عناصر الخطبة
1/بعض أحوال المرضى وأهل البلاء 2/بشارات ربانية ونبوية لأهل البلاء 3/نصائح وتوجيهات لأهل البلاء 4/استحباب عيادة المريض وفضلها 5/من أخطائنا في زيارة المرضىاقتباس
نخطئ في زياراتنا حينما تكون تقليدا وتكلفا ظاهرا، ومجاملات ثقيلة واتباعا لسنن الكافرين، فكم هو قبيح أن ترى مسلما أو مسلمة يتأبطون على أذرعتهم ورودا دفع فيها المئات؛ ليكون مصيرها سلال النفايات، وآخرين يتكلفون...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الذي جعلنا إخوة في الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إنه يحب المحسنين، ويجزي المتصدقين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، رسول من أنفسنا عزيز عليه ما عنتنا، حريص علينا رؤوف بالمؤمنين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
أما بعد: فاتقوا الله -يا عباد- الله وكونوا عباد الله إخوانا.
على الأسرة البيضاء يرقدون، ومن الآلام والجراحات يتوجعون، نومهم قليل، وليلهم طويل، وما أطول الليل على من لم ينم!، يرون علينا تاجا لا نراه، والصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، يتمنون ساعة يتحررون فيها من رق الأسرّة إلى جنة الأُسرة، هم وحدهم من يعرف نعمة العافية، فلو وزنت بملء الأرض ذهبا لرجحت؛ إنهم المرضى، والذين ابتلاهم الله بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون؛ ليكون البلاء عليهم نعمة ورحمة، يرفع لهم ذكرا، ويعظم لهم أجرا، ويكفر عنهم وزرا.
إنهم المرضى الصابرون فبشرهم ببشارة الله: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة: 157]، وبشرهم بأنه يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
إنهم المبتلون الصابرون على أقدار الله المؤلمة، فبشرهم بأن الله يجب الصابرين، وإذا أحب عبدا ابتلاه، ومن يرد به خيرا يصب منه، وبشرهم ببشارة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما يصيب المسلم من نصبٍ ولا وصب، ولا هم ولا غم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفَّر الله عنه من خطاياه"، "لَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ".
بشروا أهل البلاء بأن مقامهم عند الله عظيم إن صبروا واحتسبوا، حتى إن أهل العافية يتمنون في ذلك الموقف لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض.
بشروهم أن ما كانوا يعملونه في صحتهم يستمر معهم في سقمهم، فإذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما، فأي فضل أعظم من أن تسجل لك الحسنات وأنت نائم على فراشك؟! ويتعاظم الأجر بالصبر والحمد والاسترجاع، فأي فضل أعظم من هذا؟! ولذا قال سفيان الثوري: "ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة، وذلك أن صاحب البلاء ينتظر الرخاء، وصاحب الرخاء ينتظر البلاء".
بشروا من ابتلاهم الله بالأسقام والأمراض، فإذا كانت الحمى تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد، فما ظنك بما هو أشد وأكثر إيلاما.
بشروا الصابرين على الأدواء وذكروهم بالرضا والصبر والاحتساب؛ "من رَضِيَ فله الرضا، ومن سَخِطَ فعليه السخط".
إذا أجرى القضاءُ عليك خطباً *** فطب نفساً بما فعل القضاءُ
فكلُّ شديدة ٍ ولها انفراج *** وكُلُّ بلية ولها انقضاءُ
وعُذ بالله يكفي كُلَّ شرٍّ *** فإن الله يفعل ُ مـا يشاءُ
ذكروهم: أن يتداووا ولا يتداووا بحرام؛ فالغاية لا تبرر الوسيلة، فليحذروا من البحث عن دواء في مزابل السحرة والكهنة؛ فثم الكذب والخداع والاحتيال، وأكل الأموال بالباطل، مع قدح في العقيدة ونقص في الدين، وذكروهم أن تخفيف الآلام وتسلية النفس لا يكون بسماع المعازف والغناء والمحرَّم، أو الانشغال بمتابعة المسلسلات الهابطة، ومشاهدة الأفلام الساقطة، التي هي في حقيقة الأمر مرض خطير وداء عظيم، وإنما راحة البال ونزول السكينة في ذكر الله وتلاوة كتابه؛ (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
ذكروا من فقد طعم العافية: ألا يكثر من الشكوى والأنين، وأن يلزموا الذكر تسبيحاً وتحميداً، وتكبيراً وتهليلاً، وليحرصوا على لزوم الاستغفار واللجوء إلى الله -سبحانه-، فإن في ذلك فرجاً ومخرجاً، و"مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ؛ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ".
يا من مسَّك الله بضرٍّ لا يكشفه إلا هو -سبحانه-: إياك أن تيأس أو تقنط من رحمة الله -سبحانه-؛ فإنه لا يقنط من رحمته إلا الضالون، واحذر من تمني الموت متى اشتد عليك المرض أو طالت مدته، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍّ نزل به، فإن كان لا بد متمنياً، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي".
لا تفرط في الصلاة فالمرض ليس عذرا في تركها، فصل كيف استطعت قائما أو قاعدا أو مستلقيا أو على جنب، بل ولو بالإشارة إن عجزت؛ فتلك فريضة لا تسقط عن مسلم مهما اشتدت به الحال.
