عناصر الخطبة
1/ استقبال رمضان 2/ هداية القرآن للناس 3/ الحكمة من تكرار الصيام في كل عام 4/ التوبة في رمضان 5/ الإعلام ورمضان 6/ حال الناس بعد رمضاناهداف الخطبة
اقتباس
هذا الشهر الذي جعله الله -تبارك وتعالى- منطلقًا للتغيير، منطلقًا لتغيير العالم بأسره؛ إذ إن الله -تبارك وتعالى- أنزل القرآن في هذا الشهر المبارك: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185]، هدى للناس أجمعين، عربهم وعجمهم، قبل أن ينزل القرآن كان الناس في غواية وفي...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
فإننا نحمد الله -سبحانه وتعالى- الذي منَّ علينا بالإسلام، وأكرمنا بنبينا سيد الأنام، فهدى الله به من بعد الضلالة، وجمع بعد الفرقة والشتات، فهدى الله به أعينًا عميًا، وقلوبًا غلفًا، وآذانًا صمًّا، فنحمده سبحانه حق حمده، ونشكره حق شكره، أن كتب لنا وبلغنا شهر رمضان، هذا الشهر الذي يستقبله المسلمون بفرح وسرور مستبشرين بهذه النعمة وهذه المنة، بأداء هذا الركن من أركان الإسلام، فرحين مستبشرين بهذا الشهر الكريم المبارك، هذا الشهر الذي جعله الله -تبارك وتعالى- منطلقًا للتغيير، منطلقًا لتغيير العالم بأسره؛ إذ إن الله -تبارك وتعالى- أنزل القرآن في هذا الشهر المبارك: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185]، هدى للناس أجمعين، عربهم وعجمهم، قبل أن ينزل القرآن كان الناس في غواية وفي عماية وفي ضلالة، يعبدون الأصنام والأوثان، يعبدون الشموس والأقمار والأشجار والأحجار، ويعبدون كل مخلوق، وإن عبدوا الله تعالى فإنهم يعبدون مع الله آلهة أخرى، وقليل هم أولئك الذين وحَّدوا الله -عز وجل- في عبادته، ولهذا جاء في الأثر: "وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلاَّ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ".
والسبب في هذا المقت أنهم انحرفوا بعيدًا عن دين الله -عز وجل- وعن أوامر الله -عز وجل-، فشرعوا لأنفسهم وصنعوا لأنفسهم آلهة يعبدونها من دون الله -عز وجل-، فجاء القرآن في هذا الشهر الكريم ليكون منطلقًا ونقطة تحول العالم بأسره، هدى للناس، ولهذا فإنه ما مرت خمسون عامًا على نزول القرآن إلا ودولة الإسلام تضرب أطنابها في مشارق الأرض ومغاربها.
لقد امتدت دولة الإسلام إلى أقصى الأرض شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا خلال هذه المدة؛ لأن القرآن غيَّر الأرض، غيَّر الكون بأسره، دخل الناس في دين الله تعالى أفواجًا حينما سمعوا القرآن، وحينما وعوا القرآن، وحينما خالط القرآن بشاشة قلوبهم تغيروا.
ولهذا إلى يومنا هذا أعداؤنا موقنون بأنه لا يمكن استئصال هذا الأمة ولا يمكن تغيير هذه الأمة وتغييبها، لا يمكن ذلك وهذا القرآن موجود، ما دام القرآن حيًّا، ما دام القرآن معمولاً به، ما دام الناس يتلون القرآن ويأخذون بأخلاق القرآن وبأحكام القرآن.
هكذا ينصُّون على أنه لا يمكن تغيير هذه الأمة ولا إلغاؤها ما دام القرآن موجودًا.
إن هذا القرآن يعمل في القلوب عمله تمامًا كما صنع بجبير بن مطعم حينما هاجر من مكة إلى المدينة ووافى صلاة المغرب، فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في المغرب بالطور، وكان آتيًا من أجل المجادلة ومن أجل المخاصمة، وكان قد وضع على أذنيه القطن لا يريد أن يسمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من كلام الله -عز وجل-، ثم راجع نفسه وقال: أنا من أفصح الناس، ومن أبلغ الناس، أنا قد سمعت الشعر وأعرف جميع أبحره، فأخذ القطن من أذنه وسمع كلام الله -عز وجل- يتلوه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقذف الله تعالى الإيمان في قلبه.
