عناصر الخطبة
1/أهمية استماع القرآن الكريم 2/ضوابط الاستماع النافع للقرآن الكريم 3/أخطاء تحدث عند سماع القرآن 4/فضائل استماع القرآن العظيم كثيرة ومتنوعة 5/ الفرق بين الاستماع والإنصات 6/أهمية الاجتماع للقرآن وتدارسه واستماعه.

اقتباس

استماع القراءة من القارئ حَسَنِ الصَّوت الذي يجيد التِّلاوة أمر متفق على استحبابه، وهو عادة الأخيار، والصالحين من سلف هذه الأمة، فللتلاوة المُتقَنة أكبر الأثر في فهم معاني القرآن، لكن لا بد من تقييد ذلك بهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الاستماع من الإنصات، والاستجابة لها ثم التدبر الذي يحرك القلوب للعمل...

الخُطْبَة الأُولَى:

 

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 إذا كان القرآن العظيمِ يُتعبَّد بتلاوته؛ لأنه مبارك، فهو أيضاً يُتعبَّد بسماعه. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُحب أن يسمع القرآن من غيره، وأَمر عبدَ الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن يقرأ عليه القرآن وهو يستمع له، فخشع لسماع القرآن منه، حتى ذرفت عيناه الشَّريفتان -صلى الله عليه وسلم-.

 

 معشر المسلمين: إنَّ طَلَبَ استماع القراءة من القارئ حَسَنِ الصَّوت الذي يجيد التِّلاوة أمر متفق على استحبابه، وهو عادة الأخيار، والصالحين من سلف هذه الأمة، فللتلاوة المُتقَنة أكبر الأثر في فهم معاني القرآن، لكن لا بد من تقييد ذلك بهدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الاستماع من الإنصات، والاستجابة لها ثم التدبر الذي يزيل الغشاوة، ويحرك القلوب للعمل.

 

 أمَّا ما يفعله بعض الناس عند سماعهم للقرآن من رفع الأصوات وقولهم: "الله"، أو ما أشبه ذلك مما هو معلوم، فهو بدعة منكرة وصارفة عن فهم وتدبر القرآن العظيم والانتفاع بمواعظه. وفضائل استماع القرآن العظيم كثيرة ومتنوعة، سيكون الحديث عن أهمها:

 

 الفضيلة الأولى: استماع القرآن سبب لرحمة الله:

 قال الله -تعالى-: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الأعراف: 204]. "قال الليث: يقال: ما الرَّحمة إلى أحد بأسرعِ منها إلى مستمع القرآن؛ لقولِ الله -جَلَّ ذكره-: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، و"لَعَلَّ" - من الله -تعالى- واجبة". أي: لعل الله -تعالى- يرحمكم في الدنيا والآخرة، وهو أمر أوجبه الله -تعالى- على نفسه الشريفة حال تحقيق شروط الاستماع والإنصات المذكور في الآية.

 

مسألة: ما الفرق بين الاستماع والإنصات في الآية؟

"الفرق بين الاستماع والإنصات: أن الإِنصات في الظاهر، بترك التَّحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه. وأما الاستماع له، فهو أن يُلقي سمعَه، ويُحضر قلبَه، ويتدبر ما يسمع. فإِنَّ مَنْ لاَزَمَ على هذين الأمرين -الاستماع والإنصات-، حين يُتلى كتاب الله، فإنه ينال خيراً كثيراً، وعلماً غزيراً، وإيماناً مستمراً متجدداً، وهدى متزايداً، وبصيرة في دينه. ولهذا رتب الله حصول الرحمة عليهما. فدلَّ ذلك، على أن مَنْ تُلِيَ عليه الكتاب، فلم يَسْمَع له ولم يُنصِت، أنه محروم الحظ من الرحمة، قد فاته خير كثير".

 

 والناس يخسرون الخسارة التي لا يُعارضها شيء بالانصراف عن هذا القرآن العظيم، وإنَّ الآيةَ الواحدة لتصنع أحياناً في النفس -حين تسمع لها وتُنصت- أعاجيب من الانفعال والتأثر والاستجابة والطمأنينة والراحة، والنقلة البعيدة في المعرفة الواعية المستنيرة، مما لا يدركه إلاَّ مَنْ ذاقه وعَرَفَهُ.

 

وقد أَخبر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن الاجتماع للقرآن وتدارسه واستماعه له فوائد عظيمة وجليلة، منها: حصولهم على رحمة الله -تعالى-، في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْت مِنْ بُيُوتِ الله، يَتْلُونَ كِتَابَ الله، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ المَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُم اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ".

 

 الفضيلة الثانية: استماع القرآن سبب لهداية الإنس والجن:

 استماع القرآن العظيم من الأعمال الصالحة الجليلة التي بَشَّرَ القرآنُ أصحابَها بالهداية، وَوَصَفهم بأنهم أصحاب عقول سليمة وراشدة، في قوله -تعالى-: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[الزمر: 17، 18]. فهذا من حزمهم وعقلهم أنهم يتَّبعون أحسن الأقوال، و(الْقَوْلَ) في الآية جنس، يشمل كل قول، فهم يستمعون جنس القول؛ ليميزوا بين ما ينبغي إيثاره، مما ينبغي اجتنابه.

