عناصر الخطبة
1/عظمة أثر القصص في القرآن الكريم 2/قصة صاحب الجنتين 3/من كان بالله أعرف كان منه أخوفاقتباس
جَنَّتَانِ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ، وَبَيْنَ الْجَنَّتَيْنِ نَهْرٌ يَجْرِي لأَحَدِهِمَا؛ مَاءٌ وَخُضْرَةٌ وَثَمَرٌ، جَنَّةُ الدُّنْيَا لِبَنِي الْبَشَرِ؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَهُ الْعُجْبُ الَّذِي هُوَ دَاءُ الأَفْرَادِ وَالأُمَمِ؛ فَأُعْجِبَ الرَّجُلُ الْكَافِرُ بِنَفْسِهِ وَجَنَّتَيْهِ، وَاعْتَزَّ بِهِمَا، وَجَزَمَ بِبَقَائِهِمَا فِي الدُّنْيَا، وَالْحُصُولِ عَلَى أَفْضَلَ مِنْهُمَا فِي الآخِرَةِ عَلَى ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ وَكُفْرِهِ. إِنَّهُ الْعُجْبُ الَّذِي...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الْحَمْدُ للهِ ذِي الْمَنِّ وَالْعَطَاءِ، وَالْعِزِّ وَالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ. أَحْمَدُهُ تَعَالَى وَأَشْكُرُهُ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ، وَأَسْأَلُهُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا كَشْفَ الْبَلاَءِ، وَمُوَالاَةَ النَّعْمَاءِ، وَفِي الآخِرَةِ حُسْنَ الْعُقْبَى، وَعَظِيمَ الْجَزَاءِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَفْضَلُ الرُّسُلِ وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: كِتَابُ اللهِ -تَعَالَى- مُعْجِزَةُ الإِسْلاَمِ الْخَالِدَةُ، تَحَدَّى اللهُ الثَّقَلَيْنِ الإِنْسَ وَالْجِنَّ بِالإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَعَجَزَتِ الْعَرَبُ بِكُلِّ أُدَبَائِهَا وَشُعَرَائِهَا عَنِ الإِتْيَانِ بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.
وَفِي الْقُرْآنِ أَسَالِيبُ مُتَعَدِّدَةٌ مِنَ الْبَيَانِ، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الأَسَالِيبِ تَأْثِيرًا فِي النُّفُوسِ هُوَ: الأُسْلُوبُ الْقَصَصِيُّ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ)[يوسف: 3]، وَقَالَ تَعَالَى: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ)[طه: 99]، وَتَتَمَيَّزُ هَذِهِ الْقَصَصُ بِأَنَّهَا كُلُّهَا حَقٌّ وَصِدْقٌ؛ كَمَا قَالَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرِ: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ)[آل عمران: 62].
