عناصر الخطبة
1/ الإنسان مفطور على العيش في جماعة 2/ على الجميع حقوق وواجبات لابد منها 3/ من سنن الله عقاب المجتمعات النابذة لشعيرة الأمر بالمعروف 4/ أهمية الأمر بالمعروف في المجتمع 5/ التعاون والتراحم بين أبناء المجتمع من ضرورات العيش المشترك 6/ حفظ الأمن والاستقرار من حقوق أي مجتمع 7/ من وسائل حفظ الفرد لأمن مجتمعه 8/ من واجبات المجتمع على أفرادهاهداف الخطبة
اقتباس
والإنسان مفطور على العيش في ظل جماعة وفي كنف أمة لا يستغني عن غيره، والآخرون في حاجة إليه، ولا تُتصور حياة سوية مستقيمة ومستقرة إلا على هذا النحو وفي ذلك الإطار، فيصبح هذا المجتمع في هذه الحياة كالسفينة في البحر والناس يركبون عليها، ونجاتها والمحافظة عليها وإيصالها إلى ساحل النجاة مسؤوليتهم جميعاً، وكل واحد منهم له حقوق وعليه واجبات ينبغي أن يقوم بها، ولا يحق لأحد من ركابها أن يفسد فيها أو أن يكون سببًا في جلب الشقاء والتعاسة لبني جنسهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، جعل الأرض قرارًا وأحاطها بسبع سماوات، وجعل فيها أنهارًا وفجاجًا وجبالاً راسيات، وأخرج منها نبات كل شيء وقدر فيها الأقوات، وأنزل الغيث مباركًا والفلك بالخير في البحر جاريات، سخر الشمس والقمر دائبين والنجوم بالليل بازغات، وخلق الحياة ليبلونا وكتب علينا الممات، نحمده -تبارك وتعالى- حمدًا يليق بجلال الذات وكمال الصفات.
ونعوذ بنور وجهه الكريم من السيئات والهفوات، ونسأله من نوره نورًا ننجو به من العثرات وحالك الظلمات، وأشهد أن لا إله إلا الله ذو العرش رفيع الدرجات، السميع البصير الذي تستوي في كمال سمعه الأصوات، ولا تختلف عليه اللغات، ولا تحجب رؤيته الظلمات.
وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المعصوم من كل الشهوات، اللهم صلّ وسلم وبارك على أكمل المخلوقات، عدد ما في الكون من معلومات، ومداد ما خطه القلم من كلمات، ما دامت الكواكب في أفلاكها والنجوم سابحات، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واقتدى بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: لقد اقتضت سنة الله في خلقه أن يعيش الناس في مجتمعات تربطهم قيم وأخلاق، وعليهم واجبات ومسؤوليات تجاه بعضهم وتجاه المجتمع الذي يعيشون فيه، وجعل -سبحانه وتعالى- التعارف والتعاون وسيلة للحياة وتعمير الأرض وتقوية الروابط والصلات فيما بينهم؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ? إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ? إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].
والإنسان مفطور على العيش في ظل جماعة وفي كنف أمة لا يستغني عن غيره، والآخرون في حاجة إليه، ولا تُتصور حياة سوية مستقيمة ومستقرة إلا على هذا النحو وفي ذلك الإطار، فيصبح هذا المجتمع في هذه الحياة كالسفينة في البحر والناس يركبون عليها، ونجاتها والمحافظة عليها وإيصالها إلى ساحل النجاة مسؤوليتهم جميعاً، وكل واحد منهم له حقوق وعليه واجبات ينبغي أن يقوم بها، ولا يحق لأحد من ركابها أن يفسد فيها أو أن يكون سببًا في جلب الشقاء والتعاسة لبني جنسهم أو تعريض من هم فيها للخطر تحت أي مبرر أو رغبة أو شهوة أو طموح، فهي ملك للجميع، عن النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ، مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا". البخاري (2493).