قال: كاد قلبي يطير، وذلك حين وَقَرَ الإيمان في قلبي، فجاء كافرًا جاحدًا يريد ما يريد، فقذف الله تعالى الإيمان في قلبه، عاد مؤمنًا بالله تعالى، بالقرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى في هذا الشهر الكريم، كان منطلقًا لتغيير الكون بأسره.
ولهذا -أيها الإخوة- إن كثيرًا من الناس يتململ ويتعذر ويختلق الأعذار أنه لا يمكن أن يغير نفسه، هذا كلام غير صحيح، وهذه رسالة سلبية يعطيها هذا الإنسان لنفسه.
وإن يبقى على هذا الأمر فسيبقى كذلك غير قادر على تغيير نفسه، إن شهر رمضان من أكبر الأدلة على أن هذا الكون يمكن أن يتغير، وعلى أن المجتمعات والشعوب يمكن أن تتغير، وعلى أن الفرد يمكن أن يتغير إلى الأصلح.
ولهذا كان من نعم الله تعالى على هذه الأمة أنه ما جعل الصيام مرة واحدة في العمر، ولكنه كرَّره كل عام لتكرُّر هذا التغيير، وليفتح باب التغيير خلافًا للحج؛ فإنه معروض مرة واحدة، أما الصيام فإنه يتكرر كل عام.
وهذه نعمة يستحق ربنا أن يشكر عليها؛ لأنه يتيح هذه الفرص للتغيير كل عام، ولذلك هيَّأ الله تعالى الأجواء في رمضان ما لم يهيئها في بقية الشهور، فمن تهيئة الله تعالى لرمضان يصفد مردة الشياطين، وأنه سبحانه يفتح أبواب الجنان فلا يغلق منها باب حتى ينتهي الشهر، ويغلق أبواب النيران فلا يفتح منها باب حتى ينتهي الشهر.
وينادي منادٍ: يا باغي الخير: أقبل، ويا باغي الشر: أقصر، هذا النداء يستجيب له من استجاب، يستجيب كثير من الناس لهذا النداء، خاصة في أوساط المسلمين.
والله لقد رأينا من أعتى العتاة ومن أعصى العصاة يقلعون عن الشر في رمضان.
كم من مدمن الخمر أقلع!! كم من مدمن للمخدرات أقلع!! وكم من مدمن على الزنا -عياذًا بالله- أقلع!! وهلم جرًّا، فكثير من الناس يستجيب لهذا النداء، ولهذا فإن الصيام من حيث هو -خاصة في الثلاثة الأيام البيض حيثما يكتمل القمر- له خاصيته.
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين شرع صيام الثلاثة الأيام البيض شرعها لأن هذا الوقت يكون فيه المد والجزر في أوجه، ولهذا فإن الجسم من الماء، وما في الجسم من الدماء تنخفض لأقصى ضغط على الجسم ولأقصى حرارة للجسم، ولهذا تخف شهوات الناس.
ذكر بعض المؤرخين في أحد الأعوام -وبالذات في الليالي القمرية الثلاث- حدث في ولاية ميامي في أمريكا حينما حصل نوع من أنواع الهيجان عند الناس، فرصد الراصدون أن كثيرًا من الجرائم وقعت في هذه الأيام؛ لأن أولئك الناس لا يصومون أساسًا ولا يعرفون الصوم، إنما عند المسلمين حينما يصومون -إضافة إلى ما يجدونه من الصحة والعافية- فإن المنكرات والجرائم تقل وتخف في أوساطهم؛ ليعيش الناس في أمان وفي استقرار؛ ليعيشوا في وئام؛ ليعشوا في إخاء شهر رمضان.
