عناصر الخطبة
1/ الصيام فطم للنفوس عما أُبيح 2/ مظاهر التضحية في رمضان 3/ تضحيات رمضان لا تقف عند حد 4/ من آثار الصيام على الفرد 5/ من فضائل شهر رمضان 6/ آداب التعامل مع شهر الصياماهداف الخطبة
اقتباس
ففي نهار الصيام تضحيةٌ بالطعام والشراب واللذَّة المُباحَة. وفي ليالِيه تضحيةٌ بلذَّة النوم وراحَة الجسمِ بإحيائِها في القيام؛ إذ يقتضِي ذلك صبرًا وجهدًا على التلاوة وطول القيام، لاسيَّما في عشره الأخيرة التي يلتمسُ فيها المُصلُّون القانِتون ليلةَ القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر. فإذا كان للصائم أيضًا حظٌّ من اعتِكافٍ بمُلازمةٍ للمسجد وانقِطاعٍ عن الصوارِف فقد أخذَ بنصيبٍ وافرٍ من التضحية. وإن التضحيات في رمضان -يا عباد الله- لا تقِفُ عند حدٍّ؛ فكما تكونُ براحَة الجسم وقطعِه عن لذَّاته، وصرفِه عن مُباح شهواته، تكونُ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي فرضَ علينا الصيام، أحمده -سبحانه- على آلائِه الجزيلة ونِعمه العِظام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله صاحبُ الحوض المورود والمقامات العِظام، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله صلاةً وسلامًا دائمَين ما تعاقَبَت الليالي والأيام.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله-، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
عباد الله: لئن كانت حاجةُ المرء إلى امتلاك زِمام نفسِه، وكبحِ جِماحها، وضبط اتجاهاتها بأطرِها على الحق، وحملِها على الجادَّة، تحملُ أقوامًا على طلب ذلك في مناهج وخُطط تواضعَ عليها البشر، ورضُوا بها واطمأنُّوا إليها؛ فإن المسلم يجِد في فريضة صيام رمضان ضالَّتَه، ويرى فيها أكبرَ حافزٍ على تحمُّل شدائد الحياة والصبر على لأوائِها بما يزخرُ به من تضحِياتٍ يبذلُها الصائم من حاجات جسمِه ورغبَات نفسِه.
فالصيامُ فطمٌ للنفوس عما أُبيحَ لها من لذَّاتٍ، وإلزامُها بتحمُّل ألم الجوع وحرِّ الظمأ، وضبطٌ لشعورِها أن تتبرَّم أو تتأفَّف، أو أن يبدُرَ منها ما يُحبِطُ صيامَها، أو يُنقِصُ من أجرها. وفي هذا الفِطام للنفوس تضحياتٌ يبذُلها الصائم ابتِغاءَ مرضات الله، وتصديقًا لموعوده بالجزاء الضافِي والأجر الكريم.
ففي نهار الصيام تضحيةٌ بالطعام والشراب واللذَّة المُباحَة. وفي ليالِيه تضحيةٌ بلذَّة النوم وراحَة الجسمِ بإحيائِها في القيام؛ إذ يقتضِي ذلك صبرًا وجهدًا على التلاوة وطول القيام، لاسيَّما في عشره الأخيرة التي يلتمسُ فيها المُصلُّون القانِتون ليلةَ القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر.
فإذا كان للصائم أيضًا حظٌّ من اعتِكافٍ بمُلازمةٍ للمسجد وانقِطاعٍ عن الصوارِف فقد أخذَ بنصيبٍ وافرٍ من التضحية.
وإن التضحيات في رمضان -يا عباد الله- لا تقِفُ عند حدٍّ؛ فكما تكونُ براحَة الجسم وقطعِه عن لذَّاته، وصرفِه عن مُباح شهواته، تكونُ أيضًا بتضحيةٍ بالمال الذي تُحبُّه النفوسُ أشدَّ الحبِّ، وما يزالُ ذلك الحبُّ مُستولِيًا عليها، مُتغلغِلاً فيها حتى نهاية العُمر، كما قال -سبحانه-: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر: 20].
وكما جاء في الحديث -الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يكبُر ابنُ آدم ويكبُر معه اثنان: حبُّ المال، وطول العُمر".
وإن هذا الحبَّ ليتبدَّى جليًّا في حِرص المرء عليه، وشُحِّه به، فلا تطيبُ نفسُه بإخراجه إلا بمُقابلٍ أعظم فائدة، وعِوَضٍ أكثر عائِدة.
وإن من الآثار الجميلة الجليلة للصيام: ترقيقَ القلب وتهذيبَ المشاعر، تهذيبًا يُحدِثُ فيها تحوُّلاً ونقلةً من ضيقِ الفردية والأثَرة إلى سَعَة الإيثار، الذي يبعثُ على إحساس المرء بغيره وحاجته إلى برِّه وعطائِه، فيبذُل ما تطيبُ به نفسُه من مالِه، مُستيقِنًا بأنَّ الله تعالى سيُجزِلُ له العِوَض، ويُقابِلَ عطاءَه الذي سخَت به نفسُه بأفضلَ منه، وأعظم عائِدة، وأوفرَ جزاءً.
