سوق النفس إلى رضوان الله وجنته

الشيخ سعد بن عبدالرحمن بن قاسم

2024-12-18 - 1446/06/16
عناصر الخطبة
1/حث النفوس على التوبة والرجوع إلى الله 2/المرور على الصراط وأهواله 3/أحوال الناس في المرور على الصراط 4/الغفلة عن واجبات الدين وحقوق العبودية 5/مجاهدة النفس في طاعة الله تعالى.

اقتباس

إننا بحاجة إلى إقناع النفس عن تقصيرها فيما أوجب الله عليها، وتدريبها على اللوم في التقصير، ثم يسوقها بالترهيب بما توعَّد الله به من عقوبات، لكي تذل هذه النفس وتنقاد لأمر ربها، ولكي تنشط في طاعة مولاها.

الخطبةُ الأولَى:

 

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا)[سورة الكهف:1-3]، فسبحانه من إله عظيم، محمود على كل حال، فله الحمد في الأولى والآخرة، وهو الحكيم الخبير.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو العظمة والجلال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، خير مَن قَبِلَ البشارة فأطاع ربَّه، وخاف النذارة فلم يَعْصِه، وكذا من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله وأنيبوا إليه، أيقظوا النفس وسوقوها إلى رضوان الله وجنته، تذكروا أنه لا طريق لنا إلى الجنة إلا بالمرور على متن جهنم، فما منا من أحدٍ إلا وسيمرّ على الصراط المنصوب على متن جهنم؛ قال -تعالى-: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)[سورة مريم:71-72]، فما أعظمه من مرور! وما أشده من هول!

 

ذكر ابن جرير أن أبا ميسرة كان إذا أوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم تلدني ثم يبكي، فقيل ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ فقال: "أُخبرنا أنَّا واردوها، ولم نُخبَر أنا صادرون عنها".

 

وقال الحسن البصري: قال رجل لأخيه: "هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم. قال فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال: لا. قال: ففِيمَ الضحك؟!"؛ قال: فما رُئي ضاحكًا حتى لحق بالله.

 

وروى عبد الرزاق عن قيس بن أبي حازم قال: كان عبد الله بن رواحة واضعًا عن رأسه في حجر امرأته فبكى فبكت امرأته، قال ما يُبكيكِ؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إني ذكرت قول الله -عز وجل-: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)[سورة مريم:71]، فلا أدري أنجو منها أم لا؟

 

فهكذا -يا عباد الله- يكون الخوف، هكذا تكون الآثار له؛ وذلك ليقينهم بالمرور على الصراط تجري بهم أعمالهم، فمن الذي عرف أن عمله مقبول؟ ومن السالم من التقصير في العمل؟ كيف لا يخاف الواحد منا والأمانة والرحم على جنبتي الصراط؟ والكلاليب مُعلَّقة وقعر جهنم سبعون خريفًا.

 

روى مسلم في صحيحه عن حذيفة وأبي هريرة -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يجمع الله الناس"، فذكر حديث الشفاعة إلى أن قال: "فيأتون محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، فيقوم ويؤذن له وتُرسَل معه الأمانة والرحم، فيقومان من جنبتي الصراط يمينًا وشمالاً، فيمر أولكم كالبرق، قال: قلت بأبي أنت وأمي: أيّ شيء مر كالبرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق، كيف يمر ويرجع في طرفه عين، ثم كمرّ الريح، ثم كمرِّ الطير، وأشد الرجال تجري بهم أعمالهم، ونبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم- قائم على الصراط، يقول: ربّ سلِّم سلِّم، حتى تعجز أعمال للعباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زاحفًا، قال وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة تأخذ من أُمرت به، فمخدوش ناجٍ، ومكدوس في النار"، والذي نفس أبي هريرة بيده: إن قعر جهنم لسبعين خريفًا.

 

 فيا أيها المسلمون: من هو الناجي منا فنهنيه؟ إن الأمر في ذلك لا يزال مغطًى؛ فاستعدوا له، إننا بحاجة إلى إقناع النفس عن تقصيرها فيما أوجب الله عليها، وتدريبها على اللوم في التقصير، ثم يسوقها بالترهيب بما توعَّد الله به من عقوبات، لكي تذل هذه النفس وتنقاد لأمر ربها، ولكي تنشط في طاعة مولاها.