أيها الإخوة: فرصة للتغيير، ها أنت سترى في صلاة التراويح كيف يجتمع الناس إلى بيت الله -عز وجل-، أين كان هؤلاء الناس؟! هل هؤلاء الناس أتوا من كوكب آخر؟! أليسوا هم الموظف والعامل والجندي والتاجر؟! هم، ولكن قد يتعلل المتعلل بكثرة الانشغال، وأنت في رمضان تشتغل وتعمل، تكدح وتسعى في طلب الرزق، ومع هذا وجدت وقتًا من أجل أن تدخل المسجد، ومن أجل أن تحافظ على هذه الصلاة النافلة، وتحافظ على الفروض، وجدت وقتًا لكثير من الأعمال، إذًا شهر رمضان مدرسة متكاملة للتغيير، لكن يحتاج منا إلى المداومة؛ لأنه في هذا الشهر -حينما تكون هذه العبادات فيها نوع من الجماعية- تسهل على الناس، ينشِّط بعضهم بعضًا، يستفيد بعضهم من بعض من السلوكيات والأخلاقيات، والله إن مناظر الناس في رمضان تسر الناظرين؛ حيث تتغير أشكالهم، يتغير لباسهم، يتغير كلامهم، كل شيء يتغير، فهذا يعني أنه هناك إمكانية للتغيير.
لكن لماذا ينتكس كثير من الناس بمجرد أن ينتهي رمضان؟! لأن كثيرًا منهم ما وجد الهمة العالية، وما وجد المراقبة لله -عز وجل-، ولذلك سرعان ما يتراجع كثير منهم ويعود كما كان، الصلاة التي قال الله -عز وجل- فيها آمرًا بالمحافظة عليها فقال تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238]، الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ قال تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45]، الصلاة التي حين فرضها الله -عز وجل- عرج بنبيه -صلى الله عليه وسلم- إلى سابع سماء حتى بلغ إلى مكان أسمع فيه صرير الأقلام، وفرض الله تعالى خمسين صلاة، ولا يزال يراجع -صلى الله عليه وسلم- ربه حتى جعلها خمسًا في العمل وخمسين صلاة في الأجر والثواب.
فهذه الصلاة التي قال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟!"، قَالُوا: لاَ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: "فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا".
فرصة لمن كان قاطعًا للصلاة أن يعود إليها في هذا الشهر الكريم، فرصة لمن كان لا يحضر جماعة أن يحضر الجماعة، فرصة لمن يخرج الصلاة عن وقتها أن يصلي الصلاة في وقتها، في رمضان تتهيأ هذه الفرصة.
انظروا إلى رمضان والقرآن، فقد كان من أخلاق السلف ومن سنة السلف أنه إذا دخل رمضان طووا الكتب وتفرغوا للقرآن الكريم، لا يدرسون العلوم، وإنما يقرؤون القرآن، وكانت أحوالهم مع القرآن متنوعة مختلفة، فهذا يختم كل يوم مرة، وهذا مرتين، وهذا كل ثلاثة أيام، وهذا كل أسبوع وهلم جرًّا.
فهل يمكن أن تثبت على جزء على أقل تقدير كل يوم؟! قد ذكرنا فيما مضى أن الإنسان لو قرأ قبل وبعد كل فرض أربع صفحات فقط لختم القرآن الكريم خلال شهر بإذن الله -عز وجل-، أمر يسير، ولكن العلاقة بيننا وبين القرآن تنفصم وتنقطع بمجرد أن نفارق رمضان، لابد أن يكون الإنسان محترمًا لحياته، محترمًا لوقته في رمضان وفي غير رمضان، لا يهدر أوقاته، إنك إذا سافرت تجد ذلك الملحد وذلك الذي يعبد الصليب وذلك العلماني تجد معه كتاب أو عدة كتب في أسفاره، إن وجد فسحة فتح الكتاب وقرأ، أو فتح جهاز الحاسب وتصفح، يستفيد من الوقت، هل يمكن أن نحترم أوقاتنا؟!
هل يمكن أن نحترم أثمن شيء في هذه الحياة وهو الوقت، الذي ما يندم إنسان مثلما يندم على هذا الوقت!! يقول الله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99- 100].
القرآن الذي قال النبي فيه -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة".
