عناصر الخطبة
1/الابتلاء سنة الله تعالى في خلقه 2/ثبات المؤمنين المتقين على دينهم رغم عظم البلاء 3/الوصية بالصبر والاحتساب في أرض الرباط 4/رسالة لأبناء الأمتين العربية والإسلاميةاقتباس
هنا في القدس، وهناك في غزَّة، وهناك في كل مدن وقرى ومخيمات فلسطين، وهناك في لبنان، إنها المحنة، وإنه البلاء واللأواء، الذي يصبه أعداء الدين على أبناء شعوب هذه المنطقة؛ ديار الشام...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، جعَل الأيامَ دُوَلًا بعدله، وجعَل العاقبةَ للمتقينَ بفضله، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا وقدوتنا، محمدًا عبد الله ورسوله، وصَفِيُّه من خَلقِه وخليلُه، صلى الله عليه، وعلى آله الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومن سار على نهجهم، واقتفى أثرهم، واتبع سنتهم إلى يوم الدين، والصلاة والسلام على الشهداء والمكلومين، والأسرى والمعتقَلين، والقائمين الساجدين، في المسجد الأقصى المبارَك، وفي كل أرض من ديار المسلمين.
وبعد، أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج: ونحن نترحم على الشهداء الأبرار جميعًا، نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يتقبَّلهم في واسع رحمته، وأن يُسكِنَهم فسيحَ جناته، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، وسنُقيم صلاةَ الغائب على أرواح كل الشهداء، هنا في أرضنا الطاهرة المبارَكة، أرض فلسطين، وهناك في أرض لبنان، وفي كل أرض من ديار المسلمين، يحمل شهداؤها هذا الدينَ، ويعتز للتضحية في سبيله، ومن أجل رفعة شأنه.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج: روى لنا الصحابي الجليل، خبَّاب بن الأرت، قال: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً في ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا اللهَ -عز وجل- أَوْ أَلَا، يَعْنِي: تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ فَقَالَ: "قَدْ كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ، فَيُحْفَرُ لَهُ في الْأَرْضِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ بِنِصْفَيْنِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ، أَوْ عَصَبٍ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ"، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ -عز وجل-، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سيد الخلق أجمعين، يعطي درسًا للصحابة الكرام، ولمن تبعهم من أبناء هذه الأمة، أنكم ستُمتحنون، وأنَّه سيُسلَّط عليكم أعداؤكم، ومعارضوكم، وبخاصة أولئك الذين لا يؤمنون بعقيدتكم، ولا يتقبَّلون هذا الدين الذي جعله الله خاتمًا للديانات، وجعل رسولنا الأكرم خاتم النبوات والرسالات، فقال لهم رغم الألم، ورغم الوجع، ورغم الامتحان، ورغم الابتلاء، سائقًا لهم مثالًا من الأمم السابقة، من أهل الإيمان، من أهل العقيدة والتوحيد، بالله -سبحانه وتعالى-، كانوا لا يتراجعون، ولا ينثون عن عقيدتهم، وعن دينهم، وعن معتقَداتهم، مهما كانت التضحيات، ومهما صُبَّ عليهم من البلاء واللأواء والقتل والتشريد، وغير ذلك من أنواع العذاب التي يمارسها في كل الأوقات والأزمان، صف الشيطان، وحلف الظلم والطغيان، على أهل الإيمان.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج: هنا في القدس، وهناك في غزَّة، وهناك في كل مدن وقرى ومخيمات فلسطين، وهناك في لبنان، إنها المحنة، وإنه البلاء واللأواء، الذي يصبه أعداء الدين على أبناء شعوب هذه المنطقة؛ ديار الشام، التي بشر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو يخاطب معاذًا: "يا معاذ، إن الله -عز وجل- سيفتح عليكم الشام من بعدي، من العريش إلى الفرات، رجالهم ونساؤهم وإماؤهم مرابطون إلى يوم القيامة، فمن اختار ساحلا من سواحل الشام، أو بَيْت الْمَقدسِ، فهو في جهاد إلى يوم القيامة".
نعم؛ سيدي يا رسول الله، وأنتَ توجه أبناء هذه الأمة لقيمة هذه الديار المبارَكة، التي اصطفيتها أرضًا للمسجد الأقصى المبارَك، وباركت في مسجدها، وباركت حوله، وبشرت أهل هذه الديار بالرباط إلى يوم القيامة، مهما أصابهم من اللأواء والبلاء، مهما حل بهم من القتل، فقتلاهم شهداء عند الله -تعالى-، وجرحاهم، ومرضاهم، نسأل الله لهم الشفاء العاجل، وأسراهم، ومعتقلوهم، نسأل الله لهم الفرج العاجل.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)[الْبَقَرَةِ: 214].
