عناصر الخطبة
1/بركة الإيمان تغمر المؤمن في سرائه وضرائه 2/بعض فضائل المرض وفوائده 3/تحذير المرضى من الجزع والتسخط من المرضاقتباس
من تمام نعمة الله على عباده المؤمنين: أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده؛ فيدعونه مخلصين له الدين، ويرجونه لا يرجون أحدًا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره؛ فيحصل لهم من التوكل عليه، والإنابة إليه، وحلاوة الإيمان، وذوق...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ)[النساء: 1].
أيها المؤمنون: الإيمان بَرَكة خيرٍ تطيف بالمؤمن وتغمره، تقارنه في عسره ويسره، وسرائه وضرائه؛ فهو يتقلب في أعطاف الخير مهما كانت حاله ما دام بعروة الإيمان مستمسكًا، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرًا له"(رواه مسلم).
وإن من بركة الإيمان التي يَخِفُّ بها وقْعُ المصائب على العبد، وتقوى بها نفسه على الصبر والرضا حتى يتخطاه البلاء، وقد حاز من غُنْمه نصيبًا وافرًا أن يفتحَ بصيرتَه للتعرف على ما انطوى عليه تقديرُ الله البلاءَ عليه من خير ونِعم، واستشعارِه عظيمَ منّته عليه بتقديره؛ فالله بحكمته وعلمه ورحمته لم يقدِّر بلاءه على عبده المؤمن ليهلكه أو يحزنه أو يرهقه؛ بل قدره لغايات عظيمة لا يهتدي إلى استشعارها وادكارها إلا مَنْ مَنَّ الله عليه ببصيرة الإيمان.
هذا، وإن من أشق البلاء وأشده أن يُبتلى العبدُ بمرض الجسد ونقص العافية، سيما إن كان المرض ذا خطر وطال وقته ولم يُعرف له علاج؛ مما يجعل التذكيرَ بنعم الله فيه من ألزم ما يجب التذكير به، قال ابن القيم: "وأما انتفاع القلب والروح بالآلام والأمراض فأمر لا يحس به إلا من فيه حياة؛ فصحة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها، وقد أحصيت فوائد الأمراض؛ فزادت على مائة فائدة".
عباد الله: إن الله برحمته جعل المرض من أعظم أسباب تطهير العبد من السيئات، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم يصيبه أذى من مرض، فما سواه إلا حط الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها"(رواه البخاري ومسلم واللفظ له).
وسأل سعدُ بن أبي وقاص -رضي الله عنه- رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ فقال: "الأنبياء، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، فيُبتَلى الرجلُ علي حسب دينه، فإن كان رقيق الدِّين ابتُلي على حسب ذاك، وإن كان صُلْبَ الدِّين ابتُلي على حسب ذاك" قال: "فما تزال البلايا بالرجل حتى يمشي في الأرض وما عليه خطيئة"(رواه أحمد وصححه أحمد شاكر).
قال قيس بن عباد: "ساعات الوجع يذهبن بساعات الخطايا".
وقال الحسن البصري: "كانوا يرجون في حمى ليلة كفارة لما مضى من الذنوب"، فكيف بمرض عضال يمتد زمنه؟!
وكما أن المرض مطهرة للذنب فهو مرقاة يُعْلي اللهُ بها عبدَه المريضَ إلى المنزلة العليا التي لا يبلغها بعمله، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ماله أو في ولده ثم صبّره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله -تعالى-"(رواه أبو داود وصححه الألباني).
ولعظم جزاء الآخرة للمرضى الصابرين يودُّ أهلُ العافية ألّو كانوا مكانهم وأن أجسادهم قرضت بالمقاريض، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يود أهل العافية يوم القيامة حين يُعطى أهلُ البلاء الثوابَ لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض"(رواه الترمذي وحسنه الألباني).
ولئن تباعدت العافية عن المريض فإن الله أقرب ما يكون منه لانكسار المريض وضعفه، والله جبار يجبر كسر القلوب، يقول ابن القيم: "وتأمل قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربه -عز وجل- أنه يقول يوم القيامة: "يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ابن آدم استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي، ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب، كيف أعودك، وأنت رب العالمين؟ قال: أما إن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما لوعدته لوجدتني عنده"، فقال في عيادة المريض: "لوجدتني عنده"، وقال في الإطعام والإسقاء: "لوجدت ذلك عندي" ففرّق بينهما فإن المريض مكسور القلب ولوكان من كان، فلا بد أن يكسره المرض، فإذا كان مؤمنًا قد انكسر قلبه بالمرض كان الله عنده".
