عناصر الخطبة
1/فضل العشر من ذي الحجة 2/أعمال مستحبة في أيام العشر 3/تعظيم شعائر الله 4/الحث على المبادرة إلى الحج.اقتباس
إنها فرصة للتوبة وترك الذنوب والتخفف منها, فرصة للرجوع إلى الله؛ فلا منجى من الله إلا إليه, والعبد لا يدري قد يكون هذا آخر أعوامه وآخر عمره, فجعل الله هذه العشر محطة توقف للمحاسبة والمراجعة والتأمل, وإعادة الحسابات وتصحيح المسارات, والصدق مع النفس...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهدي الله فهو المهتدي, ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا, أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, خلق فسوى, وقدّر فهدى, وأشهد أن محمد رسول الله, بلغ الرسالة, وأدى الأمانة, صلى الله عليه وسلم ما دار الزمان, وما أشرق النَّيِران.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: جاءكم موسم الخير, موسم العشر من ذي الحجة, جاء في نهاية العام؛ ليكون الختام مسك, وليتنافس المتنافسون, كرم من الله وفضل من الكريم؛ عطاء ومنة ورحمة ورأفة, عشرة أيام مدحها الله ورفع قدرها ومنزلتها, وضاعف ثواب العمل الصالح فيها, فرصة قد لا تأتي عليك فأغتنمها, وعظمها وأقدر قدرها, الله -تعالى- غني عنا وليس بحاجتنا ولا بحاجة إلى عبادتنا, إن أطعناه كلنا ما زاد في ملكه شيء, وإن عصيناه كلنا مانقص من ملكه شيء, وما جعل الله هذه المواسم وما كررها علينا؛ إلا رحمة بنا, إلا رأفة بنا, إلا ليضاعف لنا الحسنات, ويزيد في الأجور, فما أرحمه, وما أرأفه, وما أطيبه, وما أكرمه.!
أعمار هذه الأمة أقصر أعمار الأمم, كانوا قبلنا يعيشون مئات السنين, أما نحن فقليل منا من يتجاوز السبعين, قال -صلى الله عليه وسلم-: "أعمارُ أمتي ما بينَ الستِّينَ إلى السبعينَ, وأقلُّهم من يجوزُ ذلِكَ"(أخرجه الترمذي وابن ماجه), لكن المؤمن والعاقل واللبيب قد يستغل مثل هذه المواسم, يستغلها ويستثمرها لا تفوته ولا يسمح بفواتها؛ فيعوضه الله ويرزقه الله حسنات لا يحصدها غيره إلا في مئات السنين, يصوم رمضان إيماناً واحتساباً؛ فيغفر الله له ما تقدم من ذنبه.
ويقوم ليلة القدر فيرزقه الله فعلاً يوازي ألف شهر, كأنه عبد الله أكثر من ثلاث وثمانين سنة, وتأتي عليه العشر فلا يفوته حصادها وغنيمتها, وهكذا يبارك الله في الأعمار ويرزق المسددين أعماراً طويلة؛ بسبب اجتهادهم في مواسم الخير والبركة.
وهذه العشر عشر ذي الحجة عظّمها الله, وحثنا على تعظيمها واغتنامها, أخبرنا -سبحانه- بأنه يضاعف الأجور والحسنات, أقسم بها لشرفها؛ فقال -تعالى-: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ)[الفجر: 1، 2], وقال -سبحانه-: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)[الحج: 28]؛ قال ابن عباس: "أيام العشر", وفي البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما العَمَلُ في أيَّامٍ أفْضَلَ منها في هذِه", قالوا: ولَا الجِهَادُ؟! قَالَ: "ولَا الجِهَادُ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بنَفْسِهِ ومَالِهِ؛ فَلَمْ يَرْجِعْ بشيءٍ"(صحيح البخاري), وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِن أيَّامٍ أَعظَمَ عِندَ اللهِ، ولا أَحَبَّ إلَيهِ مِنَ العملِ فيهِنَّ مِن هذِه الأَيَّامِ العَشرِ؛ فأَكثِرُوا فيهِنَّ مِنَ التَّهليلِ، والتَّكبيرِ، والتَّحميدِ"(تخريج المسند, صحيح), قال سعيد بن جبير -رحمه الله-: "لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر"؛ كناية عن القراءة والقيام والذكر.
إنها أيام ذكر الله, أيام طاعة, أيام فاضلة, إنها ليست كغيرها من الأيام أبداً هذه مميزة, هذه يحبها الله, ويحب العمل الصالح فيها, (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج: 32], إنها فرصة للتوبة وترك الذنوب, والتخفف منها, فرصة للرجوع إلى الله؛ فلا منجى من الله إلا إليه, والعبد لا يدري قد يكون هذا آخر أعوامه وآخر عمره, فجعل الله هذه العشر محطة توقف للمحاسبة والمراجعة والتأمل, وإعادة الحسابات وتصحيح المسارات, والصدق مع النفس.
فنتوب إلى الله, نعود إلى الله؛ نصلي صلاتنا, ونصل أرحامنا, ونطهر قلوبنا من الحسد والحقد والضغينة والشك والشرك والهوى, نطهر جوالاتنا من الصور والمقاطع والمواقع والقروبات الفاسدة؛ حتى لا نموت وفيها ما يشهد علينا, نتوب إلى الله من ترك الصلاة والتهاون فيها, خلاص يكفي انتهى العام, جاء موسم العمل الصالح, وهكذا نأطر أنفسنا على الخير أطراً؛ حتى تنقاد لنا.
كذلك من أعمال هذه الأيام الصيام؛ فعن بعض زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم تسع ذي الحجة, ويوم عاشوراء, وثلاث أيام من كل شهر"(صحيح سنن أبي داود وصححه الألباني), قال النووي عن صيامها: "إنه مستحب استحباباً شديداً".
