عناصر الخطبة
1/برود المشاعر من ضعف الإيمان 2/نماذج من حزن الرسول على ما يصيب المسلمين 3/ما فائدة المشاعر؟ وهل سينتصر المسلمون بذلك؟! 4/مبشرات انتصار الإسلاماقتباس
إن معاني تحرقِ القلبِ وتفجرِ المشاعر والشعورِ بالألم لا تكفي وحدها، لكنها الحصنُ الأخيرُ في الإيمان، والذي أصبحنا نرى فقدَه في كثير من الناس الذي تعايشوا مع الوضع، ولم يعودوا يقدموا شيئا لإخوانهم، ولا يشعرون بشيءٍ تجاه معاناتهم...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أما بعد: إن من أعظمِ المصائب، وأجلِّ الدواهي، أن يصابَ المرءُ في دينه، ويُبتلى من جهة إيمانه، وقد قال بعض السلف: "يا عجبًا للناس يبكون على مَنْ مات جسدُه، ولا يبكون على مَنْ مات قلبُه وهو أشد!".
وإن من علاماتِ مرضِ القلب اعتيادُ المعصيةِ، وإلفُ مشاهدتِها، والتعايشُ مع وجودِها دون إنكارٍ بالقلب أو باليدِ أو باللسان.
إن برودَ المشاعر تجاه الفظائعِ والمنكراتِ يعطي دلالةً على غيابِ الإيمانِ في القلب، وهذه -والله- أمُّ المصائب، قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مبيناً حال أهلِ الإيمان مع أصحاب الشرِّ الإجرامِ: "فمَن جاهَدَهُمْ بيَدِهِ فَهو مُؤْمِنٌ، ومَن جاهَدَهُمْ بلِسانِهِ فَهو مُؤْمِنٌ، ومَن جاهَدَهُمْ بقَلْبِهِ فَهو مُؤْمِنٌ، وليسَ وراءَ ذلكَ مِنَ الإيمانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ".
فمن يرى المجرمينَ يدمِّرون البلدان، ويسفكون الدماءَ، ثم لا يرجفُ له قلبٌ، ولا تتحرك منه شعرةٌ، ولا تنزلُ منه دمعةٌ، فليراجعْ إيمانَه، وليتفقدْ قلبَه، ألا يكون واقعاً في مصيبة الدينِ وهو لا يعلم.
يا أمة محمد: عندما حصلت حادثةُ بئرِ معونة، وقتلَ المجرمون سبعين من القراءِ من خيرةِ أصحابِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصف أنسٌ -رضي الله عنه- حالَ الحبيبِ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "ما رَأَيْتُ رَسولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَزِنَ حُزْنًا قَطُّ أَشَدَّ منه".
وحين كانَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقصُّ على أصحابِه أخبارَ معركةِ مؤتة، فكان مما قال لهم: "أخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أخَذَ ابنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ"، وخلال هذا النقل الإخباري يصف أنس أيضا حاله وهو يحكي تلك الأخبارَ فيقول: "وعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ"، فكانت عيناه -صلى الله عليه وسلم- تفيضُ من الدمع حزناً على فقدانِ أصحابه من أهلِ الإيمان.
تلك هي المشاعر الطبيعية التي تخالط المسلم حين يسمع بمآسي إخوته في الدين، إنها ذاتُ المشاعرِ الإيمانيةِ التي فاضتْ من فقراءِ الصحابةِ الذين قَصُرَتْ بهم النفقةُ، فلم يستطيعوا اللحاق بركبِ الجهادِ مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لدحرِ جحافلِ الشرِّ، فخلد اللهُ مشاعرَهم الصادقة في قوله -سبحانه-: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)[التوبة: 92].
ومما وردَ في سيرةِ الملكِ العادلِ نورِ الدين زنكي، أنه قَرَأَ عليه بعضُ الطلبة جزءاً في حديثٍ مسلسلٍ بالتبسمِ، ومعنى ذلك أن كلَّ من روى الحديثَ في سلسلةِ السند فإنه كان يتبسمُ في روايته، فطلب منه الطلبةُ أن يتبسمَ ليتصلَ التسلسل، فقال -رحمه الله-: "إني لأستحيي من الله أن يراني متبسما؛ والمسلمون تحاصرهم الفِرَنْجُ بثغرِ دُمياط!".
معاشر المسلمين: ما زال إخوانُكم في غزةَ يعيشون حرباً إجراميةً، اجتمعَ فيها القتلُ والإبادةُ، والنزوحُ والتهجيرُ، والحصارُ والتجويعُ... وفي هذه الأيام تزدادُ الحربُ، ويشتدُّ الخِنَاقُ، وليس هناك أفقٌ قريبٌ لانتهاء المعاناة.
ومع طول أمد الحرب، اعتاد كثير من الناس مشاهدَ الدمار، وأَلِفُوا أخبارَ القتلى والجرحى، وضعف امتعاضُ القلب، وخف الشعور بمآسي إخوة الإيمان، وإننا بحاجة ماسةٍ إلى تجديدِ مشاعرِنا، وإعادةِ استثارةِ أحاسيسِنا، فهذا هو أضعفُ الإيمان، وآخرُ حصونه، فإن فقدناه فما وراء ذلك من الإيمانِ حبةُ خردل، وقد يقول قائل: ما فائدة المشاعر؟ وهل سينتصر إخواننا بذلك؟!.