"القرآن والصيام يشفعان يوم القيامة؛ يقول الصيام: ربِّ شفعني فيه، فإني أظمأته وأجوعته في النهار، ويقول القرآن: ربِّ إنني أسهرته الليل فشفعني فيه، فيشفعان".
فالصيام ورمضان محطة للتغيير بكل أشكاله وألوانه، نتعلم في رمضان أن نغير من سلوكياتنا وأخلاقياتنا، فلا يعيش الإنسان أنانيًّا محبًّا لنفسه، لا ينظر في أحوال الآخرين، رمضان ينفق فيه كثير من الناس ويتفقدون أحوال الفقراء والأيتام تعبدًا لله -عز وجل-، يفرح الواحد منهم أن يضع النقود والطعام في يد المتصدق عليه، لا يطلب منه منَّة ولا يطلب منه شكرًا.
لأن هذا واجب عليه مثلما أوجب الله عليه الصلاة، ليس منَّةً يقدمها هذا الغني لهذا الفقير، بل هو واجب عليه، ولهذا يبتعد الإنسان عن هذا الخلق الذميم خلق الشح والأنانية والدوران حول النفس، تتمثل هذه الصورة بأجلى صورها، بأجلى معانيها، في شهر رمضان، فتجد الناس ينفقون ويطعمون ويتصدقون، حتى أولئك البسطاء يشاركون في هذه المعاني.
المعاصي يقلع كثير من الناس عنها في رمضان، وهذا دليل على أن الإنسان يمكن أن يغير نفسه، يمكن أن يقلع عن كثير من العادات السيئة من المعاصي والذنوب، يمكن أن يقلع عنها، ها أنت ترى الكثير الكثير من الناس يعيشون في انفصام نكد ما بين الليل والنهار؛ ففي النهار لا يسمعون اللغو ولا يسمعون غناءً، حتى القنوات الفضائية في رمضان تتغير، هؤلاء الناس الذين يقولون: غير ممكن أن تتغير هذه القنوات. أتريدون هذه القنوات أن تبث كلها الأخلاق؟! أين الأغاني؟! أين الرقص؟! أين العري؟! أين العهر؟!
هذا القنوات في هذا الشهر تنافس في البرامج الإسلامية، ويتقبلها المسلمون بقبول حسن منها ولا يغلقونها، ويتشوقون للإطلاع على ما تبثه هذا القنوات، وهذا يدل على أنه يمكن أن تتغير هذه القنوات، يمكن أن تكون رافدًا للسلوك والأخلاق والعقيدة والعبادة، وتكون رافدًا في تربية النشء، وتكون رافدًا في تربية الأجيال، تكون رافدًا في بث روح المحبة للأوطان، تكون رافدًا لتبث الأمان والاستقرار في الأوطان.
لكنها ما أن ينفضّ رمضان حتى تعود إلى ما كانت عليه، وحذار حذار من هذه القنوات التي يخطط أصحابها من أجل أن يفسدوا عليكم صومكم، حذار من هذه القنوات التي تخطط كيف تأكل أوقاتكم، حذار من هذه القنوات التي لا تريد أن تستفيدوا من رمضان بفوازيرها ومسابقاتها ومسلسلاتها وما شاكل ذلك، للأسف الشديد كثير من الناس يعيش في انفصام، وكأن رب النهار غير رب الليل، كأن رب رمضان غير رب شوال وغيره من الشهور، فالذي منعك من هذه في نهار رمضان هو الذي منعك منها في الليل، والذي منعك منها في رمضان هو الذي يمنعك منها في سائر الشهور.
ولهذا حينما يقول الإنسان: لا يمكن أن يتغير، هذا كلام سلبي وكلام خطأ، يمكن للإنسان أن يتغير كما أنك تنتهي عن الطعام والشراب المباح وتنتهي عن المحرمات إلى الليل، يمكنك أن تواصل ما بعد ذلك، وإذا واصلت شهرًا واصل شهرين، وإذا واصلت عامًا واصل العمر كله بإذن الله -عز وجل-.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد:
إن أفضل ما تقرب به العبد إلى الله -عز وجل- ما افترض عليه كما جاء في الحديث القدسي: "ولا يزال العبد يتقرب إلى الله -عز وجل- بالنوافل حتى يحبه".