وصيام يوم عرفة متأكد لغير الحاج؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "صِيَامُ يَومِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ علَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتي بَعْدَهُ"(صحيح مسلم), ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما من عبدٍ يصومُ يومًا في سبيلِ اللَّهِ -عزَّ وجلَّ-؛ إلَّا بعَّدَ اللَّهُ -عزَّ وجلَّ- بذلِكَ اليومِ وجهَهُ عنِ النَّارِ سبعينَ خريفًا"(متفق عليه).
ومن الأعمال المشروعة: التكبير والتهليل والتحميد, في البخاري: "كان ابنُ عُمرَ وأبو هُرَيرَة يَخرُجانِ إلى السوقِ في أيَّامِ العشرِ يُكبِّرانِ، ويُكبِّر الناسُ بتكبيرِهما", وقال: "كان عمر -رضي الله عنه- يُكبِّرُ في قُبَّتِه بمنًى، فيَسمَعُه أهلُ المسجدِ، فيُكبِّرونَ، فيكبِّرُ أهلُ الأسواقِ، حتى تَرتجَّ مِنًى تكبيرًا", ويستحب التكبير جهراً للرجال خلف الصلوات, وفي المجالس وفي ختامها, وفي البيت.
وقراءة القرآن من الأعمال الفاضلة في هذه العشر؛ فالحرف الواحد بعشر حسنات؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-.
وكذلك الجلوس في المسجد بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس, ثم صلاة ركعتين, وهي كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن صلى الفجرَ في جماعةٍ، ثم قَعَد يَذْكُرُ اللهَ حتى تَطْلُعَ الشمسُ, ثم صلى ركعتينِ؛ كانت له كأجرِ حَجَّةٍ وعُمْرَةٍ تامَّةٍ, تامَّةٍ, تامَّة"(صحيح الجامع للألباني), وهذه الأجور في أي يوم من الأيام, فكيف بأيام العشر؟!.
وكذلك الصدقة, قال -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا النار ولو بشق تمرة"(متفق عليه), وقال -صلى الله عليه وسلم-: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ... ورَجُلٌ تَصَدَّقَ، أخْفَى حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُه"(متفق عليه), قال ابن القيم -رحمه الله-: "فإن للصدقة تأثيراً عجيباً في دفع البلاء, ولو كانت من فاجر أو ظالم بل من كافر؛ فإن الله يدفع بها أنواعاً من البلاء".
وأعظم الصدقة على ذوي القربى والرحم, قال -صلى الله عليه وسلم-: "الصدقةُ على المسكينِ صدقةٌ, وعلى القريب صدقتان: صدقةٌ وصِلَةٌ"(في صحيح الترغيب للألباني).
وكذلك صلة الرحم, وبر الوالدين, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وغض البصر, وحسن الجوار, وحفظ الجوارح, والإحسان إلى الخلق.
ومنها: ترك الأظافر والشعر والبدن وعدم الأخذ منها في هذه العشر, لمن أراد أن يضحي؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أم سلمة -رضي الله عنها-: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة, وأراد احدكم أن يضحي؛ فليمسك عن شعره وأظفاره"(رواه مسلم), والمرأة والرجل في ذلك سواء, وفي لفظ آخر: "إذا دخَلَت العَشْرُ، وأراد أحَدُكم أن يضَحِّيَ؛ فلا يَمَسَّ مِن شَعَرِه وبَشَرِه شيئًا"(رواه مسلم), وأما أهل البيت من النساء والولدان فلم يرد النهي عنهم.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين, غير ضالين ولا مضلين, اجعلنا من المقبولين والتائبين, والذاكرين والمستغفرين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه؛ كما يحب ربما ويرضى.
عباد الله: إن تعظيم شعائر الله تقوى, تقوى في القلوب, تعظيم شعائر الله خير, خير في الدنيا والآخرة, فلنعظم شعائر الله نعظمها في نفوسنا؛ لأن الله عظمها, نقدرها قدرها, ومن عظم شعائر الله سيكون من العظماء, سيكون عند الله عظيما.
من عظم هذه العشر واعتبرها أيامًا غير عادية, وعظم الحج, وعظم الصلاة, وعظم القرآن, وعظم الصيام, وعظم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, عظم أوامر الله, وعظّم ما عظّم الله؛ سيكون عند الله عظيما.
ومن تهاون وتكاسل ولا فرق عنده بين أمر ولا نهي, ولا فرق لديه بين مواسم الخير وغيرها, متهاون متساهل بارد العزم؛ فإنه قد يكون عند الله هينًا, فعظّموا هذه العشر كما عظمها الله, أكثروا فيها من التكبير؛ هللوا وسبحوا واحمدوا, اقرأوا القرآن, حافظوا على الصلوات طيبوا نفوسكم على أرحامكم وجيرانكم .
من أراد أن يضحي: أمسكوا عن أظفاركم وأشعاركم وبشرتكم, وإن أعظم عملًا يقوم به المسلم في هذه العشر هو الحج إلى بيت الله الحرام, قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن حَجَّ هذا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسُقْ؛ رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ"(أخرجه البخاري ومسلم).
من لديه استطاعة وقوة وثبات وصبر وعافية فليحج, وخاصة من لم يحج حجة الإسلام, ومن كان خائفًا من الوباء, أو لديه مشاكل صحية أو ضعف, وقد حج حجة الإسلام فهو بالخيار.
نسأل الله في علاه أن يجعلنا معظِّمين لشعائره, وقّافين عند حدوده شاكرين لنعمه, اللهم اهدنا واهدِ بنا, ويسر الهدى لنا, اجعلنا هداة مهتدين, وثبتنا على الدين يارب العالمين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات: 180 - 182].
التعليقات