عناصر الخطبة
1/ أهمية مشاعر الفرح والسعادة في الحياة 2/ كثرة بواعث السعادة 3/ من مشاهد الفرح في الآخرة 4/ صور من كربات يوم القيامة 5/ ما أغدرك يا ابن آدم! 6/ فرح وسعادة آخر أهل الجنة دخولاً 7/ غمسة الآخرة تنسي الدنيا
اهداف الخطبة

اقتباس

حَرِيٌّ بِكُلِّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ عَرَفَ قِيمَةَ فَرْحَةِ الدَّارِ الآخِرَةِ أَنْ يُشَمِّرَ، وَيَسْعَى لَهَا سَعْيَهَا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَالطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ مِنْ صَلاةٍ وَإِحْسَانٍ وَصِيَامٍ وَصِلَةٍ وَقُرْآنٍ وَيُجَاهِدُ نَفْسَهُ حَقَّ جِهَادِهِ فِي سَبِيلِ إِسْعَادِهَا وَهنَائِهَا... فَيَا طَالِبًا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ لاَ تَقْتُلْ فَرْحَةَ الآخِرَةِ وَسَعَادَتَهَا الأَبَدِيَّةَ السَّرْمَدِيَّةَ بِلَذَّةٍ طَائِشَةٍ وَشَهْوَةٍ عَابِرَةٍ، يَسْتَهْوِيكَ فِيهَا الشَّيْطَانُ، فَتُرْسِلُ طَرَفَكَ لِلْحَرَامِ، وَجَوَارِحَكَ لِلآثَامِ... تَذَكَّرْ أَخِي المُبَارَكَ أَنَّ فَرْحَةَ تِلْكَ...

 

 

 

 

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ شُعُورٌ جَمِيلٌ، وَلَذَّةٌ مَرْغُوبَةٌ، وَنَشْوَةٌ مَطْلُوبَةٌ، فَالْكُلُّ يَنْشُدُ الْفَرَحَ، وَيَسْعَى نَحْوَهُ، وَيَرْنُو إِلَيْهِ، وَأَعْظَمُ حَالَاتِ الْفَرَحِ وَأسَرُّهَا حِينَ يَكُونُ بَعْدَ أَوْقَاتِ الْعَنَاءِ وَلَحَظَاتِ الشِّدَةِ وَالتَّعَبِ، فَالْمَرِيضُ يَفْرَحُ بِالصِّحَّةِ، وَالْفَقِيرُ يُسَرُّ بِالْغِنَى، وَالْمُسَافِرُ الَّذِي طَالَتْ غَيْبَتُهُ يَسْعَدُ بِلُقْيَا أَهْلِهِ وَأَحْبَابهُ.

مُفْرِحَاتُ الْحَيَاةِ كَثِيرَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، وَلِكُلٍّ مَشْرَبُهُ فِي اسْتِجْلَابِهَا وَاسْتِشْعَارِهَا، وَنَحْنُ نَرَى هَذِهِ الْأَيَّامَ فَرْحَةَ الْأَوْلَادِ بِالنَّجَاحِ، وَنُشَاطِرُهُمْ هَذِهِ الْبَهْجَةَ، مَا أَجْمَلَ أَنْ نُحَلِّقَ مَعَ عَالَمٍ آخَرَ؛ لِنَتَصَوَّرَ وَإِيَّاكُمْ فَرَحًا سَامِيًا، فَرَحًا لَا يَشُوبُهُ كَدَرٌ، وَسُرُورًا لَا يُنَغِّصُهُ حُزْنٌ، وَسَعَادَةٌ لَا تُخَالِطُهَا أَسًى.

فَأَرْعِ لَنَا أَخِي الْمُبَارَكَ سَمْعَكَ، وَاسْتَجْمِعَ مَعَنَا قَلْبَكَ مَعَ مَشْهَدَيْنِ مَنْ مَشَاهِدِ فَرَحِ الْآخِرَةِ؛ (وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 17]، وَقَدْ كَانَ الْحَبِيبُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مَا يَرْبِطُ بَيْنَ مَا يُشَاهِدُهُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا بِحَيَاةِ الْآخِرَةِ لِتَتَعَلَّقَ الْقلُوبُ بِالْآخِرَةِ.

فَحِينَ أَهْدَى مَلِكُ النَّصَارَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُبَّةً مِنْ دِيبَاجٍ مَنْسُوجٌ فِيهَا الذَّهَبُ، تَعَجَّبَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مِنْ نُعُومَتِهَا، وَجَعَلُوا يَمْسَحُونَهَا وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذِهِ فَوَاللهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنَ مِمَّا تَرَوْنَ".

وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيْضًا إِذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، قَالَ: "لَبَيَّكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ "

• المشهد الأول:
رَجِفَتِ الرَّاجِفَةُ، تَبِعَتْهَا الرَّادِفَةُ، وَقَامَ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَرَأَى ذَلِكَ الْعَبْدُ عَيْنَ الْيَقِينِ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالْفَظَائِعِ مَا تَطِيشُ لَهُ الْعُقُولُ وَتَشْخَصُ لَهُ الْأَبْصَارُ وَتَبْلُغُ مِنْهُ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ.

فَهِذِهِ الْأَرْضُ السَّاكِنَةُ الْقَارَّةُ قَدْ بُدِّلَتْ وَتَغَيَّرَتْ، فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي عَهِدَهَا الإنْسَانُ وَعَاشَ فِيهَا (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [إبراهيم: 48]، أَوْحَى الْقَهَّارُ إِلَى أَرْضِهِ فزُلْزِلَتِ زِلْزَالَهَا؛ (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا) [الزلزلة: 2-3].

رَأَى الْإِنْسَانُ تِلْكَ الْجِبَالَ الشَّاهِقَةَ الْمَنِيعَةَ قَدْ قُلِعَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا، وَارْتَفَعَتْ عَنْ أَرْضَهَا، تَمُرُّ عَلَى الرُّؤُوسِ مَرَّ السَّحَابِ، فَتَكُونُ كَثِيبًا مَهِيلاً، وَتَكُونُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ، ثُمَّ يَدُكُّهَا الْجَبَّارُ جَلَّ جَلَالُهُ دَكًّا دَكًّا؛ (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) [الواقعة: 13- 15].

فَعَادَتْ تِلْكَ الأَرْضُ مُسْتَوِيَةً لاَ ارْتِفَاعَ فِيهَا، وَلَا انْعِوَاجَ؛ (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) [طه: 105- 107].

وَيَرْفَعُ هَذَا العَبْدُ رَأْسَهُ فَيَرَى السَّمَاءَ الصَّافِيَةَ قَدْ تَحَوَّلَ شَكْلُهَا، وَبُدِّلَ بَهَاؤُهَا، وَتَغَيَّرَ نِظَامُهَا فَاضْطَرَبَتْ وَتَشَقَّقَتْ وَتَصَدَّعَتْ؛ (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار: 1]، (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق: 1]، (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) [الحاقة: 16].

فَإِذَا هِيَ كَالْمُهْلِ تَنَاثَرَتْ نُجُومُهَا وَانْكَدَرَتْ، وَخَسَفَتْ شَمْسُهَا وَتَكَوَّرَتْ، فَغَابَ ضِيَاؤُهَا وَانْمَحَى نُورُهَا، أَمَّا بِحَارُ الأَرْضِ الَّتِي تُغَطِّي أَكْثَرَ مِسَاحَتِهَا، فَتَتَحَوَّلُ بِإِذْنِ رَبِّهَا إِلَى نَارٍ مُسْتَعِرَةٍ، (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ).

وَرَأَى العَبْدُ أَيْضًا فِي عَرَصَاتِ القِيَامَةِ الوُحُوشَ قَدْ حُشِرَتْ، وَالعِشَارُ قَدْ عُطِّلَتْ، وَالنُّفُوسُ قَدْ زُوِّجَتْ وَالبَشَرِيَّةُ كُلُّهَا قَدْ ظَهَرَ عَجْزُهَا، وَبَانَ ضَعْفُهَا وَانْقَادَتْ جَمِيعُهَا لِنِدَاءِ رَبِّها؛ (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا) [طه: 108]، وَيَوْمَئِذٍ يَقُولُ الإِنْسَانُ: أَيْنَ المَفَرُّ؟ (يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ *يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة: 10- 13].

إِنَّهَا وَرَبِّي كُرُبَاتٌ فِي كُرُبَاتٍ، تَصْدَعُ لَهَا القُلُوبُ، وَتَجْثُو مِنْ هَوْلِهَا الأُمَمُ، وَيَدْعُو الأَنْبِيَاءُ: "اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ"، إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ.

فِي هَذَا المَوْقِفِ العَصِيبِ وَالكَرْبِ الشَّدِيدِ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى، يَنْتَظِرُ هَذَا العَبْدُ وَقَدْ أَغْلَقَ الخَوْفُ وَالاضْطِرَابُ قَلْبَهُ نَتِيجَةَ عَمَلِهِ وَمَآلِ مُسْتَقَرِّهِ، فَإِمَّا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَإِمَّا إِلَى نَارٍ تَلَظَّى لاَ يَصْلَاهَا إِلاَّ الأَشْقَى.