ونحن سفينتنا اليوم هي مجتمعنا والوطن الذي نعيش فيه ونمشي فوق أرضه ونستظل تحت سمائه ونستفيد من خيراته، وهو يحتاج منا للمحافظة عليه، ولن يتأتى ذلك إلا بقيام كل منا بواجباته تجاه مجتمعه، وهي واجبات شرعية أمرنا بها في ديننا الإسلامي لا نجاة ولا سعادة ولا حياة طيبة إلا بالقيام بها، خاصة ونحن نعيش في ظل أمواج من الفتن والصراعات والرغبات والشهوات والأهواء إذا لم تلجَم أو تعالَج فقد تكون سبباً لهلاك وغرق هذه السفينة ومن عليها، لذا كان من أسباب النجاة ووسائل العلاج أن يدرك كل فرد مسؤوليته وواجباته، وإن أول هذه الواجبات من قبل الفرد المسلم السعي للالتزام بأحكام الشرع وأوامر الدين في سلوكه وتعاملاته واعتقاده، ففي ذلك الضمان لحياة طيبة مستقرة تنعم بالأمن والأمان وتنتشر فيها الخيرية وتشيع فيها المحبة وتحل فيها البركة؛ قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف:96]، وقال تعالى عن اليهود والنصارى في معرض تحذيره لهذه الأمة وضرب المثل لها بغيرها: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) [المائدة:66]، وقال تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) [طـه: 123]، فالفرد المسلم يعتقد بأنه كلما كان قريباً من ربه مقتدياً برسوله -صلى الله عليه وسلم- متمثلاً لأوامر الدين في حياته، في أسرته وفي وظيفته ومع جيرانه، في بيعه وشرائه وفي سلوكه وأخلاقه فإن ذلك يعود بالخير على مجتمعه، فلا ترى منه ظلمٌ ولا اعتداء ولا تكبر ولا فساد في الأرض، ولا ترى منه تنصلٌ عن الواجبات أو تضييعٌ للأمانات، وإن وقع في مثل ذلك في لحظة ضعف وسوء تقدير سارع إلى التوبة ورجع عن خطئه واعترف بذنبه، فيأمنه الناس ويسعد به المجتمع.
عباد الله: إن شقاء المجتمعات وتعاسة الأمم قد لا يكون بسبب انحراف المجتمع ككل عن قيم الدين وتنصله عن تطبيق أحكامه في واقع الحياة، بل قد يكون السبب أيضاً فساد الفرد ذاته في المجتمع أو انحراف مجموعة قليلة من أبنائه، وما أهلك الله قوم ثمود إلا بسبب عدد قليل من أفراد ذلك المجتمع؛ قال تعالى: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) [النمل:48]، ولأن كل فرد من أفراد ذلك المجتمع لم يقم بواجبه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان العقاب للجميع؛ قال تعالى: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) [النمل:51].
وإن من سنن الله الماضية في خلقه أن يسلط عقوبته على المجتمعات التي تهمل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا الواجب الشرعي والأخلاقي والإنساني؛ قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُون * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) [المائدة 78، 79]، وإن وجود المصلحين في المجتمعات هو صمام الأمان لها، وسبب نجاتها من الهلاك؛ ولهذا يقول تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117].
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة ذكرها الله وقدمها في هذه الآية على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال سبحانه: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71]، وبيّن سبحانه أن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمقيمين للصلاة والمؤتين للزكاة والمطيعين لله ولرسوله هم أهل الرحمة، فقال -سبحانه وتعالى-: (أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) [التوبة: 71].
وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- المذكور آنفاً بيّن أهمية هذا الواجب وضرورته فقال: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ، مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا". البخاري (2493).
فالقائم على حدود الله هو المستقيم مع أوامر الله تعالى ولا يتجاوز ما منع الله تعالى، وهو مع ذلك يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أما "الواقع فيها" فهو التارك للمعروف المرتكب للمنكر، الذي يرتكب المنكر ويأتيك بالمبررات، أحياناً باسم الدين، وأحياناً باسم الوطن، وأحياناً بادعاء الحق، وأخرى تحت مسمى مواجهة أعداء الوطن، وقد تأتي المبررات باسم المظلومين والمضطهدين أو مصلحة الشعب أو حقوق الآخرين أو وحدة الوطن أو غير ذلك، وهي كلمة حق يراد بها باطل، فالذي يحاول الخرق في السفينة يريد أن يهلك الجميع ليحقق رغبة أو شهوة أو هوىً متبع، فهذا لا يُترك سواء كان فردًا أم حزبًا أم جماعة أم طائفة، بل لابد أن يوقف عند حده، ولابد أن يقول الجميع كلمة الحق ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر؛ عن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده؛ لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم". رواه الترمذي وقال: "حديث حسن"، وقال الألباني: "حسن لغيره"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب رقم (2313).
إن الناس معادن؛ كل واحد منهم يحمل بين جوانحه قيمًا وأخلاقًا تعبر عن شخصيته، وإن منهم مفاتح للخير ومغاليق للشر، وإنه لن يسعد أي مجتمع إلا إذا كان غالبية أفراده كذلك؛ عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه". ابن ماجه (237)، وحسنه الألباني بطرقه، السلسلة الصحيحة (1322).
ومن هذه الواجبات للمجتمع المسلم أن يسعى أفراده لبناء علاقة وثيقة بينهم تقوم على الحب والتراحم والتعاون والإيثار، ولا خير في مجتمع لا يحب أفراده بعضهم البعض، ولا يعطف بعضهم على بعض، ولا يتفقد بعضهم أحوال بعض، وقد أمر الله -سبحانه وتعالى- بالتعاون على البر والتقوى، ونهى عن التعاون على الإثم والعدوان؛ روى أبو بردة عن أبيه، عن جده، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "على كل مسلم صدقة"، فقالوا: يا نبي الله: فمن لم يجد؟! قال: "يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق"، قالوا: فإن لم يجد؟! قال: "يعين ذا الحاجة الملهوف". قالوا: فان لم يجد؟! قال: "فليعمل بالمعروف، ويمسك عن الشر، فإنها له صدقة". البخاري (2/121)، ومسلم (2/699).
والذي يقضي حاجة أخيه في الدنيا يقضي الله حاجته يوم القيامة، عندما يكون أحوج إليها من حاجة أخيه في الدنيا؛ عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة". البخاري (3/98)، ومسلم (4/1696).
فمن كان الله في حاجته أتظنون أنه يخيب؟! وفي الحديث الآخر قال -صلى الله عليه وسلم-: "أيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله". رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والحاكم. وقال المنذري في الترغيب: "بعض أسانيده جيد"، وكذا العراقي في تخريج الإحياء، وصححه الشيخ شاكر في تخريج المسند برقم 4880.
هذا الفاروق عمر -رضي الله عنه- وهو خليفة وَجَدَ -وهو يتفقد أحوال المجتمع المسلم في المدينة بالليل- امرأة في حالة المخاض تعاني من آلام الولادة، فحث زوجته على قضاء حاجتها وكسب أجرها وقال لها: هل لك في خير ساقه الله إلينا؟! فكانت هي تمرض المرأة في الداخل وهو في الخارج ينهمك في إنضاج الطعام بالنفخ على الحطب تحت القدر حتى يتخلل الدخان لحيته وتفيض عيناه بالدمع، لا من أثر الدخان الكثيف فحسب بل شكراً لله أن هيأه وزوجته لإدخال السرور و قضاء حوائج الناس؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج:77].
في سير أعلام النبلاء: كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج، اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق، ويقفل عليها، ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة؟! فيقول: كذا وكذا، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم، قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة؟! فيقول: كذا وكذا وكذا فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو، فيجصص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام، عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسروا، دعا بالصندوق، ففتحه ودفع إلى كل واحد منهم صرته عليها اسمه.
وهكذا يجب أن يكون عليه كل أفراد المجتمع، كلٌ حسب قدرته وطاقته؛ ذلك أن من لوازم الإخاء في الإسلام: التعاون والتراحم والتناصر، إذ ما قيمة الأخوة إذا لم تعاون أخاك عند الحاجة، وتنصره عند الشدة، وترحمه عند الضعف، وتنصحه عند الغفلة؟!
اللهم أصلح فساد قلوبِنا، وارحم ضعفنا وحسّن أخلاقنا ووفقنا إلى كل خير.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
عباد الله: ومن حقوق المجتمع وواجبات أبنائه تجاهه حفظ أمنه واستقراره، وذلك بالبعد عن إثارة كل ما يسبب المشاكل والنعرات والعصبيات الجاهلية بين أفراده، فالمسلمون جميعهم في المجتمع المسلم أمة واحدة، وهم أمام الحق والشرع والقانون سواسية، وهذا الذي يجب أن يشعر به كل فرد في المجتمع ، يتساوى في ذلك الحاكم والمحكوم، والغني والفقير، والعالم والجاهل، والرجل والمرأة، والقوي والضعيف، فلا فرق بينهم بسبب النسب أو اللون أو المركز والوجاهة، أو بسبب القبيلة والمنطقة والبلد، ومتى ما تسربت هذه الأمراض إلى أي مجتمع فقد المجتمع أمنه وفقدت الحياة هدوءها، وامتلأت القلوب بالأحقاد والضغائن، وفسدت ذات البين؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ فَخْرَهُمْ بِرِجَالٍ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِدَّتِهِمْ مِنْ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتَنَ". صحيح الجامع 1787.
لقد تنازع عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- وهو أمير على المؤمنين مع يهودي حول درع كان قد أضاعها الإمام علي ووجدها اليهودي، فاحتكما إلى القاضي شريح، فسأل عليّ بن أبي طالب البيّنة، فعجز عن إقامتها، فوجّه اليمين إلى خصمه اليهودي فحلف، فحكم بالدرع لليهودي، فاستغرب اليهودي ذلك الأمر، وقال: قاضي أمير المؤمنين يحكم لي عليه! ونطق بالشهادتين وأسلم.
