عناصر الخطبة
1/من طبقات أهل الجنة: طبقة الناجين, من أسرف ثم تاب, من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً, تساوت حسناته وسيئاته 2/طبقات أهل النار: مسلمون خفّت موازينهم وثقلت سيئاتهم, أهل النفاق, رؤساء الكفر ودعاته, المقلدون 3/حال من لم تبلغه الدعوة 4/حال المحسن والمسيء من الجناقتباس
ولا ريب أن وزر الداعي إلى الشر يتضاعف ويتزايد بحسب من اتبعه، وضل به، ولهذا كان فرعون وقومه في أشد العذاب؛ لعظيم جرمهم وفسادهم كما قال -سبحانه-: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر: 46]، فهؤلاء رؤساء الكفار استحقوا أشد العذاب لغلظ كفرهم وصدهم عن سبيل الله...
الخطبة الأولى:
الحمد لله المبدئ المعيد، الغني الحميد، ذي العفو الواسع، والعقاب الشديد، من هداه فهو السعيد السديد، ومن أضله فهو الطريد البعيد، ومن أرشده إلى سبل النجاة ووفَّقه فهو الرشيد، يعلم ما ظهر وما بطن، وما خفي وما عَلَن، قسَّم الخلْق قسمين، وجعل لهم منزلتين، فريق في الجنة وفريق في السعير، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ للْعَبِيدِ)، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ذو العرش المجيد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعدُ: فاتقوا الله ربكم أيها المؤمنون، وأطيعوه تفلحوا، والجئوا إليه تسعدوا، فما خاب من لجأ إلى القوي العزيز -سبحانه-.
عباد الله: إنَّ الله -سبحانه وتعالى- أرسلَ الرُّسلَ، وأنزلَ عليهم الكتبَ، وأيَّدهم بالمعجزاتِ، كل ذلك من أجلِ أنْ يكونَ النَّاسُ على بينة من دينهم (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165]، فيستجيبوا لله ولرسوله، فيفوزون بالجنَّةِ، ولكن حكمة الله-سبحانه وتعالى- قضت أن يكون الناس فريقين؛ فريق في الجنة، وفريق في السَّعير، فريق مطيع، وفريق عاصٍ، فريق اهتدى، وفريق ضلَّ، ومع هذا فالله -سبحانه وتعالى- قد بيَّن طريقَ الخيرِ وطريقَ الشَّرِّ على أيدي رسوله وأنبيائه، وجعل الإنسان مخيراً بين أن يسلكَ طريقَ الخيرِ، أو أنْ يسلكَ طريقَ الشَّرِّ.
أيها المسلمون: وقد سبق معنا في خطبة سابقة ذكر طبقات المكلفين يوم القيامة، وذكر منها تسع طبقات، ونكمل التسعة الباقية، فنقول وبالله تعالى التوفيق:
الطبقة العاشرة: طبقة الناجين يوم القيامة: وهي طبقة من يؤدي فرائض الله، ويجتنب محارم الله، مقتصراً على ذلك لا يزيد عليه ولا ينقص منه، فلا يتعدى ما حرم الله عليه، ولا يزيد على ما فرض الله عليه, فهذا من المفلحين إن صدَّق بضمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعن طَلْحَةَ بْن عُبَيْدِ اللَّهِ، قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرَ الرَّأْسِ، نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ، وَلا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ: حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ" فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: "لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ" قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: "لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ" قَالَ: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، الزَّكَاةَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟، قَالَ: "لاَ، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ" فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا انْقُصُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَفْلَحَ إِنِ صَدَقَ". [صحيح البخاري: 46].
عباد الله: وقد وعد الله هؤلاء بتكفير سيئاتهم إذا أدوا فرائضه، واجتنبوا الكبائر، فإن فعلوها وتابوا منها لم يخرجوا عن طبقتهم، قال الله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) [النساء: 31]، وأكد ذلك نبينا -صلى الله عليه وسلم- فقال -صلى الله عليه وسلم-: "الصَّلوات الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ" [أخرجه مسلم: 233]. نسأل الله أن ينجينا وإياكم يوم نلقاه.
الطبقة العاشرة -أيها الإخوة-: طبقة من أسرف على نفسه ثم تاب، وهؤلاء قوم أسرفوا على أنفسهم، وغَشَوْا كبائر ما نهى الله عنه، ولكن الله رزقهم التوبة النصوح قبل الموت، فهؤلاء ناجون من عذاب الله كما قال -سبحانه-: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء: 17]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ" [صحيح البخاري: 2661]، فمن أسرف على نفسه وتاب، تاب الله عليه، بل وبدل سيئاته حسنات، نسأل الله أن يشملنا وإياكم في رحمته.. إنه هو الغفور الرحيم.