 

 أيها المسلمون: لا شَكَّ أَنَّ أحسن القول على الإطلاق هو كلام الله -تعالى-، ثم كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-، كما قال -تعالى-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا)[الزمر: 23]. وأحسنُ الكتبِ المُنزَّلة من كلام الله -تعالى- هذا القرآن العظيم.

 

وهنا فائدة مهمة: وهي أنه -تعالى- لَمَّا أخبر عن هؤلاء الممدوحين، أنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه، كأَنَّ سائلاً يسأل: هل من طريق إلى معرفة أحسنه، حتى نَتَّصِفَ بصفات أُولي الألباب، وحتى نعرف أَنَّ مَنْ آثَرَهُ على غيره فهو مِنْ أولي الألباب؟ قيل له: نعم، أَحْسَنُه ما نَصَّ اللهُ -تعالى- عليه بقوله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا...) الآية.

 

فهؤلاء الذين يستمعون القرآن العظيم ويتَّبعونه هم الذين هداهم الله -تعالى- لأحسن الأخلاق والأعمال الظاهرة والباطنة، وهؤلاء هم أُولوا العقول الزكية. وَمِنْ لُبِّهِم وحزمهم: أنهم عرفوا الحَسَنَ وغيرَه، وآثروا ما ينبغي إيثاره على ما سواه.

 

 وهذا علامة العقل، بل لا علامة للعقل، سوى ذلك، فإن الذي لا يُميِّز بين حَسَنِ الأقوالِ وقبيحِها، ليس من أهل العقول الصحيحة. أو الذي يُميز، لكن غلبت شهوتُه عَقْلَه، فبقي عقلُه تابعاً لها، فلم يؤثر الأحسن، كان ناقِصَ العقل.

 

 والقرآن الكريم بوصفه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يحمل مُقوِّمات الهداية الذاتية، والتي إذا تجرَّد المستمعُ إليه من شوائب النفس، وعبادة الهوى تمكَّنت الهدايةُ من قلب مُستمعه. ولذلك جعل الله -تعالى- سماع القرآن العظيم من أسباب هداية الكفار ودخولهم في الإسلام، قال -تعالى-: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ)[التوبة: 6].

 

أيها الإخوة الكرام: وقد جعل الله -تعالى- استماع القرآن سبباً لهداية الجن ودخولهم في الإسلام، قال الله -تعالى-: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)[الجن: 1، 2]. فهؤلاء نفر من الجن أراد الله -تعالى- لهم الخير فصرفهم إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لسماع القرآن الكريم، ولتقوم عليهم الحجة، وتتم عليهم النعمة، ويكونوا منذرين لقومهم. وذلك: أنهم لَمَّا حضروه قالوا: أنصتوا. فلما أنصتوا، فهموا معانيه، ووصلت حقائقه إلى قلوبهم، ثم وَلَّوا إلى قومهم منذرين ومبشرين.

 

 قال الله -تعالى-: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)[الأحقاف: 29، 30].

 

وتأمَّل معي - أخي الحبيب - هذه اللفتة الجميلة في قول الجن: (أَنْصِتُوا)، وما توحي به من أهمية الإنصات حال استماع القرآن، وأن الإنصات سبب في انفتاح القلب لمعاني القرآن، ولو أن كفار قريش وغيرهم أنصتوا كما أنصت الجن إلى القرآن؛ لاهتدوا إلى الحق. فليت شعري، هل من مُنصت إلى كلام الله -تعالى-؛ لتحقَّق له الهداية؟

 

 

 الخطبة الثانية:

 

 الحمد لله...

 

 الفضيلة الثالثة: استماع القرآن سبب لخشوع القلب وبكاء العين:

 وقدوتنا في ذلك نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- إمام الخاشعين الذي قال عنه ابن مسعود رضي الله عنه: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقْرَأ عَلَيَّ"؛ قالَ: قُلْتُ: أَقْرَأُ وعَليْكَ أُنْزِلَ؟ قالَ: "إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي". قَالَ: فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا)[النساء: 41]. قالَ لِي: "كُفَّ أَوْ أَمْسِكْ"؛ فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَانِ. وعند مُسلمٍ: قال ابنُ مسعود رضي الله عنه: "رَفَعْتُ رَأْسِي، أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ". وفي رواية: "فَبَكَى".

 

"قال ابن بطَّال: يحتمل أَنْ يكون أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَه من غيره ليكون عَرْضُ القرآن سُنَّةً، ويحتمل أن يكون لكي يتدبره ويتفهمه، وذلك أنَّ المستمع أقوى على التدبر، ونَفْسُه أخلى وأنشط لذلك من القارئ؛ لانشغاله بالقراءة وأحكامها". 

 

ومن الفوائد التي ذكرها النووي -رحمه الله- عند شرحه لهذا الحديث: "استحبابُ استماعِ القراءة، والإصغاء لها، والبكاء عندها، وتدبُّرِها، واستحبابُ طلبِ القراءةِ من غَيرِه لِيستَمِعَ له، وهو أبلغُ في التفهم، والتدبر من قراءته بِنَفْسِه، وفيه تَواضع أهل العلم والفضل ولو مع أتباعهم".

 

وهذه هي سُنَّة الأنبياء وطريقتهم جميعاً عليهم السلام عند استماعهم لكلام الله -تعالى- وآياته تفيض أعينهم بالدموع، وتخضع وتخشع قلوبهم وتتأثر من كلام الرحمن -عز وجل-، قال -تعالى-: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)[مريم: 58].

 

الدعاء...

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life