أذكركم -أيها المسلمون الصابرون- بهذه الكلمات الدقيقة لـشداد بن أوس -رضي الله عنه- إذ يقول: "أيها الناس، لا تتهموا الله في قضائه؛ فإنه لا يظلم أحداً، فإذا أنزل بك خيراً تحبه فاحمد الله على العافية، وإذا أنزل بك شيئاً تكرهه فاصبر واحتسب، واعلم أن الله -جل وعلا- عنده حسن الثواب".
أسأل الله العظيم أن يمنَّ علينا وعلى المبتلين بالعافية، وأن يمنحنا صحة الأبدان وسلامتها، أقول هذا، وأستغفِر الله ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإن هؤلاء الذين مستهم البأساء والضراء وابتلوا في أبدانهم وحرموا لذة المأكل والمنام، هؤلاء بحاجة إلى من يواسيهم ويؤانسهم ويذكرهم، ويدخل السرور عليهم، ويرفع من هممهم ويقوي قلوبهم؛ ولذا شرعت عيادة المرضى وجعلت حقا من حقوق المسلمين، وكان لها الجزاء العظيم وفي الحديث: "مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ"، "إِذَا عَادَ الرَّجُلُ أَخَاهُ أَوْ زَارَهُ فِي اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَبُوِّئْتَ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ"، "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا غُدْوَةً؛ إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، فَإِذَا عَادَهُ عَشِيَّةً؛ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الْجَنَّةِ".
زيارة المرضى وعيادتهم عبادة وطاعة، وباب أجر ومفتاح بر، وحق من حقوق المسلمين، تؤتي ثمارها إذا صاحبها الإخلاص، وكان حاديها حب الخير للغير، ورائدها هدي النبي وسنته، لكنها في زمن الماديات وتغليب المصالح صارت عادة وتقليدا، ودافعها المجاملات، وهاديها التقاليد والعادات؛ فحف بها كثير من الأخطاء والتجاوزات.
نخطئ في حق إخواننا المرضى حينما نقصر الزيارة على الأصحاب والأقربين، ونجهل أنها حق لمن عرفنا ومن لم نعرف، فكم على الأسرة البيضاء من وافدين جمعوا مع المرض غربة وكربة، لا يجدون من الأقارب من يؤانسهم، ولا من الأصحاب من يجالسهم، ولا من المسلمين من يقضي حوائجهم، فهل من مسلم يجعل لهؤلاء نصيبا من زياراته؛ ليدخل السرور عليهم بكلمة طيبة، أو بقضاء حاجة، أو تنفيس كربة؟ فكم ستكون خير داعية بهذا الخلق الرفيع؟.
نخطئ حينما ننسى في زياراتنا من لا يعون؛ بحجة أنهم لا يشعرون بنا، فإن كانوا لا يعلمون بزيارتك فالله يعلمها، وهو الذي يجازي بها، وكم في زيارتنا للمغمى عليهم من تطييب لخاطر أهله، وكم فيها من دعوة ربما تخترق الحجب ويقول الله: قد أجبت.
نخطئ في زيارتنا حينما نجعل من غرف المرضى متنزهات يجتمع فيها الصغار والكبار والرجال والنساء، فتتعالى الضحكات، ويكثر اللغو والضجيج، والمريض أحوج ما يكون إلى الراحة والهدوء.
نخطئ في زياراتنا حينما نتجاهل آدابها وطريقتها، ولا نراعي حق المريض وظروفه في وقتها ومدتها، ونوع الحديث فيها، وظروف مكانها.
نخطئ في زياراتنا حينما نحيد عن هدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، فلا دعاء للمريض ولا رقية، ولا كلمة طيبة ولا تطمين ولا تسلية، وربما كان في الحديث نوع تيئيس وتوحيش، وكثرة سؤال وتذكير للمريض بما يكره، دخل رجل على عمر بن عبدالعزيز في مرضه فسأله عن علته فأخبره، فقال الزائر: "إن هذه العلة ما شفي منها فلان ومات منها فلان"، فقال عمر: "إذا عدت مريضا فلا تنع إليه الموتى، وإذا خرجت عنا فلا تعد إلينا"، وقال سفيان الثوري: "حماقة العائد أشر على المرضى من أمراضهم، يجيئون من غير وقت ويطيلون الجلوس".
نخطئ في زياراتنا حينما تكون تقليدا وتكلفا ظاهرا، ومجاملات ثقيلة واتباعا لسنن الكافرين، فكم هو قبيح أن ترى مسلما أو مسلمة يتأبطون على أذرعتهم ورودا دفع فيها المئات؛ ليكون مصيرها سلال النفايات، وآخرين يتكلفون مأكولات وحلويات وهدايا أثقلت كاهلهم، جعلت من الزيارة هما ثقيلا، وإنما حاجة المريض إلى الدعاء والكلمات الطيبة، والحديث المؤنس والتبشير ورفع الهمم، أولى من هذه المحمولات التي ترهق زائرا ولا تنفع مزورا.
فاتقوا الله -يا مسلمون- واحفظوا لإخوانكم حقوقهم، وأدوها كما أمرتم وراعوا آدابها، وحققوا مقاصدها، واستصحبوا الإخلاص والاتباع في تطبيقها؛ يعظم الأجر، ويصلح الشأن، ويفش الخير، وتسد المودة، وتعودوا من بعد الزيارة مستبشرين بنعمة من الله وفضل وأجر، وأن الله لا يضيع أجر المحسنين.
التعليقات