ولذا فإن المريض مستجاب الدعوة كيف وقد اجتمع له سببان عظيمان من أسباب إجابة الدعاء: الاضطرار والانكسار مع قرب الله منه؟
قال عبد الله بن أبي صالح: دخل علي طاووس وأنا مريض، فقلت: يا أبا عبد الرحمن ادع لي، قال: ادع لنفسك؛ فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
ومن لطف الله الملحوظ الذي لا يكاد يخلو منه عبدُه المؤمن ورحمتِه وعلمِه بضعفه حال شدته: أن ينزل عليه السكينة والطمأنينة، ويكرمَه بحسن الظن فيه، وحسن التوكل عليه، ويفتحَ عليه من لذة مناجاته، واستشعار قربه ما يكون بلسمًا لجراحه وتسكينًا لألمه، بل قد تغلب تلك اللذةُ ألمَ المرض؛ فيرضى ببلائه من جهة إفضائه إلى محاب الله -سبحانه-، وإن كرهه من جهة تألُّمه به، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمن تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده؛ فيدعونه مخلصين له الدين، ويرجونه لا يرجون أحدًا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره؛ فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه وحلاوة الإيمان وذوق طعمه والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف أو الجدب أو حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة؛ فإن ذلك لذات بدنية ونعم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل للمؤمن، وأما ما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال أو يستحضر تفصيله بال، ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه؛ ولهذا قال بعض السلف: "يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك"، وقال بعض الشيوخ: "إنه ليكون لي إلى الله حاجة، فأدعوه فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي؛ خشية أن تنصرف نفسي".
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله...
أما بعد: فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...
أيها المؤمنون: وفي المرض يرق قلب العبد، وتدمع عينه، وتسل سخيمته، وتصغر الدنيا في عينه، وتصفو للناس نفسه، بل تسخو ويذهب شحُّها، وتجود بالصدقة يده، ويعظم بره وإحسانه.
والمرض واعظ صامت بليغ، كثيرًا ما تؤثِّر مواعظُه في العبد؛ فيترقى في درجات العبودية بالتوبة والإنابة، والصبر والرضا، والدعاء، وحسن الظن بالله، والتوكل عليه، والحزن على فوات الطاعة التي منعه المرض من أدائها؛ فيحظى بأجر الفاعل لها.
غيرَ أن من جدير التنبيه في لحظات المرض أنها من مواضع الضعف التي كثيرًا ما ينفذ الشيطان على قلب العبد من خلالها؛ حتى يخرجه من ذلك البلاء بالخسار التام أو نقصان الثواب؛ حين يجعل نظرَ العبد في مرضه لا يتجاوز مواضع الألم مغفلًا إياه عن استشعار الفضائل؛ فيتسلطُ عليه بتأييس الشفاء، واستبعاد إجابة الدعاء، والتقنيط من رحمة الله، والتعلق بالأسباب الحسية، بل بالأوهام والمحرمات والشركيات، ويجلبُ عليه بسلاح التحزين والتخويف من المستقبل الذي يغرق الشيطان في رسم تفاصيله المظلمة في عين العبد مما يَعْلقُ بشأنه أو شأن أولاده وضيعتهم؛ حتى يحملَ العبدَ على إظهار الجزع والسخط بالشكوى، والتصرفات الدالة على انعدام الصبر أو التعلق بغير الله في شفائه، والتي لا يبقى معها من غنيمة البلاء شيء؛ وذاك ما يستدعي يقظةَ المؤمن وحذرَه من وساوس الشيطان، فضلًا أن يسترسل معها، وأن يكثر الاستعاذة بالله منه، قال الله في الحديث القدسي: "إذا ابتليت عبدي المؤمن فلم يشكني إلى عوّاده أطلقته من أساري، ثم أبدله لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، ثم يستأنف العمل"(رواه البيهقي في الشعب وجوّد إسناده العراقي).
إذا أبقَتِ الدنيا على المرءِ دينَه **** فما فاته منها فليس بضائر
التعليقات