عناصر الخطبة
1/ أعظم مقاصد الشريعة 2/ أهمية تربية المسلمين على التسليم المطلق لكلام الله ورسوله 3/ أعظم باعثٍ على احترام الشريعة ونفوذها 4/ مفاسد الاحتكام المطلق إلى العقل وإغفال الشرع 5/ وجوب تقديم أوامر الله ورسوله ونواهيهما على كل من سواهما.اهداف الخطبة
اقتباس
ولأننا في عصرٍ علتْ فيه أصواتٌ تدعو إلى الاحتكام المطلق إلى العقل، بعيداً عن النصوص ودلالاتها، ومصادرة فهوم السلف الصالح لها - بدعوى الحرية الفكرية تارةً، وبدعوى عدم الوصاية على الفهم أخرى - كان لزاماً علينا أن نتواصى ونتذاكر شيئاً من مواقف أسلافنا الذين ضربوا أروعَ الأمثلة على التسليم والانقياد لنصوص الشريعة، وعدم معارضتها بقياسٍ فاسدٍ أو رأيٍ معترِض!...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله....، أما بعد:
فإن تعبيدَ الخلق لله رب العالمين أعظم مقاصد الشريعة، وكان لتحقيق هذه الغاية وسائل كثيرة، من أهمها وأكثرها وروداً في النصوص الشرعية: تربية المُتَلقّين على التسليم المطلق لكلام الله ورسوله، مهما خالفَ مرادَ الإنسان، وتعظيمِ الوحي قرآناً وسنّة.
ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يربّي أصحابَه على هذا المعنى العظيم بأساليبَ مختلفة، وطرق متنوعة، ويغتنم المواقفَ لإيصال هذه الحقيقة الشرعية، وغرسها في النفوس ـ كما سيأتي الإشارة إلى ذلك قريباً ـ.
وكان من تلك الأساليب:
أولاً: تعظيم شأن القرآن والسنّة، ومكانتهما، وقدسيّتهما، وجلالة المتكلّم بهما، والتصريحُ بذمّ من ينتقصهما أو يحطُّ من قدْرهما، فخرج بهذه التربية النبوية للصحابة جيلٌ لم يَعرف التاريخُ له مثيلاً، في علمهم وعملهم وانقيادهم وتسليمهم لمراد الله ورسوله.
وتلقّى - هذا المعنى - عن الصحابةِ التابعون، وعن التابعين تلقاه أتباعُهم، حتى أضحى هذا المعنى سِمةً عامة لكل من سار على نهج السلف الصالح إلى يومنا هذا.
ألا وإن "أعظم باعثٍ على احترام الشريعة ونفوذها: أنها خطابُ الله تعالى للأمة، فامتثال الأمة للشريعة أمرٌ اعتقادي تنساق إليه نفوسُ المسلمين عن طواعيةٍ واختيار، لأنها تُرضي بذلك ربَّها، وتستجلب به رحمتَهُ إياها، وفوزَها في الدنيا والآخرة، وقد قال الله تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ)[المائدة: 15]"(مقاصد الشريعة الإسلامية: 3/350).
ولأننا في عصرٍ علتْ فيه أصواتٌ تدعو إلى الاحتكام المطلق إلى العقل، بعيداً عن النصوص ودلالاتها، ومصادرة فهوم السلف الصالح لها - بدعوى الحرية الفكرية تارةً، وبدعوى عدم الوصاية على الفهم أخرى - كان لزاماً علينا أن نتواصى ونتذاكر شيئاً من مواقف أسلافنا الذين ضربوا أروعَ الأمثلة على التسليم والانقياد لنصوص الشريعة، وعدم معارضتها بقياسٍ فاسدٍ أو رأيٍ معترِض! لأنهم - رحمهم الله - أدركوا يقيناً أن "نور العقل لا يهتدي إلا إذا طلعتْ عليه شمسُ الرسالة"(مجموع الفتاوى لابن تيمية: 1/6)، وأن قَدَم الإسلام لا تثبت إلا على ظهر التسليم والاستسلام. (قالها الطحاوي في عقيدته (ص: 43).
والسلف حينما يفعلون ذلك، إنما هم يفعلونه بمقتضى النقل والعقل، فلقد سمعوا قولَ ربهم: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)[النساء: 125]، فلا أحسن ديناً "ممن استسلم وجهُه لله فانقاد له بالطاعة، مصدّقًا نبيَّه محمداً -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء به من عند ربه، (وهو محسن) يعني: وهو عامل بما أمره به ربُّه، محرِّمٌ حرامَه، ومحللٌ حلالَه"(جامع البيان = تفسير الطبري (7/528).
وكذلك سمعوا ربّهم يحذّر من الإخلال بواجب التسليم، لأن نتيجة ذلك: الانخلاع من ربقة الإيمان، كما قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء: 65] (ينظر تعليق ابن القيم على هذه الآية في "الصواعق المرسلة" (4/1520).
وسمعوا ربهم يأمرهم بالاستجابة المطلقة دون تردّد أو تلكؤ، بل مع تحذيرهم من أن ترك الاستجابة سببٌ لفتنة القلب، بحيث يُحال بينه وبين الاستجابة مستقبلا، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الأنفال: 24، 25].
