عناصر الخطبة
.اقتباس
ولتتذَكَّرْ عبدَ اللهِ أن فيك قدرات، يمكن أن تُوجَّه إلى الخير، وتُستَثمر في نفع الغير، فلا تستهِنْ بذلك، ولا تحتقِرْ نفسَكَ، ولا يثبِّطَنَّكَ الشيطانُ وكن طَمُوحًا، وَاسْعَ في تغيير حالِكَ، وإصلاحِ ذاتِكَ، مستعينًا بربكَ في ذلك...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يضلل فلا هاديَ له، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله ربه هاديا ومبشرا ونذيرا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].
أما بعدُ: فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ، إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ"، فهذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وأرضاه، أعلم الصحابة وأفضلهم وأكملهم إيمانًا، كان سبَّاقًا إلى فعل الخيرات، مسارِعًا فيها، وهو مثالٌ يُحتذى في المبادَرات النافعة، وقدوة تُؤتَسى في الجِدِّ والسبق والمثابَرة.
عبادَ اللهِ: إن النجاح والإنجاز والإنتاج، هدفٌ يَسعى إليه المرء، وصفةٌ يتحلَّى بها الْمُجِدُّ المحافظُ على وقته، بما يعود عليه بالخير في دينه ودنياه، فيستثمِر جهدَه وطاقتَه وعمرَه بما يكون له ثمرةٌ يانعةٌ، وحصيلةٌ نافعةٌ، وممَّا يُؤسَف له، أن يقضي بعضُ الناس وقتَه فارغًا، ويُمضي عمرَه عاطلًا، فالإهمالُ عادتُه، والكسلُ شعارُه، لا يراعي الإتقانَ في عمل، ولا يسعى في تحقيق هدف، بل هو راضٍ بالدُّون، وقاصِرٌ عن الإنتاج.
ومن الأمور التي يتجلَّى فيها فَقْدُ الإنتاجِ وضياعُ الغنيمةِ التفريضُ فيما أرشَد إليه النبيُّ الكريمُ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ" رواه الحاكم والبيهقي؛ فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "شبابَكَ قبل هِرَمِكَ" توجيهٌ للمرء لاغتنامِ شبابه؛ لأنه مرحلةُ نضارةٍ وقوةٍ وحيويةٍ، فيغتنمه في العبادة وأعمال الخير، قبل أن يتغيَّر حالُه، فيكبر ويضعف عن الطاعة، ويقل عطاؤه، أو يعجز عن العمل، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وصحتك قبل سقمك"، فيه تنبيه على أن صحة المرء وما يجده من قوة ونشاط وعافية، في حواسه وقواه فرصة للعمل، لكن هذا الحال لا يدوم؛ فكم من صحةٍ أعقَبَها ضَعفٌ ووهنٌ ومرضٌ، وكثيرٌ من الناس يغترُّ بصحته وعافيته، فتذهب عليه سُدًى دون اغتنام، وأشدُّ من ذلك تضييعُها في الآثام، ثم الندم بعد فوات الأوان، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وغناكَ قبل فقركَ"، فيه حثٌّ على أن يبذل المرءُ المعروفَ، وينفق ممَّا أعطاه اللهُ في وجوه الخير وأعمال البِرِّ، فما يجده المرء من سعة في المال ووفرة في الرزق لا يدوم، ولا يبقى، فيجدُر بالعاقل ألَّا يُفتتنَ بأمواله؛ فإنها زخرفٌ زائلٌ، ومتاعٌ قليلٌ.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وفراغَك قبل شغلك" فيه توجيهٌ أن يشغلَ العبدُ أوقاتَه بما ينفعه؛ فمَنْ فرَّط في العمل في ساعة الفراغ لم يُدرِكْه عند مجيء الشواغل.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وحياتَك قبل موتك" فيه عبرةٌ وعظةٌ؛ فحياةُ المرء في هذه الدنيا ليست دائمةً، بل يعقبها موتٌ، والعاقلُ حريصٌ على اغتنام حياته في طاعة الله والاستكثار من الزاد، وممَّا يؤكِّد أهميةَ أن يستثمر المسلم وقتَه، وأن يظلَّ عامِلًا منتِجًا إلى آخِر لحظةٍ من الحياة، قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن قامتِ الساعةُ وبيدِ أحدِكُمْ فسيلةٌ، فإنِ استطاعَ ألَّا تقومَ حتى يغرِسَها فَليَفْعَلْ"(رواه أحمد).