 

 فتأملوا رحمة الله في حالة بعضنا، هل أدَّى الصلاة في وقتها مع الجماعة بخشوع وطمأنينة؟ سلوا الحاضرين للجماعة عنهم في الفجر، أليس كثير من الشباب يرتادون المدارس، ولا يرتادون المساجد؟ وخصوصًا الكبار منهم، الذين قد تحملوا هذه الأمانة في أعناقهم يشهد عليهم جيرانهم خصوصًا من يشهد الجماعة، بل وكل مَن يطلع على حالهم من الآباء والأمهات، أليس بعض هؤلاء الشباب -هداهم الله- مشهود عليه بالعكوف على اللعب والأفلام الملهية والسهرات مع قرناء السوء، بل والعقوق لوالديه، والاستخفاف بدينه، وثقل الطاعة عليه، وإذا صلى فلا ترى الشفاه تتحرك بالذكر والدعاء، فهو في غفلة وسهو والعياذ بالله من ذلك.

 

 وهل سلمنا من الربا والمماطلة في المعاملات والحقوق؟ هل سلمنا من الغشّ والغيبة، ومخالطة النساء وسفورهن وإمالة القلوب إليهن، بأنواع من الإغراء؟ فهل حاسبنا النفس؟ وهل قمنا بالواجب على مَن ولانا الرب أمره منهن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقدر الاستطاعة؟ وهل تمعَّر وَجْه أحدنا إذا رأى منكرًا غيرةً على انتهاك حرمات الله، وخوفًا من الله وسخطه؟ هل جُلّ هَمّنا إلى المستقبل الحقيقي فاستعدينا له بالأعمال الصالحة؟! أم كان جلّ همنا الدنيا وزخرفها، فقمنا بهما عمليًا؟

 

إننا لو تصورنا حقيقة المرور على الصراط وكذا غيره من الأهوال، وحالة الساقطين في جهنم -أعاذنا الله منها- وأن سبب سقوطهم فيها الكبر والإعراض عن طاعة الله وطاعة رسوله، والتفريط والإهمال للأعمال الخيرية الباقية، لو تصورنا ذلك حقًّا لكان لنا شأن غير هذا الشأن، ولقد أحسن القائل:

        إن لله عبادًا فُطَنا   ***  طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

 نظروا فيها فلما علموا أنها  ***  ليست لحي وطنا

    جعلوها لُجّة واتخذوا    ***  صالح الأعمال فيها سفنا

 

فيا عباد الله: اتقوا الله -تعالى- وتوبوا إليه، احذروا من الإصرار على هذا التقصير، تذكروا قوله -تعالى- في صفات المتقين: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[سورة آل عمران:135].

 

بارك الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله المنعم على مَن شاء من عباده بالهداية والتوفيق، فلا نعمة أعظم من الإسلام، أحمده -سبحانه- حَمْد عبدٍ معترف بالتقصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحكم العدل فـ(إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)[سورة النساء:40].

 

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، نبيّ كان أُنسه وراحته وقُرَّة عينه في الصلاة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم مطيعًا لربه في سره وعلانيته، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله -تعالى-، وعَظِّموه، واهتموا بأوامره، وطبِّقوها عمليًّا، وتعرفوا لنواهيه، واجتنبوها، فهذا والله هو الطريق المُوصِّل إلى رضوانه وجنته، واعلموا -رحمكم الله- أن الغفلة والإعراض عن طاعة الله سببٌ في السقوط في النار.

 

 واحذروا من إضاعة الصلاة، واتباع الشهوات، فقد توعَّد الله على ذلك بقوله: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)[سورة مريم:59]، وتوعد الذين يُؤخِّرون الصلاة عن وقتها، بقوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)[سورة الماعون:4-7].

 

 احذروا من استدراج عدوّنا، فإنه يستدرج البشر بالمعاصي، فيهون بعضها بالبعض، حتى يظفر بهم فيكونوا معه في النار -عياذًا بالله-، فالكبيرة عندك الآن يجعلها هي الصغيرة في المستقبل.

 

 أيها المسلمون: إن من معالجة النفس أن نُدرّبها على البكاء من خشية الله، فإنها بذلك تذل وتنقاد بتوفيق الله، ولقد بكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرارًا كثيرة، وأخبر أنه لا يلج النار مَن بكى من خشية الله، وبكى أصحابه حتى جرت دموعهم على خدودهم.

 

روى البيهقي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "لما نزلت (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ)[سورة النجم: 59-60]، بكى أصحاب الصُّفة حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حسّهم بكى معهم فبكينا ببكائه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يلج النار مَن بكى من خشية الله، ولا يدخل الجنة مُصِرّ على معصيةٍ، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم".

 

اللهم أَلِنْ قلوبنا بخشيتك، واجعل مصداق ذلك ظهور طاعتك على جوارحنا، اللهم تب علينا يا أرحم الراحمين، واحشرنا في زمرة المقرَّبين، إنك ولي ذلك والقادر عليه.

 

(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life