النوافل فرصة للتغيير في رمضان، وما أكثر هذه النوافل، وما أعظم أجورها؛ ومنها:
ركعتان بعد الفجر، وأربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء كذلك.
ومنها: الضحى التي ورد فيها أجر عظيم، وحديثها حسنه بعض أهل العلم كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة".
صلاة الوتر وصلاة التراويح: كما في الحديث: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ".
أما أجر الفرائض فهذا شيء آخر.
هذه هي النوافل، وإن السلف الصالح كان عندهم من الهمة ما يجعلهم يقرؤون أقل ما يكون في كل ليلة جزءًا، ولكن فترت الهمم، وإن فترت الهمم فلا يفتر الناس أن ينصرفوا قبل أن ينصرف الإمام، فلنحرص كل الحرص على أن نصلي مع الإمام حتى ينصرف؛ ليكتب لنا قيام ليلة في رمضان.
تتغير القلوب القاسية والمتصحرة عن الإيمان، تتغير هذه القلوب، ولهذا ذكرنا في شهر شعبان أن الإنسان ينبغي أن يروّض نفسه وأن يدرب نفسه ويؤهلها منذ شهر شعبان كما كان -صلى الله وسلم- يعلّم هذه ا لأمة، وكان يصوم أكثر هذا الشهر -يعني شعبان- لأنه شهر يغفل عنه كثير من الناس، فيستفيد الإنسان من صيام شيء من شعبان، وإذا جاء رمضان استقبله بالصيام وقراءة القرآن والذكر وغير ذلك، تتغير هذه القلوب المتصحرة التي لا تكاد تتأثر بأي منظر وإن كان فيه ما فيه من معاني التأثر.
لكن في رمضان نرى قارئ القرآن يقرأ وحده، وتسيل عبرته، ترى الناس في الصلوات يبكون، ترى الناس ترق قلوبهم، وإذا نظروا إلى حادثة ما مؤثرة تأثروا، وإذا نظروا إلى فقير وإلى يتيم تأثروا؛ لأن رمضان غيّر من حالهم؛ لأن القرآن غيّر من حالهم.
أيها الإخوة: محطة مهمة لكل مسلم يجب عليه أن لا يفوّتها مهما كان الأمر، إن فاته عمل من عمل اليوم قضاه، إن فاته عمل الصبح قضاه في الليل، عليكم بالذكر، أذكار الصباح وأذكار المساء وما شاكل ذلك من الأذكار التي تقوّي الجسد، تعطيه الصحة، تعطيه الإعانة، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما جاءته فاطمة -رضي الله عنها- وقد أثرت الرحى على يدها، تطلب منه خادمًا يخدمها، وقد أُتِيَ بسبي فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ، فَلَمْ تَرَهُ، فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرَتْهُ فَأَتَانَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ فَقَالَ: "عَلَى مَكَانِكُمَا". فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صدري، فَقَالَ: "أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا؟! إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ".
قال علي -رضي الله عنه-: "فلا زلنا محافظين عليها، قال: ما تركتها قالوا له: ولا يوم صفين؟! قال: ولا يوم صفين".
فحتى في ليلة المعركة ما تركها؛ لأنها تعين الإنسان على قضاء حاجته وتنشطه بفضل الله -عز وجل-.
رمضان -أيها الإخوة- ينبغي أن يغيّر من حياتنا، فإن لم يغير من حياتنا فمعنى هذا أن في أعمالنا خللاً، إن لم يتغير حالنا من أول يوم من رمضان، من أول أسبوع من رمضان، فهنالك خلل فينا، خلل في تقوانا، خلل في مراقبتنا لله -عز وجل-.
فشهر رمضان كان يفرح فيه سلف الصالحون، لماذا؟! كانوا يفرحون فيه لأن فيه إعانة لهم على تغيير أحوالهم كلها، ولذلك شرع الله -عز وجل- الصيام أيام النوافل من أجل أن يجد الإنسان دائمًا هذه اللذة وهذا الطعم الذي يجده في رمضان من خلال فعله لصيام النوافل.
فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. والحمد لله رب العالمين.
التعليقات