عبادَ اللهِ: إذا ذُكر الاجتهاد في التقديم، واستفراغ الوسع في البذل والعطاء، تمثَّل ذلك أولَ ما يتمثَّل في قدوة الأنام وإمام الأعلام، وسيد الصفوة الكرام، محمد -عليه الصلاة والسلام-، الذي بلَغ الذروةَ في تحقيق المطالِب العليَّة، والمقاصد السنيَّة؛ ففي جانب الطاعة والتقوى: كان أعبد الناس وأخشاهم لله، حتى إن قدميه الشريفتينِ تفطَّرَتا من طول القيام، وفي جانب التعليم والدعوة فهو المثل الأعلى في نصرة دين الله، ونَفْع الأمة ونصحها، ودلالة الناس على الحقِّ، وتعليمهم وهدايتهم وإرادة الخير لهم، كما ضرَب -عليه الصلاة والسلام- أروعَ الأمثلة في الإحسان إلى الناس وبَذْل المعروف والسعي في قضاء حوائجهم.
والمؤمن يجتهد في العمل ويتقِن أداءه، ويُساهِم في ميادين العطاء، وهذا ما كان عليه الأخيارُ الأتقياءُ، الذين صاروا أئمةً يُقتَدى بهم في الخير، وتركوا آثارًا حسنةً بعد مماتهم، وجعَل اللهُ لهم في الناس ذِكْرًا جميلًا وثناءً حسنًا، باقيًا إلى آخِر الدهر.
ومن تلكم الأمثلة المشرِقة والنماذج المضيئة الصحابيُّ الجليلُ سعد بن معاذ -رضي الله عنه-، الذي لم يَعِشْ بعد إسلامه سوى نحو من ست سنين، إلا أنه قدَّم وأنجَز ما قد يعجز عن مثله مَنْ عاش في الإسلام عمرًا طويلًا، حتى نال ذلك الفضلَ الكبيرَ والشرفَ العظيمَ، قال الذهبيُّ -رحمه الله-: "وقد تواتَر قولُ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن العرشَ اهتزَّ لموتِ سعدٍ فرَحًا به".
ومن أولئك الأعلام العظام عطاء بن أبي رباح -رحمه الله-، كان سيدَ التابعينِ، وعالِمَ الدنيا في زمانه، قال بعض أهل العلم: كان عطاءٌ أسودَ، أعورَ، أفطسَ، أشلَّ، أعرجَ، ثم عَمِيَ بعد ذلك، وممَّا ذُكِرَ في فضائله أنه حجَّ سبعينَ حجةً، وبعدما كَبِرَ وضعُف كان يقوم إلى الصلاة فيقرأ مائتي آيةٍ من البقرة وهو قائمٌ، ما يزول منه شيءٌ ولا يتحرك.
وهذا يعلِّمُنا أن المسلم مهما واجَه من الابتلاءات والمصائب، فإنه يبقى ثابتًا متجلِّدًا قويًّا لا ييأس ولا يضعُف، ولا ينطوي على نفسه، ولا يمتنع عن النفع والعطاء.
ومن أمثلة أولئك الرجال الأفذاذ، حمَّاد بن سلمة، الإمام القدوة، شيخ الإسلام -رحمه الله-، ممَّا ذُكِرَ في مناقبه، أنه لو قيل له: إنكَ تموت غدًا ما قدَر أن يزيد في العمل شيئًا؛ يعني أنه قد بلَغ من اجتهاده في اغتنام أوقاته مبلغًا عظيمًا، حتى إنه لا يجد مزيدًا من العمل، أكثر ممَّا هو مشتغِل به من الطاعات والقربات، فلله درُّه، ما أعظَم زادَه وإنتاجَه وعطاءه، وما أشدَّ خسارةَ مَنْ فرَّط في عمره، واستهان بوقته، فخرَج من الدنيا لا أثرَ له، أو أتى يومَ القيامة مُفلِسًا.
ومن أعلام الإسلام ومشاهير الأئمة، عبد الله بن المبارك -رحمه الله-، جاء في مناقبه وفضله: أنه جمَع العلمَ والفقهَ والأدبَ والنحوَ واللغةَ والشعرَ والفصاحةَ والزهدَ والورعَ والحياءَ وحُسْنَ الخُلُقِ، وحُسْنَ الصحبةِ، والشجاعةَ والقوةَ والسخاءَ، وقيامَ الليلِ والخشيةَ، والإنصافَ وترْكَ الكلام فيما لا يعنيه، قال بعض العلماء: "لا نعلم في عصر ابن المبارك أجلَّ مِنَ ابنِ المباركِ، ولا أعلى منه، ولا أجمعَ لكلِّ خصلةٍ محمودةٍ منه"، فهذا يدلُّ على إمامته وجلالته وعلوِّ مكانته وعظيم إنتاجه، وما أجدَرَ أن ينظر كلُّ امرئٍ منَّا في نفسه: ما الذي اكتَسَبَه من مثل هذه الخصال الفاضلة والصفات الحميدة؟!
