا اللهَ في ذلك اليومِ من أنفسِكم خيرًا، فكم أُجيبتْ فيه من دعواتٍ وقُضيتْ من حاجاتٍ وغُفرتْ من زلّاتٍ ورُفعتْ من درجاتٍ وأُعتقتْ من رقابٍ موبقات، يقولُ عليه الصّلاةُ والسّلام: "خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
فاجتهدوا رحمَكم اللهُ بكثرةِ الدّعاءِ والإلحاحِ والتّضرّع، فقد اجتمعَ لكم بعدَ عصرِ ذلك اليومِ عدّةُ فضائل: منها فضلُ دعاءِ يومِ عرفة، وآخرُ ساعةٍ من يومِ الجمعة، مع فضلِ دعاءِ الصّائمينَ فللصّائمِ عندَ فطرِه دعوةٌ لا تُرَدّ، فادعوا اللهَ بقلوبٍ حاضرةٍ خاشعة، ملتزمينَ بآدابِ الدّعاءِ وبالأدعيةِ المشروعة، وأحسنوا الظّنَّ بربِّكم، وادعوا اللهَ وأنتم موقنونَ بالإجابة، فاليومَ يومُ المغفرةِ والرّحمةِ والعتقِ والإجابة.
قالَ عبدُاللهِ بنُ المبارك: جئتُ إلى سفيانَ الثوريِّ عشيّةَ عرفة، وهو جاثٍ على ركبتيْه، وعيناه تذرفان، فالتفتَ إليّ، فقلتُ له: مَنْ أسوأُ هذا الجمعِ حالًا؟ قالَ: الذي يَظنُّ أنّ اللهَ لا يَغفرُ لهم.
ورأى الفضيلُ دعاءَ النّاسِ وبكاءَهم عشيّةَ عرفةَ فقال: أرأيتم لو أنّ هؤلاء صاروا إلى رجلٍ فسألوه دانقًا، يعني سُدُسَ درهم، أ كانَ يَرُدُّهم؟ فقالوا: لا، فقالَ: واللهِ لَلمغفرةُ عندَ اللهِ أهونُ من إجابةِ رجلٍ لهم بدانق.
وإنّي لَأَدعو اللهَ أطلبُ عفْوَهُ *** وأَعلمُ أنَّ اللهَ يعفو ويغفِرُ.
لَئِنْ أعْظَمَ النّاسُ الذّنوبَ فإنّها *** وإنْ عَظُمَتْ في رحمةِ اللهِ تَصْغُرُ.
قالَ ابنُ القيّمِ -رحمَه الله-: إنّه في يومِ عرفةَ يدنو الرّبُّ تباركَ وتعالى عَشِيَّةً مِن أهلِ الموقفِ، وتَحصُلُ مع دُنُوِّه منهم تباركَ وتعالى ساعةُ الإِجابة، التي لا يَرُدُّ فيها سائلًا يَسْألُ خيرًا.
وقالَ النّوويُّ -رحمَه الله-: "فهذا اليومُ أفْضَلُ أيّامِ السَّنَةِ للدُّعاء، فينبغي أنْ يَسْتَفْرِغَ الإنسانُ وُسْعَهُ في الذِّكرِ والدُّعاءِ، وفي قراءةِ القرآنِ، وأنْ يدعوَ بأنواعِ الأدعيةِ، ويأتيَ بأنواعِ الأذكارِ، ويدعوَ لِنَفْسِه ووالديْهِ وأقارِبِهِ ومشايِخِهِ وأصحابِهِ، وأصدقائِهِ وأحبابِهِ، وسائِرِ مَنْ أحْسَنَ إليهِ وجميعِ المسلمين".
تَقبّلَ اللهُ منّا ومن الحجّاجِ والمسلمينَ وطهّرَنا من الأوزار، وأعتقَ رقابَنا ووالدينا وأهلينا من النّار، وأدخَلَنا الجنّةَ مع الأبرار، إنّه سميعٌ مُجيب.
باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، وبهديِ سيّدِ المرسلين، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ مِن كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأصلي وأسلمُ على خاتمِ النّبيّين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين؛ أمّا بعدُ عبادَ الله:
تداركوا أيّامَ عشرِكم بطاعةِ ربِّكم، فمَن أحسنَ فعليه بالزّيادةِ والتّمام، ومَن فرَّطَ فليجتهدْ فيما بقيَ فالعملُ بالخِتام. فقد بقيَ منها آخرُ هذا اليومِ الذي هو يومُ عرفة، والذي عرفتُم فضلَه وشرفَه، وختامُها غدًا بيومِ عيدِ الأضحى وهو يومُ الحجِّ الأكبر، أشرفُ العيدينِ وأفضلُ الأيّامِ عندَ الله.
ومن أعمالِ ذلك اليومِ العظيمِ صلاةُ العيد، والتي يَتأكّدُ على المسلمينَ حضورُها شاكرينَ ذاكرينَ مكبّرين، فرحينَ بما يَسّرَ اللهُ لهم من الطّاعات، وما امتنَّ به عليهم من المغفرةِ وإجابةِ الدّعوات، وسوفَ تقامُ صلاةُ العيدِ في هذا الجامع، في تمامِ السّاعةِ الخامسةِ وخمسٍ وعشرينَ دقيقة، من صباحِ الغدِ إنْ شاءَ الله.
ومن أعمالِ ذلك اليومِ ذبحُ الأضاحي، وهي سنّةٌ مؤكّدة وفضلُها عظيم، وما تَقرّبَ المسلمُ في ذلك اليومِ بأفضلَ منها. ثمّ يلي يومَ العيدِ أيامُ التّشريق، وهي أيّامٌ عظيمة، قالَ عنها المصطفى عليه الصّلاةُ والسّلام: أيّامُ التّشريقِ أيّامُ أكلٍ وشُربٍ وذكرٍ للهِ عزّ وجل.
ومن أعمالِها التّكبيرُ المطلقُ في جميعِ الأوقات، والتّكبيرُ المقيّدُ في أدبارِ الصّلوات، فاتّقوا اللهَ رحمَكم اللهُ وأكثروا من ذكرِ اللهِ وطاعتِه في هذه الأيّامِ وعلى الدّوام، حتّى تَدخلوا الجنّةَ بسلام.
اللهمّ وفّقْنا لهداك، وثبّتْنا على طاعتِك حتّى نلقاك، اللهمّ أعنّا على ذكرِك وشكرِك وحسنِ عبادتِك، اللهمّ سلّمِ الحجّاجَ وأتمَّ عليهم حجَّهم، وردَّهم سالمين، وتقبّلْ منّا ومنهم برحمتِك يا أرحمَ الرّاحمين.
سبحانَ ربِّك ربِّ العزّةِ عمّا يَصفونَ وسلامٌ على المرسلينَ والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
التعليقات