وَمِنْ هَذِهِ الْقَصَصِ: مَا قَصَّهُ اللهُ لَنَا فِي كِتَابِهِ عَنْ رَجُلَيْنِ مِنَ النَّاسِ، أحَدُهُمَا كَافِرٌ بِاللهِ، جَاحِدٌ نِعَمَهُ، نَاكِرٌ فَضْلَهُ، وَآخَرُ مُؤْمِنٌ بِاللهِ شَاكِرٌ لِفَضْلِهِ، رَاضٍ بِمَا أَعْطَاهُ اللهُ وَقَسَمَ لَهُ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا صِلَةٌ وَمَحَبَّةٌ، وَقَدِ ابْتَلَى اللهُ الرَّجُلَ الْمُؤْمِنَ بِضِيقِ ذَاتِ الْيَدِ، وَقِلَّةِ الرِّزْقِ وَالْمَالِ وَالْمَتَاعِ! لَكِنَّهُ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِأَعْظَمِ نِعْمَةٍ، وَهِيَ نِعْمَةُ الإِيمَانِ وَالْيَقِينِ وَالرِّضَا بِقَدَرِ اللهِ وَابْتِغَاءَ مَا عِنْدَ اللهِ، أَمَّا صَاحِبُهُ الْكَافِرُ فَقَدِ ابْتَلاَهُ اللهُ بِأَنْ بَسَطَ لَهُ الرِّزْقَ، وَوَسَّعَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَجَعَلَ اللهُ لَهُ جَنَّتَيْنِ؛ أَيْ: مَزْرَعَتَيْنِ؛ كَمَا قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا)[الكهف: 32-33] جَنَّتَانِ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ، وَبَيْنَ الْجَنَّتَيْنِ نَهْرٌ يَجْرِي لأَحَدِهِمَا؛ مَاءٌ وَخُضْرَةٌ وَثَمَرٌ، جَنَّةُ الدُّنْيَا لِبَنِي الْبَشَرِ؛ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَهُ الْعُجْبُ الَّذِي هُوَ دَاءُ الأَفْرَادِ وَالأُمَمِ؛ فَأُعْجِبَ الرَّجُلُ الْكَافِرُ بِنَفْسِهِ وَجَنَّتَيْهِ، وَاعْتَزَّ بِهِمَا، وَجَزَمَ بِبَقَائِهِمَا فِي الدُّنْيَا، وَالْحُصُولِ عَلَى أَفْضَلَ مِنْهُمَا فِي الآخِرَةِ عَلَى ظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ وَكُفْرِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا)[الكهف: 34-36].
إِنَّهُ الْعُجْبُ الَّذِي قَالَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "ثَلاَثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ"(أخرجه البيهقي وحسنه الألباني).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجِّلٌ رَأْسَهُ، يَخْتَالُ في مِشْيَتهِ، إِذْ خَسَفَ اللهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"(متفق عليه).
(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا)[الكهف: 37- 41] ذَكَّرَهُ صَاحِبُهُ بِاللهِ وَنِعَمِهِ، وَدَعَاهُ إِلَى الإِيمَانِ بِهِ وَالْحَذَرِ مِنْ عَذَابِهِ وَنِقَمِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَمْتَثِلْ، فَجَاءَهُ الْعَذَابُ بِالْمِثْلِ: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا)[الكهف: 42-43].
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكِبْرِ وَالْغُرُورِ، وَمِنَ الُعْجِبِ وَحُبِّ الظُّهُور، اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ، وَأَلْسِنَتَنَا مِنَ الْكَذِب، وَأَعْيُنَنَا مِنَ الْخِيَانَةِ؛ فَإِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ مُسْتَحِقِّ الْحَمْدِ بِلاَ انْقِطَاعٍ، وَمُسْتَوْجِبِ الشُّكْرِ بِأَقْصَى مَا يُسْتَطَاعُ، الْوَهَّابِ الْمَنَّانِ، الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، الْمَدْعُوِّ بِكُلِّ لِسَانٍ، الْمَرْجُوِّ لِلْعَفْوِ وَالإِحْسَانِ، الَّذِي لاَ خَيْرَ إِلاَّ مِنْهُ، وَلاَ فَضْلَ إِلاَّ مِنْ لَدُنْهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى-، وَاعْلَمُوا أَنَّ مَنْ كَانَ بِاللهِ أَعْرَفَ كَانَ مِنْهُ أَخْوَفَ، وَالْعَبْدُ الصَّالِحُ النَّاصِحُ يَعْلَمُ أَنَّ مَا بِهِ مِنْ نِعَمٍ فَهِيَ مِنَ اللهِ، فَيَقُومُ بِشُكْرِ الْمُنْعِمِ الْمُتَفَضِّلِ بِهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّتْ؛ فَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا)[الكهف: 44]، فَاللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا، يُضَاعِفُ لَهُمُ الثَّوَابَ، وَيَرْزُقُهُمْ خَيْرُ الْعُقْبَى.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم، كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).
التعليقات