ومن أمثلة النساء الرائدات المنتِجات، اللاتي شارَكْنَ في مضمار المسابقة، لمراتب النجاح والسؤدد، زوجة هارون الرشيد، زبيدة بنت جعفر المنصور -رحمها الله-، كان لها مناقبُ جمَّة، وفضائل كثيرة؛ فقد عُرفت بأنها ذات عقل ودين ورأي، وفصاحة وبلاغة، واشتُهر عنها محبتُها للخير، والإفضالُ على أهل العلم، والعطفُ على الفقراء والمساكين، وكانت سخيةً، تبذُل النَّفِيسَ في سبيل الله، ولا أدلَّ على هذا من إنشائها عينَ الماء العذبة الشهيرة "عينَ زبيدة".
ومن لطيف ما يُروى من الأخبار أن عجوزًا بكَت على ميت فقيل لها: "بماذا استحقَّ هذا منكِ؟ قالت: جاوَرَنا وما فينا إلا مَن تَحِلُّ له الصدقةُ، ومات وما فينا إلا مَنْ تَجِبُ عليه الزكاةُ". فهذا الرجل المحسِن عَمِلَ على تأهيل هؤلاء الذين جاورَهم فأثمرت رعايتُه لهم بعد توفيق الله، أن أصبحوا موسرين منتجين، بعد أن كانوا فقراء محتاجين.
معاشرَ المسلمينَ: من أراد أن تعلو همته وتسمو عزيمته، ويزداد عطاؤه، فليتأمل في سِيَرِ وحياة الجادِّينَ المنتِجِينَ، الذين تأصَّل فعلُ الخير في نفوسهم، وسَمَتْ إلى الفضائل هِمَمُهم، فكان لهم القَدَحُ الْمُعَلَّى، من السعادة والنجاح والفَلَاح، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الْحَجِّ: 77].
بارَك الله لي ولكم في الكتاب والسُّنَّة، ونفَعَنا وإيَّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحسانًا، ويؤتي كلَّ ذي فضلٍ فضلَه، ولا يُضِيع أجرَ المؤمنين، أحمده -تعالى- حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما ينبغي لجلال وجهه ولعظيم سلطانه، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، بلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ، ونصَح الأمةَ، وجاهَد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقينُ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فما أعظمَ شأنَ أولئك الْمُبادِرِينَ في العمل، المنتِجِينَ المجتهدين، الذين قدَّمُوا وأنجَزُوا، وبلَغُوا شأوًا بعيدًا، وتركوا أثرًا كبيرًا؛ فمنهم من دعا إلى الله، فاهتدى على يديه خلق كثير، ومنهم من أسلم على يديه فئام من الناس، ومنهم من بنى كثيرًا من المساجد ودُور العلم، ومنهم مَنْ تتلمَذَ على يديه عددٌ كبيرٌ من طلاب العلم، ومنهم مَنْ تخرَّج على يديه أجيالٌ من حفظة كتاب الله، ومنهم من صنَّف مصنَّفاتٍ نفيسةً قيِّمةً، في مختلف العلوم والفنون، ومنهم من أنشأ العديدَ من دُور الرعاية، ودُور علاج المرضى، ومنهم مَنْ أنشأ أوقافًا كثيرةً، منها ما خُصِّصَ للمنافع العامة، ومنها ما يخدم أصحاب الحاجات، ومنهم مَنْ عُرِفَ بالإصلاح بين الناس، وفضِّ النزاع والشقاق بين المتخاصمينَ، والتأليف بين قلوبهم، ومنهم مَنْ عالج كثيرًا من المشكلات والقضايا المختلفة، ومنهم من حاز قَصبَ السبقِ في إغاثة اللهفان، ومنهم من أسَّس مشروعًا هادفًا، أو ابتكر ابتكارًا نافعًا، أفاد به الأمة؛ فهؤلاء وأمثالهم قد سعوا في إنتاج ما يعمر الأرض ويحييها ويصلحها؛ اتبًاعا لأمر الله في قوله -سبحانه-: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)[هُودٍ: 61]، ورغبة في ثوابه؛ (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ)[الْمُزَّمِّلِ: 20]، فمهما فعلوا من خير وجدوا ثوابه عند الله وافرا موفرا.
عباد الله: وممَّا يُستفاد من قوله -صلى الله عليه وسلم- الوارد في الصحيح: "احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ"، أن يكون المؤمن دائمًا ذا عمل ونشاط وهمَّة وإقبال ومثابَرة، يبذل ويُجِدّ ويقدِّم ويثمِر، ويُنجِز ويُنتِج، ويُصلِح وينفع، ويسعى إلى المجد، ويطلب معاليَ الأمورِ، ويدرِك ركابَ السابقين إلى ربهم، وفي المقابل يقبُح بالمرء أن يكون ضعيفًا سلبيًّا فاشلًا خاملًا عاطلًا مهمِلًا مضيِّعًا واجبَه، متراخيًا متباطئًا في إنجاز عمله، لا يُرجى من ورائه نفعٌ، ولا يُنتَظر منه بذلٌ ولا عطاءٌ.