وإن تفطيرَ الصائم -يا عباد الله- لهُو لونٌ من ألوان التضحية والسخاء بالمال، أملاً في بُلوغ مرضاة الله، والحَظوة عنده بكريم الجزاء الذي أخبرَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بقولِه: "من فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجرِه غيرَ أنه لا يُنقِصُ من أجر الصائم شيئًا". أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي وابن ماجه في سننهما بإسنادٍ صحيحٍ من حديث زيد بن خالد -رضي الله عنه-.
وليس هذا التفطيرُ للصائم ميدانَ التضحية الوحيدة في رمضان، فإن أبوابَ التضحية فيه كثيرة؛ إذ هو مِضمارٌ يتسابَقُ فيه المُتسابِقون يرجُون جميلَ موعودها، وحُسن الثواب عليها.
وإن تضحيات الصائم التي يبذُلها من نفسِه ومالِه استِجابةً لأمر الله، وابتِغاءَ رِضوان الله واقعةٌ موقِعها العظيم عند الربِّ الكريم، الذي جعلَ لها أعظمَ الجزاء ببُلوغ مُضاعَفَة الأجر عليها مبلغًا لم يخطُر للصائم على بالٍ، كما جاء في الحديث القدسي: "كلُّ عمل ابن آدم له الحسنةُ بعشر أمثالِها إلى سبعمائة ضعفٍ، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزِي به". أخرجه الشيخان في صحيحيهما -واللفظُ للبخاري- عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وإن السببَ في عدم حصر الجزاء على الصوم -يا عباد الله-، على عدم حصرِه في حدٍّ: أنه -كما قال أهل العلم-: لونٌ من ألوان الصبر في أوسَع مجالاتِه، وقد قال الله تعالى في جزاء الصابِرين: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10]؛ أي: بغير مُضاعفةٍ محدودةٍ يقِفُ عندها الأجر، وينتهِي إليها الثواب.
ووصَفَه رسولُ الهُدى -صلوات الله وسلامه عليه- بأنه شهرُ الصبر، فقال: "صومُ شهر الصبر -أي: رمضان- وثلاثة أيام من كل شهر صومُ الدهر". أخرجه النسائي بإسنادٍ صحيحٍ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وهو جزاءٌ يُضافُ إلى جزاءٍ آخر، جعلَه الله مقصورًا على الصائِمين لا يشرَكُهم فيه غيرُهم؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن في الجنةِ بابًا يُقال له الريان، يدخلُ منه الصائِمون لا يدخلُ منه غيرُهم، فإذا دخلُوا أُغلِق فلم يدخُل منه أحد".
وفي هذا من شرفِ الاختِصاص، وكريم الأجر، وعِظَم المنزلة ما لا مزيدَ عليه ولا مُنتهَى له.
فطُوبَى لمن أخذ من دروس التضحيَة في رمضان خيرَ عُدَّة، وأقومَ منهجٍ ينهَجُه في سائر أيام عُمره، فبذلَ من نفسِه ومالِه لله ابتِغاءَ رِضوان الله، وتأسِّيًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبصحابته من بعده، أولئك الذين كان لهم في دُروب التضحية أعظمُ المواقِف، وأبلغُ العِبَر، وأروعُ الآثار.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن ما يبذُلُه الصائم من تضحيةٍ في صيامِه وقيامِه وإنفاقِه وسائر أعماله التي يرجُو بها ما عند الله ليستلزِمُ كمالَ الحذر من كل سببٍ ينتقِصُ ثمار تضحيَته، ويُفضِي إلى ضياع جُهده وخُسران أجره؛ فرُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامِه الجوعُ والعطش، ورُبَّ قائمٍ حظُّه من قيامِه السهرُ، كما أخبرَ بذلك رسول الهُدى -صلوات الله وسلامه عليه- في الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه الكبرى، وابن ماجه -واللفظ له- بإسنادٍ صحيحٍ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
فإن للصوم -كما قال أهلُ العلم- حُرمةً تجبُ المُحافظةُ عليها، وعدمُ استِباحتها باللَّغو والباطِل وقول الزُّور، والسِّباب والمُشاتمَة والمُخاصَمة، وقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من لم يدَع قولَ الزُّور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدَعَ طعامَه وشرابَه". أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
فاتقوا الله -عباد الله-، وحذارِ من تضييع تضحياتكم حذارِ، بالتفريط في جنب الله، أو باستِباحة حُرمات الله.
وصلُّوا وسلِّموا على خاتم رسل الله، فقد أُمِرتم بذلك في كتاب الله؛ حيث قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ، وسُنَّةَ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
التعليقات