وإجابة على ذلك نقول: إن معاني تحرقِ القلبِ وتفجرِ المشاعر والشعورِ بالألم لا تكفي وحدها، لكنها الحصنُ الأخيرُ في الإيمان، والذي أصبحنا نرى فقدَه في كثير من الناس الذي تعايشوا مع الوضع، ولم يعودوا يقدموا شيئا لإخوانهم، ولا يشعرون بشيءٍ تجاه معاناتهم؛ ولذا فقد من الواجبِ علينا أن نعيدَ التذكير، ونحييَ الشعور، ونرممَ حصنَ الإيمانِ الأخير، ثم بعد أن تمتلئَ قلوبُنا هماً وحرقةً على إخوانِنا؛ نلتمس من ذلك وقوداً نتحركُ به في ميادينِ العملِ لنصرةِ إخواننا.
فمن واجبِ الدعاء الذي به تنتصرُ الأمةُ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما تُنصَرُ هذه الأمةُ بضُعفائِها؛ بدعوتِهم، وصلاتِهم، وإخلاصِهم"، إلى واجبِ الإغاثةِ والنصرةِ بالمالِ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن جَهَّزَ غازِيًا فقَدْ غَزا، ومَن خَلَفَ غازِيًا في أهْلِهِ فقَدْ غَزا"، إلى واجب المشاركةِ في معركةِ الوعي، ونشرِ القضية، والحثِّ على النصرة، والتذكيرِ برابطةِ الأخوةِ الإسلامية، وفضحِ مخططاتِ الكفارِ والمنافقين، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "جاهِدوا المُشركينَ بأَموالِكُم وأَنفُسِكُم وأَلسِنَتِكُم".
إن مأساةَ أمة الإسلام كبيرةٌ، تحتاج منا أن نتعاضدَ ونتكاتفَ، ويقدمَ كلٌ منا وُسعَه وجهدَه، قدِّمْ ما استطعت فإنه -واللهِ- مؤثرٌ ولو كان أقلَّ القليل، لا تحتقر دعواتٍ ترفعها في جنحِ الظلامِ، ولا كلماتٍ تخففُ بها معاناةِ الضعفاء، ولا ريالاتٍ تسدُّ بها جوعَ الفقراء، ولا صرخاتٍ تردعُ بها جبروتَ الأشقياء؛ (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[الحج: 40 - 41].
أقول هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: يقول خباب -رضي الله عنه-: "شَكَوْنَا إلى رَسولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلْنَا له: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟"، قال: "كانَ الرَّجُلُ فِيمَن قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فِيهِ، فيُجَاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ويُمْشَطُ بأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمْرَ، حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ علَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".
لقد وعد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هذا الوعد، والمسلمون في مكة يُضْطَّهدون من عتاةِ قريش، ولم يكن لهم يومئذٍ دولةٌ ولا جيشٌ، ولا عدةٌ ولا عتادٌ، كلُّ المقاييسِ البشريةِ والحساباتِ الأرضيةِ، لم تكن تتوقع بأن يسيطرَ المسلمون على مكة، التي يعيشون فيها وهم في غاية الذلِّ والقهر، فكيف يُتَصَوَّرُ أن تكونَ اليمنُ في أقصى جنوب الجزيرةِ تحت حكمِهم وملكِهم؟!.
هذه حساباتُ البشر، وتلك وعودُ الصدقِ من الله ورسوله، فأيهما كان أدقّ؟ وأيهما تحققَ في واقع البشر؟ لم يمتِ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حتى دانت للمسلمين اليمنُ وعمانُ والبحرين والجزيرةُ كلها، وتحقق وعدُ الله؛ (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا)[النساء: 122].
ثم ماذا حدثَ بعد ذلك؟ هل تتوقعون أن سنةَ البلاءِ انتهت، وأن طريقَ الإسلامِ صار مفروشا بالورود؟ لا والله، لقد تواطأت أممُ العالم على حربِ المسلمين طوالَ عصورِ التاريخ، وتقلبت أمة الإسلام بين النصر والهزيمة، وبين التمكين والتنكيل؛ (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)[آل عمران: 140].
لكنَّ الأمرَ الثابتَ الذي لم ينخرمْ طوال تلك القرون، أن أمةَ الإسلامِ مهما ذاقت من النَّكباتِ والويلات، كانت في كلِّ مرةٍ تخرجُ عاليةً شامخة، لم تُجْتَثَّ جذورُها، ولم يمتْ أبناؤُها، ولم ينفذِ الخيرُ من مكنونِها.
إن وعدَ الحق آتٍ لا محالة، ولكن النصرَ لا يأتي إلا بعد تجرع مرارة الصبر، قال -سبحانه-: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ)[الروم: 60].
فاصبروا -يا عباد الله- وصابروا، والزموا طريقَ الحقِّ ولا تتزعزعوا، وإن اللهَ ناصرٌ دينَه، معزٌ أولياءَه عاجلا أو آجلا، والنصرُ قد نراه نحن بأعيننا، وقد يؤخرُه اللهُ لأبنائِنا، ولكنَّ المهم أن نذهبَ إلى الله ونحن على الطريق، غير مبدلين ولا مغيرين؛ (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[الزخرف: 41 - 43].
اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، مجريَ السحاب، سَرِيعَ الْحِسَابِ، هازمَ الأحزاب، اللهم اهْزِمِ أحزاب الكفر، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ، اللهم يا مولانا يا نعم المولى ونعم النصير، اللهم أنت حسبنا ونعم الوكيل، اللهم لا إله إلا أنت القوي العزيز الجبار المتكبر، اللهم لا إله إلا أنت الرؤوف الرحمن الرحيم، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين في فلسطين، اللهم كن لهم مؤيدا ونصيرا، وظهيرا ومعينا، ربنا أفرغ عليهم صبرا، وثبت أقدامهم، وانصرهم على القوم الكافرين، اللهم عليك باليهود المعتدين، والصليبيين الحاقدين، والمنافقين المندسين، اللهم لا ترفع لليهود في غزة راية، ولا تحقق لهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية، اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين مطرودين مدحورين مخذولين.
التعليقات