وَتَحِينُ اللَّحْظَةُ الحَاسِمَةُ وَالمَوْقِفُ الَّذِي يَنْسَى فِيهِ العَبْدُ كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ نَفْسَهُ، يَوْمَ تُنْشَرُ الصُّحُفُ وَتَتَطَايَرُ عَلَى رُؤُوسِ العِبَادِ لِيَأْخُذَ كُلُّ عَبْدٍ نَتِيجَةَ عَمَلِهِ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؛ (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 13- 14].

بَكَتْ أُمُّنَا أَمُّ المُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا يَوْمًا، فَسَأَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبَبِ بُكَائِهَا؟ فَقَالَتْ: "ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ فَهَلْ تُذَكِّرُونَ أَهْلِيكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ؟"، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا فِي ثَلاَثَةِ مَوَاطِنَ فَلاَ يَذْكُرُ أَحَدٌ أَحَدًا: عِنْدَ المِيزَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أَوْ يَثْقُلُ، وَعِنْدَ تَطَايُرِ الصُّحُفِ حَتَّى يَعْلَمَ أَيْنَ يَقَعُ كِتَابُهُ فِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، وَعِنْدَ الصِّرَاطِ إِذَا وُضِعَ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ حَتَّى يَجُوزَ".

وَيَتَقَدَّمُ ذَلِكَ العَبْدُ حَافِيًا عَارِيًا لاَ تَسَلْ عَنْ حَالِهِ وَاضْطِرَابِهِ، فَهَذَا مَقَامٌ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ وَيَعْبُرَ، حَسْبُكَ بِهِ وَصْفًا أَنَّ الإِنْسَانَ يَنْسَى فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ نَفْسَهُ.

وَفِي لَحْظَةِ الوَجَلِ وَالارْتِبَاطِ قَدْ جَمُدَ مِنْهُ دَمُ العِرْقِ وَوَقَفَ فِيهِ شَعْرُ الرَّأْسِ يُبَشَّرُ ذَلِكَ العَبْدُ بِأَعْظَمَ بِشَارَةٍ وَأَكْبَرِ تَهْنِئَةٍ يَوْمَ أَنْ تَسْلَمَ لَهُ صَحِيفَتُهُ بِيَمِينِهِ، فَلاَ تَسَلْ عَنْ فَرْحَتِهِ وَسَعَادَتِهِ فَيَنْطَلِقُ فِي فَرْحَةٍ غَامِرَةٍ بَيْنَ الجُمُوعِ الحَاشِدَةِ تَمْلَأُ النَّشْوَةُ جَوَانِحَهُ وَتَغْلِبُهُ عَلَى لِسَانِهِ فَيَهْتِفُ حِينَهَا: (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ)، (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ) [الحاقة: 19]، إِنَّهَا فَرْحَةٌ تَلُفُّ الكِيَانَ وَتَغْمُرُ الفُؤَادَ فَلاَ يَبْقَى في القَلبِ شَيْءٌ إِلاَّ الفَرَحُ.

وِفِي لَحْظَةِ البَهْجَةِ وَالغَبْطَةِ يَسْمَعُ العَبْدُ غَيْرَهُ مَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ الكَرَامَةِ فَيُنَادِي: (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ) [الحاقة: 19 -20]، نَعَمْ كَانَ هَذَا الفَرَحَ الظَّاهِرَ؛ لِأَنَّهُ نَتِيجَتُهُ؛ (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا) [الانشقاق: 8- 9]، وَعَاقِبَتُهُ؛ (فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [الإسراء: 71]، وَنِهَايَتُهُ؛ (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 20- 24].

إِنَّهُ بِحَقٍّ سُرُورٌ لَا يَنْقُصُ، وَسَعَادَةٌ لاَ تَنْتَهِي؛ (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود: 108].

 

• وَمَشْهَدٌ آخَرُ مِنْ مَشَاهِدِ فَرَحِ الآخِرَةِ
إِنَّهُ فَرَحُ دُخُولِ الجَنَّةِ، أَلَا إِنَّ هَذَا الفَرَحَ الَّذِي نَعْنِيهِ لَيْسَ فَرَحَ أَوَّلِ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وُجُوهُمْ كَالقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، وَلاَ فَرَحَ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِلاَ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ، وَلاَ فَرَحَ مَنْ يُكْرَمُ بِمُرَافَقَةِ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

وَإِنَّمَا هُوَ فَرَحٌ آخَرُ، رَجَلٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ وَهُوَ أَدْنَى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً، ذَاكَ رَجُلٌ قَدِ اسْتَحَقَّ أَنْ يُعَذَّبَ فِي النَّار مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُ ثُمَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ فَيُخْرَجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ جَهَنَّمَ وَقَدْ ذَاقَ مَسَّ سَقَر، وَعَاشَ غَمَّهَا، وَذَاقَ زَقُّومَهَا، وَشَرِبَ مِنْ صَدِيدِهَا، وَتَلَجْلَجَ فِي فِجَاجِهَا، وَسَمِعَ تَغِيُّظَهَا وَزَفِيرَهَا، وَقَاسَى مِنْ شِدَّةِ هَوْلِهَا، مَا يَفْصِلُ الجِلْدَ واللَّحْمَ عَنِ العَظْمِ؛ (كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى) [المعارج: 15- 16].

خَرَجَ هَذَا الرَّجُلُ مِنَ النَّارِ يُحْطِمُ بَعْضَهَا بَعْضًا، قَدْ تَفَاقَمَتْ فَظَاعَتُهَا وَتَنَاهَتْ بَشَاعَتُهَا، خَرَجَ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ المُوحِشَةِ المُظْلِمَةِ وَهُوَ يَمْشِي مَرَّةً وَيَكْبُو مَرَّةً وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً حَتَّى إِذَا مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا وَقَدْ طَارَ عَقْلُهُ مِنَ السُّرُورِ فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ لَقَدْ أَعْطَانِي اللهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا مِنَ الأَوَّلِينَ الآخِرِينَ.

وَيَبْقَى ذَلِكَ الرَّجُلُ مُقْبِلاً بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ فَيَقُولُ: أيْ رَبِّ: اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا؛ [أَيْ: شِدَّةُ لَهِيبِهَا]، فَيَدْعُو اللهَ مَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوهُ ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: "هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟" فَيَقولُ: لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، وَيُعْطِي رَبَّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ فَيَصْرِفُ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ.

ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ فَيَرَاهَا وَيُعْجَبُ بِفَيْئِهَا وَظِلِّهَا فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ اللهُ لَهُ أَنْ يَسْكُتَ ثُمَّ يَقُولُ: أيْ رَبِّ، أدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ لِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا.

فَيَقُولُ اللهُ: "يَا ابْنَ آدَمَ لَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَهَا سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا؟ " فَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ، وَيُعَاهِدُ رَبَّهُ أَلاَّ يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا وَرَبُّهُ تَعَالَى يَعْذِرُهُ؛ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ اللهُ مِنْهَا فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا.

ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ أَحْسَنُ مِنَ الأُولَى فَيَرَاهَا، وَقَدْ ازْدَانَ ظِلُّهَا، وَحَسُنَ بَهَاؤُهَا فَيَصْبِرُ مَا شَاءَ اللهُ لَهُ أَنْ يَصْبِرَ ثُمَّ يَقُولُ: أيْ رَبِّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لِأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، وَأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، فَيُدْنِيهِ اللهُ مِنْهَا وَيَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا.

حَتَّى إِذَا اسْتَظَلَّ بِظِلِّهَا، وَشَرِبَ مِنْ مَائِهَا، تَلَأْلَأَتْ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الجَنَّةِ أَحْسَنُ نَظارَةً مِنْ شَجَرَتِهِ تِلْكَ، فَيَسْكُتُ وَيَصْبِرُ.

ثُمَّ يَقُولُ: أيْ رَبِّ، أدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ لِأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا، وَيُعَاهِدُ رَبَّهُ أَلاَّ يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ لِأَنَّهُ يَرَى مَا لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا، فَيُدْنِيهِ اللهُ مِنْهَا فَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، وَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا، عِنْدَهَا يَسْمَعُ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الجَنَّة، فَإِذَا أُوقِفَ عَلَى بَابِهَا انْفَهَقَتْ لَهُ الجَنَّةَ، فَرَأَى مَا فِيهَا مِنَ الخَيْرِ وَالسُّرُورِ، وَرَأَى مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.