ولتتذكر عبدَ الله أن فيك قدرات، يمكن أن توجَّه إلى الخير، وتُستَثمر في نفع الغير، فلا تستهِنْ بذلك، ولا تحتقِرْ نفسَكَ، ولا يثبِّطَنَّكَ الشيطانُ وكن طَمُوحًا، وَاسْعَ في تغيير حالِكَ، وإصلاحِ ذاتِكَ، مستعينًا بربكَ في ذلك، واعلم أن الاستسلام للمألوف من العادات السيئة يمنعكَ مِنْ تجاوُز الخلل، وتحسين العمل، وأنَّ مَنْ لا يتقدَّم ولا يخطو إلى الأمام خطواتٍ لا يبقى في موقعِه، بل يتراجع ويخسر، ويسوء حالُه، وتَشين فِعالُه، كما أن مجرَّد الأفكار والأماني لا تُجدِي ولا تُغنِي شيئًا ما لم تترجَم إلى عمل، وتتحوَّل إلى واقع ملموس، فكَمْ من الرغبات الجميلة، والطموحات النبيلة، ذهَبَتْ سدًى، وضاعت عبثًا، ولم يتحقَّقْ منها شيءٌ؛ لأنها لم تَجِدْ مِنْ قِبَلِ صاحبها جِدًّا في طلبها ولا صدقًا في نيلها بل كانت مجرد أمانٍ في نفسه، فلم تنفعه.
أيها المسلمون: إنَّ أوقات العمر ثمينة، وكلَّ يوم يعيشه المرء مكسبٌ وغنيمةٌ، وإن مَنْ لم يحفظ أوقاتَه ويغتنم ليالِيَهُ وأيامَه خَسِرَ خسرانًا مبينًا؛ فاشترِ نفسَكَ اليومَ عبدَ اللهِ، وجاهِدْ نفسَكَ في ذات الله، وبادِرْ بالتوبة النصوح، والتزود من التقوى، والمداوَمة على العمل الصالح، قبلَ حلول الأجل، وقدِّم لنفسِكَ، واغتنِمْ فرصةَ حياتِكَ واحرص على ما يتعدَّى نفعُه للآخَرِينَ ويبقى بعدَ موتك؛ فإن السوق الآنَ قائمةٌ، والثمنَ موجودٌ، والبضائعَ معروضةٌ، وسيأتي على تلك السوق والبضائع يومٌ لا تصل فيها إلى قليل ولا كثير؛ ذلك يوم التغابن: (يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ)[الْفُرْقَانِ: 27].
إذا أنتَ لم تَرْحَلْ بزادٍ مِنَ التُّقى *** وأبصرتَ بعدَ الموتِ مَنْ قد تزَوَّدَا
نَدِمْتَ على ألَّا تكونَ كمثلِه *** وأنكَ لم ترصُدْ كما كان أرصَدَا
هذا وصلُّوا وسلِّمُوا عبادَ اللهِ، على محمد بن عبد الله؛ امتثالًا لأمر الله؛ إذ قال جلَّ في علاه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما صليتَ على آل إبراهيم، وبارِكْ على محمد، وعلى أزواجه وذريته، كما باركتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودمِّرْ أعداءَكَ أعداءَ الدِّين، واجعَلْهُم عبرةً للمعتبِرِينَ، وانصُرْ عبادَكَ المؤمنينَ، واكتُبْ لهم العزَّ والتمكينَ، اللهم اجعل هذا البلدَ آمِنًا مطمئِنًّا رخاءً وسعةً، وسائر بلاد المسلمين، اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافكَ واتقاكَ، واتبع رضاكَ يا رب العالمين، اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، وخذ بناصيته للبر والتقوى.
اللهم كن لإخواننا المستضعفين، والمجاهدين في سبيلك، والمرابطين على الثغور، وحماة الحدود، اللهم كن لهم معينًا ونصيرًا، ومؤيدًا وظهيرًا، اللهم ارزقنا بصيرة تزكُو بها نفوسُنا، وتسمو بها أرواحُنا، فنُؤثِر محبتَكَ ومراضيكَ، على أهوائنا وشهواتنا.
اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام، ومن سيئ الأسقام، اللهم جنبنا منكَراتِ الأخلاق والأهواء والأعمال والأدواء، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات