عناصر الخطبة
1/زيارة القبور وما يلزم منها 2/حكم زيارة القبور للرجال والنساء 3/آداب يجب مراعاتها عند زيارة القبور 4/الحكمة من زيارة القبور 5/محذورات في زيارة القبور.

اقتباس

لقد نهى النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن زيارة القبور في بادئ الأمر، وفي ذلك معالجة لما كان عليه النَّاس من ارتباط وتعلُّق بتلك القبور في الجاهلية، والاعتقاد بمن فيها اعتقاداً يصرف عن حقيقة التَّوحيد...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:

 

أيها المؤمنون: إنَّ ممَّا دعا إليه الإسلام، وحثَّ الأمَّة عليه، زيارة قبور المسلمين؛ ليس لأنَّ فيها أشخاصًا عاشوا بيننا، ولا لكونها بُنيت بهيئات متعدِّدة، وبترتيباتٍ وأشكالٍ مختلفة ومتنوِّعة، وإنَّما لما ذكره نبيُّنا محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- في قوله: "فزوروا القبور فإنَّها تذكِّر الموت"(رواه مسلم)، وقال -عليه الصَّلاة والسَّلام-: "قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أُذن لمحمَّد في زيارة قبر أمِّه فزوروها، فإنها تُذَكِّر الآخرة"(رواه التّرمذي وصححه الألباني)؛ فقد بيَّن العلَّة من الزِّيارة وهي تذكُّر الموت والآخرة، فأول مراحل الآخرة تبدأ بدخول القبر، وتذكُّر الآخرة يجعل العبد في إقبال على ربِّه، واستغناء عن النَّاس ودنياهم، وزهد عما بأيديهم، ويؤكِّد ذلك ما جاء في لفظ الحديث الآخر: "تُزهِّد في الدُّنيا"(رواه ابن ماجه).

 

عباد الله: في قول النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "فإنها تُذكِّر الآخرة" إشارة إلى أن الزائر لا يفعل لمن في القبور أكثر ممَّا هو مشروع في حقِّهم، ومن ذلك السَّلام عليهم، والدُّعاء لهم بالرحمة والمغفرة.

 

كما أنَّ من لوازم ذلك ألا تكون القبور بهيئات تَصْرِفُ عن تذكُّر الآخرة، كما يظهر لدى كثير ممَّن لا يتحرَّون جَعْل القبور وفق ما أذن به الشَّرع الحنيف، سواء زخرفتها، أو بنائها بهيئات ضخمة، وبأحجار فاخرة ومنقوشة ومزخرفة، وتزيينها بأنواع من الألوان، والقطع النَّادرة من الرُّخام وغيره؛ فبناء القبور على التَّوصيف الشَّرعي فيه استجابة لداعي الشَّرع أولاً، ثمَّ إنَّه يعين على تذكُّر الآخرة، بخلاف ما لو كان القبر مدعاة للتفكُّر في زخارفه ونقوشه وضخامة بنائه.

 

أيها المؤمنون: لقد نهى النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن زيارة القبور في بادئ الأمر، وفي ذلك معالجة لما كان عليه النَّاس من ارتباط وتعلُّق بتلك القبور في الجاهلية، والاعتقاد بمن فيها اعتقاداً يصرف عن حقيقة التَّوحيد الذي دعا إليه الإسلام، كما أنَّ في ذلك نبذ لكلَّ العلائق التي تصرف الإنسان عن الخالق -سبحانه وتعالى- في الأحياء أو الأموات من البشر، أو في الأوثان الجامدة الصَّماء والبكماء التي لا تنفع ولا تضرُّ، فكان لابدَّ من المنع العام للرِّجال والنِّساء، للقريب، أو البعيد، وهذا ما ورد في حديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- الذي يحمل بيان النَّهي والنَّسخ بعده: "قد كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها".

 

ولما كانت النِّساء أكثر تأثراً بزيارة القبور من الرجال، والواقع القديم والحديث يشهد بتعلُّق النِّساء بالقريب -وبالأخصِّ المفقود- أكثر من الرَّجل، ومنه التَّعلُّق بمن في القبور ممن فارقهن إن كان أبًا أو أخًا أو زوجًا، ولعلَّ السِّر وراء ذلك أنَّ للمرأة عاطفة أقوى من الرَّجل، وهذا مؤشِّر لما هو حاصل منهنَّ من الوقوع في عدد من المخالفات الشَّرعيَّة حال زيارتهنَّ للقبور، وبالأخصِّ حال ضعف الإيمان، ومن ذلك: الدُّعاء بالويل والثُّبور على أنفسهنَّ أو غيرهنَّ لما حصل من فقدان حبيب أو قريب، وكذلك الاستغاثة بالميِّت، أو التبرُّك بقبر من يعتقدن نفعه حال موته، وكلُّ ذلك منع منه الشَّرع؛ لأنَّه استعانة بمخلوق، واعتراضٌ على القضاء والقدر؛ لذا قال النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم: "لعن الله زوَّارات القبور"(رواه أبو داود)، ويُفهَم من الحديث: جواز زيارة النساء للقبور مع النَّهي عن الإكثار منها، ولعلَّ من الحِكَمِ: أن يكون في الإكثار من الزِّيارة ترسيخاً لما قد يتعلَّق بالقلب من الاعتقاد بأن هذا الميت ينفع من دون الله، أو أن يُجعل للموتى مكانةً لا تجوز إلا لله.

 

ويؤكِّد القول بجواز القليل من الزِّيارة للنساء: ما ورد في الإباحة العامَّة لسائر النَّاس، كما في قول النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- السَّابق: "ألا فزوروها فإنَّها تذكِّركم الآخرة"، وغير ذلك من الألفاظ الدَّالة على الجواز بإطلاق.

 

عباد الله: ولزيارة القبور آدابًا يجب مراعاتها؛ وذلك لاعتبار هذه الزيارة جزءاً من العبادة التي يأمل المرء الأجر من الله بفعلها، ومنها:

السلام على الموتى والدعاء لهم، فيقول المسلم إذا أتى المقبرة ما ورد في كيفية السَّلام والدُّعاء من قول النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "السَّلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السَّابقون ونحن إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية"(رواه أبو داود).

 

ومن الآداب: كراهة المشي على القبور، كما في الحديث: "نَهَى النَّبِيُّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ-أَنْ تُجَصَّصَ القُبُورُ ...وَأَنْ تُوطَأَ"(رواه التّرمذي).

 

ومنها: كراهة الجلوس على القبور؛ لحديث النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتمزق ثيابه حتَّى تخلص إلى جلده، خيرٌ له من أن يجلس على قبر"(رواه مسلم).

 

ومن الآداب: ألَّا يصلِّي المرء إليها؛ فقد جاء النَّهي عند ذلك في الحديث: "لعن الله اليهود والنَّصارى اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد"(متَّفق عليه).

 

وكل هذه الآداب تجعل الإنسان عند زيارته القبور في حال انشغال بالذِّكر، وتعظيم لله تعالى، ودعاء للموتى، وسلام عليهم، فيجمع بين تعظيم المولى سبحانه دون غيره، وبين الدُّعاء بالعافية للزَّائر والمزور.

 

أيها المسلمون: في زيارة القبور تكريم للزائر والمزور، ففيه استشعار النَّهاية الحتمية لكلِّ إنسان على وجه الأرض، وهي مغادرة هذه الدُّنيا في يوم من الأيَّام، وفيها تربية النَّفس بتذكُّر الآخرة والزُّهد في الدُّنيا، وامتثال الحزن المشروع الذي تلين به القلوب، ولا يصرف عن الرِّضا بالقدر، بل فيه زيادة إيمان، وتربية للنَّفس على الاستسلام لله، والخضوع له والانقياد.

 

كما أنَّ في زيارة القبور أُنْسٌ للموتى، فالدّعاء والسَّلام عليهم مع الزِّيارة يسعدهم، ويزيدهم فرحاً واستبشاراً، وهم يشعرون بما يفعله الأحياء لهم، فقد ورد عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-ما يدل على ذلك كما في الحديث: "إنَّ الميِّت ليعذَّب ببكاء أهله عليه"(متَّفق عليه)، أي: يحزنه ذلك، وفي الحديث الآخر: "حتَّى إنَّه ليسمع قرع نعالهم"(متَّفق عليه)، وهذا يدلُّ على إحساسهم بما يكون من الأحياء من الشَّيء الحسن وخلافه.

 

وقد أورد الإمام مسلم قصة عمرو بن العاص -رضي الله عنه- لمن عنده حال احتضاره، حين قال: "إذا دفنتموني فأقيموا حول قبري قدر ما تُنحر جزور ويقسم لحمها، حتَّى أستأنس بكم".

 

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "لو أنَّ أهل القبور لا يشعرون بالزَّائر لما صحَّ تسميته زائراً، فإنَّ المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره، لم يصحَّ أن يُقال: زارَهُ".

فالزِّيارة خير للحيِّ والميِّت، فليحرص المرء عند زيارته أن يجعلها عبرة له وعظة، وسبيلًا لذهاب قسوة قلبه، وجفاف عينه، وأن توقظه من غفلته وتشبثه بالدنيا، فيتذكر مصيره الذي لابد أن يصل إليه، ثم لتكن زيارته سعيدة على الموتى، فيسلم عليهم، ويدعو لهم، ويسأل الله لهم المغفرة والرحمة.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:

 

أيها المؤمنون: إنَّ من الأمور التي ينبغي التَّنبيه عليها في زيارة القبور:

الاحتراز من الوقوع فيما لم يأذن به الله تعالى، ولا رسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، من مخالفة أمر الله ورسوله؛ ففيها العاقبة مؤلمة، قال سبحانه في بيان عاقبة التَّقصير وعدم الانقياد لأمر الله: (فَليحذرِ الذين يخالفونَ عنْ أَمره، أن تصيبهم فتنةٌ، أو يصيبهم عذابٌ أليمٌ)[النور63]، والمخالفة هنا عامَّة في كلِّ ما أُمر به الإنسان، من اعتقاد وقول وفعل.

 

ومن أشد المحذورات والمخالفات التي تتعلَّق بزيارة القبور، ما يحصل عندها من التَّمسح بها، ودعاء من فيها رغبة في تحقيق مرغوب، أو صرف مرهوب، وتضخيم بنيانها، ووضع الرُّسوم والكتابات والخطوط عليها، وفي حديث جابر -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أن تجصَّص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ"(رواه التّرمذي)، وكذلك السَّفر وشدِّ الرِّحال إليها، واتخاذها مساجد للصلاة فيها أو إليها.

 

فكلُّ هذه المخالفات تعدُّ صارفةً للاستفادة من الحِكَم المترتِّبة على زيارة القبور، بل لقد علَّقت الشخص بالقبر وبمن فيه، وجعلته مشغولاً بالعبد عن المعبود، وبالمخلوق عن الخالق، وبالباطل عن الحقِّ، وبالشَّكل عن الجوهر، وبالبدعة عن السُّنَّة.

 

عباد الله: القبر أول محطَّة للتفكُّر في الدُّنيا وحالها، والنَّظر في حقيقة الموت، وأنَّه غاية ينتهي إليها كلُ إنسان، وليس أكثر ولا أعظم مقاماً لتذكُّر الآخرة، والتَّفكُّر في حقيقة النَّفس، من زيارة القبور والنَّظر في حال من فارق الدُّنيا، خاصَّة مع استحضار تلك النِّية، والالتزام بالوارد من التَّوجيهات الشَّرعية في شأن تلك الزِّيارة.

 

فالموت فيه الموعظة الكافية الوافية الشَّافية، وقد ورد في الحديث: "كفى بالموت واعظاً"(رواه ابن ماجه)، فهو واعظ أبلغ من كلِّ بليغ، وأفصح من كلِّ فصيح، وهو بحقٍّ كما قيل فيه: الواعظ الصَّامت.

 

أسأل الله أن يمن علينا بعفوه ومغفرته، وأن يرحم موتى المسلمين أجمعين، وأن يرحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، وأن يختم لنا حياتنا بخير خاتمة، إنه على كل قدير.

 

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه...

 

المرفقات
زيارة-القبور-المشروعة.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life