شَاهَدَ القُصُورَ وَالأَنْهَارَ، وَالخِيَامَ وَالثِّمَارَ، وَرَأَى السِّدْرَ المَخْضُودَ، وَالطَّلْحَ المَنْضُودَ، وَالمَاءَ المَسْكُوبَ، وَالظِّلَّ المَمْدُودَ، رَأَى تُرَابَهَا الزَّعْفَرَانَ، وَحَصْبائهَا اللُّؤْلُؤُ وَاليَاقُوتُ وَبِنَاؤُهَا الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ.

رَأَى ذَلِكَ كُلَّهُ وَقَلْبُهُ قَدْ بَلَغَتْ بِهِ الأَمَانِي كُلَّ مَبْلَغٍ أَنْ يَدْخُلَ هَذِهِ الدَّارَ، فَيَسْكُتُ ذَاكَ الرَّجُلُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْكُتَ فَيَنْقَطِعُ صَبْرُهُ وَتَتَلَوَّعُ نَفْسُهُ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَهَا: يَا رَبِّ أَدْخِلْنِي الجَنَّةَ.

فَيَقُولُ اللهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَلاَّ تَسْأَلَنِي غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ!

فَيَقُولُ: أيْ رَبِّ، لاَ أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ، فلاَ يَزَالُ الرَّجُلُ يَدْعُو رَبَّهُ وَيَتَضَرَّعُ وَيلْحَفُ حَتَّى يَقُولُ اللهُ - تَبَاركَ وَتَعالَى: يَا ابْنَ آدَمَ، ادْخُلِ الجَنَّةَ، فَإِذَا دَخَلَهَا جَعَلَ يُقَلِّبُ نَظَرَهُ فِيهَا، وَقَدْ مَلَأَتْ عَلَيْهِ قَلْبَهُ وَوِجْدَانَهُ.

فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: تَمَنَّ، فَيَسْأَلُ كُلَّ نِعْمَةٍ، وَيَتَمَنَّى حَتَّى إِنَّ رَبَّهُ لِيُذْكُرُهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا، حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الأَمَانِي، قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ، فَيَدخُلُ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فِي الجَنَّةَ، فَتَتَلَقَّاهُ زَوْجَتَاهُ مِنَ الحُورِ العِينِ، فَيَقُولانِ لَهُ: "الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَحْيَاكَ لَنَا وَأحْيَانَا لَكَ"، فَيَقُولُ الرَّجُلُ فِي سَعَادَةٍ وَفَرَحٍ وَانْشِرَاحٍ: "مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتُ".

ذَاكَ عِبَادَ اللهِ فَرَحُ آخَرِ أَهْلِ الجَنَّة دُخُولاً وَنَعِيمُ أَدْنِى أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً، سَاقَ خَبَرُهُ الإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مُفرَّقا.

جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ أَهْلِ النَّجَاحِ وَيَسَّرَ لَنَا العَمَلَ الصَّالِحَ المُوَصِّلَ لِبِلاَدِ الأَفْرَاحِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الجَنَّة أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ).

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ هَذَا القَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّه هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِ اللهِ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

أَمَّا بَعْدُ: فَحَرِيٌّ بِكُلِّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ عَرَفَ قِيمَةَ فَرْحَةِ الدَّارِ الآخِرَةِ أَنْ يُشَمِّرَ، وَيَسْعَى لَهَا سَعْيَهَا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَالطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ مِنْ صَلاةٍ وَإِحْسَانٍ وَصِيَامٍ وَصِلَةٍ وَقُرْآنٍ وَيُجَاهِدُ نَفْسَهُ حَقَّ جِهَادِهِ فِي سَبِيلِ إِسْعَادِهَا وَهنَائِهَا.

فَيَا طَالِبًا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ لاَ تَقْتُلْ فَرْحَةَ الآخِرَةِ وَسَعَادَتَهَا الأَبَدِيَّةَ السَّرْمَدِيَّةَ بِلَذَّةٍ طَائِشَةٍ وَشَهْوَةٍ عَابِرَةٍ، يَسْتَهْوِيكَ فِيهَا الشَّيْطَانُ، فَتُرْسِلُ طَرَفَكَ لِلْحَرَامِ، وَجَوَارِحَكَ لِلآثَامِ.

تَذَكَّرْ أَخِي المُبَارَكَ أَنَّ فَرْحَةَ تِلْكَ الدَّارَ تُنْسِي كُلَّ بُؤْسٍ قَبْلَهَا، وَحَسْرَةَ ذَلِكَ اليَوْمِ تُذْهِبُ فَرْحَةَ كُلِّ نَعيمٍ.

رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ فِي الْجَنَّةِ صَبْغَةً فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ".

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ.
 

 

 

 

 

 

المرفقات
فرحة الآخرة.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life