وإن من وسائل حفظ الفرد لأمن مجتمعه أن يستشعر خطورة الاعتداء على أموال وأعراض ودماء المسلمين وغير المسلمين في المجتمع المسلم تحت أي مسمى، وينبغي أن تُعرف الحقوق والواجبات، وأن تصان الحرمات، وأن يُعلم أن الانجرار في هذا الطريق يقود إلى سخط جبار الأرض والسماوات، وعندها تحل النكبات والمصائب في المجتمعات، ولا خروج بعدها للمجتمعات من هذه الأزمات إلا بإحياء الإيمان في القلوب، وإقامة الشرع في النفوس، وتطبيق الأحكام والحدود والقوانين على الواقع؛ قال تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:179].
عباد الله: ومن واجبات المجتمع على أفراده السعي لتطويره والرقي الحضاري به في جميع مجالات الحياة، فالطالب يجتهد في دراسته لينفع نفسه ومجتمعه، والموظف يقوم بأداء وظيفته على أكمل وجه ليخدم مجتمعه، ابتداءً بالمحافظة على الدوام، والبعد عن الرشوة والمال الحرام، والسعي لتسهيل معاملات الناس وحل قضاياهم، والمسؤول وصاحب المنصب يحمل أمانة أعظم ينبغي أن يؤديها كاملة ولا يحق له أن يدخر جهدًا يستطيع من خلاله أن ينفع مجتمعه، ولا ينبغي له أن يستغل منصبه في مصالحه الشخصية؛ قال تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ) [الصافات:24].
ورجل الأمن عليه دور كبير في حفظ النظام وضبط الأمن ومساعدة الناس والحفاظ على أموالهم وأعراضهم ودمائهم، وهو بذلك يقوم بعبادةٍ عظيمة إن خلصت النيات؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "عينان لا تمسهما النار أبداً: عينٌ بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله". صحيح الترمذي للألباني 1639.
وكذلك العالم والمخترع والمهندس والقانوني والصحفي والمعلم؛ كل واحد ينبغي أن يقوم بواجبه، ذلك أنَّه ما من لحظة من لحظات حياة المسلم إلا وتتجسد فيها المسؤولية تجاه مجتمعه بكل صورها، روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته؛ فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته".
وعلى الجميع الالتزام بالنظام العام في المجتمع، فلا يحق لأحد أن يخالف قواعد المرور مثلاً، ولا ينبغي له أن يتساهل في نظافة الشوارع، أو أن يخالف قواعد المعاملة الإدارية في أية وزارة أو مصلحة، ولا يجوز الاستهتار براحة الآخرين ولا التضييق عليهم بأي صورة كانت، ولا يجوز لأحدٍ أن يأخذ حق أخيه مهما كان دون طيب نفسه ورضاه مهما كان هذا الشيء؛ جاء في مسلم عن أبي أُمامة الحارثي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرَّم عليه الجنة"، فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟! قال: "وإنْ قضيباً من أرَاك".
إن مجتمعاً يعيش بهذه الصفات وبهذه القيم لا شك أنه مجتمع سعيد وفعال ومؤثر في الحياة؛ لذلك ينبغي علينا القيام بواجباتنا نحو مجتمعاتنا حتى ننعم بحياتنا وتصلح أحوالنا، نعم نحن في سفينة واحدة وهي ملك للجميع، ونجاتها وسلامتها وأمنها ووحدتها وخيرها للجميع، وإن كان في السفينة خلل أو عيب نسعى جميعاً لإصلاحه ولا نترك لأي كان وتحت أي مسمى أن يعبث بهذه السفينة، بهذا المجتمع، بهذا الوطن الذي سيصل إلى ساحل النجاة بإذن الله وتوفيقه، وبحكمة أبنائه وحرصهم على توحيد الصفوف ومواجهة الصعاب وتذليل العقبات وتجاوز الخلافات مهما كانت، والثقة بالله كبيرة، والأمل بالله عظيم، فأتقنوا العمل، وقوموا بواجباتكم، وأخلصوا النيات، وأصلحوا القلوب، ثم أحسنوا الظن بالله، وستجدون خيراً كثيرًا ووطنًا آمناً، ومجتمعاً صالحاً، وفرداً منتجاً.
فاللهم خذ بنواصينا إلى كل خير، واحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين من كل شر ومكروه، واحقن دماءنا وألف على الحق قلوبنا يا رب العالمين.
هذا؛ وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]. اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
التعليقات