أيها المسلمون: الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً؛ فعملوا حسنات وسيئات، ولَقُوا الله مصرين عليها غير تائبين منها، لكن حسناتهم أغلب من سيئاتهم، فهؤلاء أيضاً ناجون فائزون كما قال -سبحانه-: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) [الأعراف: 8-9].
عباد الله: والطبقة الثانية عشرة: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم؛ فهؤلاء منعتهم حسناتهم من دخول النار، ومنعتهم سيئاتهم من دخول الجنة، وهم أهل الأعراف كما قال -سبحانه-: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) [الأعراف: 46]، فهؤلاء قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيوقفهم الله على سور عالٍ بين الجنة والنار، فيقفون هناك حتى يقضي الله فيهم بما يشاء، ثم يدخلهم الجنة بفضله ورحمته.
عباد الله: وكل الطبقات الاثنتي عشرة السابقة هم طبقات أهل الجنة الذين لم تمسهم النار، وفي المقابل هناك طبقات أهل النار، نعوذ بالله من النار وأهلها، وهم أيضًا طبقات:
أيها الإخوة: والطبقة الثالثة عشرة هي أول طبقة في ذكر أهل النار، وهي طبقة أهل المحنة والبلية، وهؤلاء قوم مسلمون خفّت موازينهم، ورجحت سيئاتهم على حسناتهم فغلبتها السيئات، فهؤلاء يدخلون النار، فيكونون فيها على مقدار أعمالهم السيئة، فمنهم من تأخذه النار إلى كعبيه, ومنهم من تأخذه النار إلى أنصاف ساقيه, ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه, وهكذا.
فيبقى هؤلاء في النار على قدر أعمالهم، ثم يخرجون منها، فينبتون على أنهار الجنة، فيفيض عليهم أهل الجنة من الماء حتى تنبت أجسادهم، ثم يدخلون الجنة إذا هُذِّبوا ونُقُّوا وطُهِّروا من الذنوب. وهم الطبقة الذين يخرجون من النار بشفاعة الشافعين، وهم الذين يأمر الله سيد الأنبياء مراراً أن يُخرجهم من النار بما معهم من الإيمان.
عباد الله: والطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان، وهؤلاء أصناف: منهم من لم تبلغه الدعوة بحال، ولا سمع بها بخبر، ومنهم المجنون الذي لا يعقل شيئاً ولا يميز، ومنهم الأصم الذي لا يسمع شيئاً أبداً، ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميزوا، وأما أطفال المسلمين فهم في الجنة.
وأهل هذه الطبقة يُمْتَحَنُون في عرصات القيامة، ويُرسَل إليهم هناك رسول، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، ولهذا يكون بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار، وقد وضح النبي ذلك فقال-صلى الله عليه وسلم-: "أَربعةٌ يَومَ القِيامةِ: رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئاً، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرَمٌ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ، فَأَمَّا الأْصَمُّ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الإسْلَامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئاً، وَأَمَّا الأْحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ لَقَدْ جَاءَ الإْسْلَامُ وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ، وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ: رَبِّي لَقَدْ جَاءَ الإسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئاً، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ فَيَقُولُ: رَبِّ مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنِ ادْخُلُوا النَّارَ، قال: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْداً وَسَلَاماً وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا يُسْحَبُ إِلَيْهَا" [أخرجه أحمد: 16302، وانظر السلسلة الصحيحة رقم 1434].
أيها المسلمون: والطبقة الخامسة عشرة: طبقة أهل النفاق، وهؤلاء قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله ورسوله، وهؤلاء المنافقون في الدرك الأسفل من النار؛ لغلظ كفرهم، وعظيم خطرهم كما قال سبحانه: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) [النساء: 145].
وإنما كان أهل هذه الطبقة وهم المنافقون في الدرك الأسفل من النار لغلظ كفرهم، فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، ووصل إليهم من معرفة الدين وصحته ما لم يصل إلى المنابذين بالعداوة، فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفراً، وأخبث قلوباً، وأشد عداوة لله ورسوله من غيرهم، ولهذا قال الله فيهم: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) [المنافقون: 3].
أيها الإخوة: والطبقة السادسة عشرة: طبقة رؤساء الكفر ودعاته، وهؤلاء هم أئمة الكفر الذي كفروا وصدّوا عن سبيل الله، يصدون عباد الله عن الدخول في دين الله بالترغيب والترهيب. فهؤلاء عذابهم مضاعف، ولهم عذابان: عذاب للكفر, وعذاب لصدّ الناس عن الدخول في الإيمان كما قال -سبحانه-: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل: 88].
فكما أن للداعي إلى الهدى مثل أجور من اتبعه فكذلك للداعي إلى الضلال مثل آثام من اتبعه، واستجاب له. فكن -أخي- مفتاحًا للخير داعية إلى الحق تنل أجرًا، واحذر أن تكون معوانًا على الشر ناشرًا له حاثًّا عليه، فمن كسب يدك يكن جزاؤك. نسأل الله أن يستخدمنا لخدمة دينه والدعوة إليه وشرف البلاغ عنه.