نعم أيها المسلمون، نعم أيها المرابطون: وأنتم مرابطون ببشارة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى يوم القيامة، وهذه البشارة تبين لنا أهل هذه الديار، وتبين لكل المسلمين بأن هذه الأرض مهما غلب فيها الكفر والطغيان، فستبقى بحول الله وقدرته، ستبقى أرضًا للرباط، أرضًا للثبات، أرضًا لأبناء هذا الشعب، الذي افتداها ويفتديها بالمهج والأرواح.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج: جاء في الحديث الشريف، عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا" أو كما قال.
فيا فوزَ المستغفرينَ استغفِرُوا اللهَ، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد لا نبي بعده، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، أحب لعباده أن يعملوا لدينهم ودنياهم، حتى يفوزوا بنعم الله وينالوا رضوانه، وأشهد أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح للأمة، وتركنا على بيضاء نقية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
وبعد، أيها المسلمون، يا أبناء بَيْت الْمَقدسِ وأكناف بَيْت الْمَقدسِ: جعَلَكم اللهُ -تعالى- سدنةً أمناءَ، وحُرَّاسًا أوفياءَ لهذا المسجد الأقصى المبارَك، الذي أنزل اسمه رب العالمين، في كتابه الكريم، قرآنًا يتلى إلى يوم الدين، فجعله لكم، نعم، جعله لكم، وللمسلمين إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، وإنَّما يجري في هذه الديار المبارَكة، من استهداف لكل أبناء شعبها، من الرجال، والنساء، والأطفال، والشيوخ، وكل ما هو على هذه الأرض المبارَكة، من عدوان لا بد في نهاية المطاف أن تكونوا أنتم، نعم أنتم العصبة المؤمنة، والفئة المرابطة، والفئة الصابرة، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
لكم الله يا أبناء فلسطين، في غزَّة، وفي الضفة، وفي كل أرض طاهرة مباركة، من هذه الأرض حاضنة المسجد الأقصى المبارَك، ودرتها القدس الشريف.
نعم أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج؛ (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ)[النِّسَاءِ: 104].
اللهمَّ أنت رجاؤنا، وأنت أملنا، وأنت بابنا، اللهمَّ انسددت السُّبُل إلا إليك، وخاب الرجاء إلا فيك، فأغثنا يا ربَّ العالمينَ، يا غارة الله، جدي السير مسرعة في حل عقدتنا.
ونقول لكم، يا أبناء العرب، ويا أبناء الأمة الإسلاميَّة: إلى متى تتخاذلون؟! وتترددون عن نصرة القدس وأقصاها ومقدساتها؟! وعن نصرة شعبها الصابر، الثابت، المرابط، رغم كل التحدِّيات، ورغم كل المؤامرات، ورغم كل ما يحاك له في العلن والخفاء؟! إلى متى وأنتم ترون ما ترون؟! ولقد أصاب الشاعر:
لِمِثْلِ هذا يذوبُ القلبُ مِنْ كَمَدٍ *** إِنْ كانَ في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ
أين إسلامكم؟! أين إيمانكم؟! أين أنتم من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا"، وأين أنتم من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
اللهمَّ ثبِّتْنا في أرض الإسراء والمعراج، وأنزِلْ علينا سكينةً من عندك، اللهمَّ ثبِّتْ أقدامَنا، واربِطْ على قلوبِنا، وهيِّئ لنا فَرَجًا عاجلًا قريبًا، وقائدًا مؤمنًا رحيمًا، يُوحِّد صفَّنا، ويَجمَع شملَنا، وينتصر لنا، وللمسجد الأقصى المبارَك، اللهمَّ عليك بأعدائك أعدائنا، أعداء الدين، فإنهم لا يعجزونك، اللهمَّ يا ربَّ العالمينَ، يا أكرم الأكرمين، ندعوك بكل اليقين، أن ترد المسلمين إلى كتاب الله، وسُنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ ليكونوا آمنين في هذه الديار، وآمنين في كل ديار المسلمين، فما ذلك عليك بعزيز.
وَصَلَّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأنتَ يا مُقيمَ الصلاة أَقِمِ الصلاةَ.
التعليقات