ويقطع القرآنُ الطريقَ على أولئك المتحذلقين الذين قد يفسّرون بُطأ استجابتهم على أنه نوعٌ من المناقشة أو المراجعة، فيُسمّي عدمَ الاستجابة: اتباعاً للهوى، قال تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين)[القصص: 50].
أيها المسلمون: لقد أدرك السلفُ ومن سار على نهجهم - من خلال تربية القرآن والنبي -صلى الله عليه وسلم- لهم - أن عدم الاستجابة لشرع الله إنما هو شأن الكفار والمنافقين الذين خلَتْ قلوبُهم من الإيمان والتسليم، فتأملوا آيات سورة النور، قال الله تعالى: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)[النور: 47 - 52].
وإذا كانت هذه هي التربية القرآنية؛ فاسمعوا للتربية النبوية على هذا الأصل العظيم: أصل الاستسلام والانقياد، دون تردّدٍ أو تأخّر، فهذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- يُقرِّر أن محبتَه وتقديمَ أمرِه ونهيِه أصلٌ من أصول الإيمان، فيقول - كما في الصحيحين -: «لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه مِن والده وولده والناسِ أجمعين» (البخاري ح(15)، ومسلم ح(70).
ومقتضى ذلك أن تقدّم أوامرَ الله ورسوله ونواهيهما على كل من سواهما، وإلا فثمّة الفسق، كما قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين)[التوبة: 24].
ولما قال عمر -رضي الله عنه-: يا رسول الله! لأنت أحبَّ إليّ مِن كل شيء إلا مِن نفسي، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك»، "فتأمل عمرُ فعرف بالاستدلال أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحبَّ إليه من نفسه، لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والأخرى؛ فأخبر بما اقتضاه الاختيارُ" فقال له عمر: فإنه الآن، والله، لأنت أحبَّ إليّ من نفسي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الآن يا عمر» (البخاري ح(6632). "أي الآن عرفتَ فنطقت بما يجب"( فتح الباري لابن حجر (11/ 528).
بل لقد بلغ الصحابةُ -رضي الله عنهم- في التسليم والتصديق مبلغاً عظيماً، فحين أخبر -صلى الله عليه وسلم- عن بقاء المسيح الدجال في الأرض - إذا نزل في آخر الزمان -: «أربعون يومًا، يومٌ كسنَة، ويومٌ كشهر، ويومٌ كجمعة، وسائر أيامِه كأيامكم»، فلم يُبْدِ الصحابةُ رضي الله عنهم أيَّ اعتراض على هذا التغير الكوني العجيب، بل سألوا فقط عما يُهمّهم في دينهم، وهو: قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسَنَة، أتَكفينا فيه صلاةُ يوم؟ قال: «لا، اقدُروا له قدْره»( مسلم ح(2937).
وأظن أن هذا الحديث لو طُرِح على بعض متحذلقةِ العقل، لطرحوا أسئلةً اعتراضية كثيرة، أو كذّبوا بالحديث! لأن عقولهم لم تتربّ على الاستسلام والانقياد للشرع، نعوذ بالله من الخذلان.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة....
الخطبة الثانية
الحمد لله ....، أما بعد:
فكلٌ منّا - معشر الإخوة - له ملفُ رُصدت فيه حسناتُه وسيئاتُه منذ جرى عليه قلمُ التكليف، وثمةَ أعمالٌ وعيْنا وعلمْنا أن الله -عز وجل- أمَرَ بها، وفي ذات الوقت ثمةَ أمورٌ محرّمة علِمنا أن اللهَ ورسولَه -صلى الله عليه وسلم- قد نهيا عنها، والسؤال: هذه الأوامر التي تردَّدْنا في قبولها، وتلك النواهي التي ما زلنا مصرّين عليها، كيف وبماذا نجيب ربَّنا -عز وجل- إذا قَدِمنا عليه فُرادى، ويُعاد السؤالُ مرةً أخرى: ما جوابنا عن إصرارنا على ترك طاعةٍ علمناها؟ أو إصرارنا على فعل معصيةٍ علمنا أن الله ورسوله نهيا عنها؟
إن الحديث السابق كلّه - أيها الإخوة - لا يُراد منه مجرّد إمضاء وقت، أو أداء وظيفةٍ تتعلق بالمتحدّث والسامع في خطبة الجمعة! بل لِنَعلم أن شأنَ المؤمن إذا علم شيئًا أُمر به، أو علم شيئًا نهي عنه أن يستجيب، كما قال الله تعالى عن أهل الإيمان - جعلنا الله منهم -: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)[النور: 51، 52].
ومَن وُفّق - أيها الإخوة - لتربية نفسِه على هذا المبدأ؛ فإنه لا يزال يترقى شيئًا فشيئًا حتى يبلغ تلك المرتبةَ العظيمة، وهي: مرتبة الصدّيقيّة! فإن هذه المرتبة منوطةٌ بتحقيق هذا الأصل العظيم، أما مَن تردّد وتلكّأ، وقال: هذه معصية صغيرة! والله غفور رحيم! ثم بدأ يبحث لنفسه عن رخصةٍ من رخص الفقهاء ليتأول بها فعله للمحرم؛ فليست هذه حال الصدّيقين.
اللهم يا حي يا قيوم ارزقنا الاستجابة التامة لأمرك وأمر رسولك يا رب العالمين، وبلغنا مراتب الصديقين برحمتك يا كريم.
التعليقات