عباد الله: ولا ريب أن وزر الداعي إلى الشر يتضاعف ويتزايد بحسب من اتبعه، وضل به، ولهذا كان فرعون وقومه في أشد العذاب؛ لعظيم جرمهم وفسادهم كما قال -سبحانه-: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) [غافر: 46]، فهؤلاء رؤساء الكفار استحقوا أشد العذاب لغلظ كفرهم وصدهم عن سبيل الله. وعقوبتهم من آمن بالله. فليس عذاب الرؤساء في النار كعذاب أتباعهم. ولهذا كان عدو الله إبليس أشد أهل النار عذاباً؛ لأنه إمام كل كفر وشرك وشر، فما عصي الله إلا على يديه وبسببه، ثم الأخبث فالأخبث من نُوَّابه في الأرض ودعاته.
والكفر يتفاوت؛ فكفر أغلظ من كفر, وظلم أعظم من ظلم, ومعصية أغلظ من معصية. وكما أن الجنة درجات فكذلك النار دركات، ولكل عامل جزاؤه، ولا ظلم لأحد حين يحكم الله يوم القيامة: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 40].
ويغلظ الكفر من حيث العقيدة كمن جحد رب العالمين وكفر به، ولم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويغلظ من حيث عناد الإنسان وضلاله وكفره على بصيرة بعد معرفة الحق كقوم ثمود، وقوم فرعون، وكفر أبي جهل، وكفر اليهود بالنبي -صلى الله عليه وسلم-. ويغلظ كذلك من جهة السعي في إطفاء نور الله، وصد عباده عن دينه بما تصل إليه قدرته.
فهؤلاء أشد الكفار جرماً، وأشدهم عذاباً، وليس عذاب مَنْ دونهم ممن جهل الحق، ولم يؤذ المؤمنين، ولم يصد عن سبيل الله كهؤلاء، فمن الكفار من تجتمع في حقه الجهات الثلاث ومنهم اثنتان، ومنهم واحدة، وعلى حسب غلظ الكفر يكون العذاب.
أيها الإخوة: والطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة، فهؤلاء بمنزلة الدوابّ، يعبدون ما يعبد آباؤهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [البقرة: 170]، فهم لا يحاربون المسلمين ولا يؤذونهم، لكنهم لا يتبعونهم، فهؤلاء كفار جاهلون، ومن قبلهم كفار معاندون.
والجهال درجات، منهم المقلد الذي تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه, يختلف عن المقلد الذي لم يتمكن من ذلك بوجه. وهذا بخلاف العاجز عن السؤال والعلم، الذي لا يتمكن من العلم بوجه فهناك فرق بين عجز الطالب الراغب في المعرفة، وعجز المُعرض عن الحق الرافض له غير الباحث عنه.
فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً، فهم في النار جميعاً؛ الذين اتَّبعوا، والذين اتُّبِعوا، كما قال -سبحانه- عن الأتباع أنهم قالوا: (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 38].
نعوذ بالله من سوء المنقلب وسوء العاقبة، ونسأله سبحانه أن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الإخوة في الله: الجنة والنار هما المحلان المعدان والمهيئآن للناس (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى:7]، فاعملوا لما بعد الموت، واحذروا فجأة الموت وحسرة الفوت، واعلموا صالحًا لعلكم تفلحون.
أيها الإخوة: والطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن، والجن منهم المؤمن والكافر، والبَرّ والفاجر كما قال -سبحانه- إخباراً عنهم: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) [الجن: 14، 15]. وكفار الجن في النار كما قال -سبحانه-: (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة: 13]، فالجن مكلّفون بشرائع الأنبياء، يجب عليهم طاعتهم كما يجب على الإنس، ومؤمنهم في الجنة، وكافرهم في النار، وهم مكلفون بالشريعة الإسلامية، مأمورون منهيون، مثابون ومعاقبون. فالمحسن منهم في الجنة كالإنس، والمسيء في النار كالإنس كما حكى الله عن مؤمنيهم أنهم قالوا: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا) [الجن: 13].
عباد الله: هذه طبقات المكلفين من الثقلين: الجن والإنس في الدار الآخرة، وكل طبقة منها لها أعلى، وأدنى، ووسط، وهم درجات عند الله: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأحقاف: 19]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في قصة الإسراء: "ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى بِي إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا ألْوَانٌ لا أدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ، وَإذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ" [أخرجه البخاري: 349، ومسلم: 163]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ أحَدَكُمْ إذَا مَاتَ، عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ، وَإنْ كَانَ مِنْ أهْلِ النَّارِ فَمِنْ أهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [أخرجه البخاري: 1379، ومسلم: 2866].
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].
اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
التعليقات