عناصر الخطبة
1/من أعظم نعم الله على عباده 2/مقومات الحياة الطيبة 3/من فضائل شهر رمضان 4/التهيؤ لاستقبال شهر الصيام.اقتباس
الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ: هِيَ حَيَاةُ الْقَلْبِ ونَعِيمُهُ، وبَهْجَتُهُ وسُرُورُهُ بِالإيمانِ ومَعْرِفَةُ اللَّهِ، ومَحَبَّتُهُ، والإنابَةُ إلَيْهِ، والتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ لاَ حَياةَ أطْيَبُ مِنْ حَياةِ صَاحِبِهَا، وَلاَ نَعِيمَ فَوْقَ نَعِيمِهِ إِلاَّ نَعِيمَ الجَنَّةِ، كَمَا كَانَ بَعْضُ العارِفِينَ يَقُولُ: إنَّهُ لَتَمُرُّ بِي أَوْقَاتٌ أَقُولُ فِيهَا...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ: نِعْمَةُ الْهِدَايَةِ لِهَذَا الدِّينِ، قَالَ -تَعَالَى-: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين)[الحجرات: 17].
فَاللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ بِقُدْرَتِهِ، فَهَدَى مَنْ شَاءَ بِفَضْلِهِ، وَأَضَلَّ مَنْ شَاءَ بِعَدْلِهِ، وَكَتَبَ ذَلِكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، قَالَ -تَعَالَى-: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[التغابن:2].
وَجَعَلَنَا مِمَّنْ هُدِيَ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ بِفَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ، وَأَوْضَحَ لَنَا طَرِيقَ السَّعَادَةِ فَنَسْلُكُهُ، وَطَرِيقَ الشَّقَاوَةِ فَنَتْرُكُهُ لِنَحْيَا حَيَاةً طَيِّبَةً سَعِيدَةً أَبَدِيَّةً؛ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل:97].
فَقَوْلُ اللهِ -تَعَالَى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بَيَانٌ لِمُقَوِّمَاتِ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ فِي أَمْرَيْنِ، هُمَا:
الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالإِيمَانُ؛ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَصْفٌ لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ يَكُونُ خَالِصًا للهِ -تَعَالَى-، وَمُوَافِقًا لِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
وَأَيْضًا مُلاَزِمٌ صَاحِبَهُ لِلإِيمَانِ لِيَحْيَا حَيَاةً طَيِّبَةً فِي سَرَّائِهِ وَضَرَّائِهِ، وَعُسْرِهِ وَيُسْرِهِ؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا لَهُ"(رواه مسلم).
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ: هِيَ حَيَاةُ الْقَلْبِ ونَعِيمُهُ، وبَهْجَتُهُ وسُرُورُهُ بِالإيمانِ ومَعْرِفَةُ اللَّهِ، ومَحَبَّتُهُ، والإنابَةُ إلَيْهِ، والتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ لاَ حَياةَ أطْيَبُ مِنْ حَياةِ صَاحِبِهَا، وَلاَ نَعِيمَ فَوْقَ نَعِيمِهِ إِلاَّ نَعِيمَ الجَنَّةِ، كَمَا كَانَ بَعْضُ العارِفِينَ يَقُولُ: إنَّهُ لَتَمُرُّ بِي أَوْقَاتٌ أَقُولُ فِيهَا: إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إنَّهُ لَيَمُرُّ بِالقَلْبِ أَوْقَاتٌ يَرْقُصُ فِيها طَرَبًا".
وَإذَا كَانَتْ حَيَاةُ القَلْبِ حَياةً طَيِّبَةً تَبِعَتْهُ حَيَاةُ الجَوارِحِ، فَإِنَّهُ مَلِكُهَا، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ المَعِيشَةَ الضَّنْكَ لِمَن أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ، وَهِيَ عَكْسُ الحَياةِ الطَّيِّبَةِ.
وَهَذِهِ الحَياةُ الطَّيِّبَةُ تَكُونُ في الدُّورِ الثَّلاثِ، أَعْنِي: دَارَ الدُّنْيا، وَدَارَ البَرْزَخِ، وَدَارَ الْقَرَارِ، والْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ أَيْضًا تَكُونُ في الدُّورِ الثَّلاَثِ، فَالأَبْرَارُ فِي النَّعِيمِ هُنَا وَهُنَالِكَ، وَالْفُجَّارُ فِي الْجَحِيمِ هُنَا وَهُنَالِكَ، قالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ولَدارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ)[النحل: ٣٠]، وَقَالَ -تَعَالَى-: (وَأنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكم مَتاعًا حَسَنًا إلى أجَلٍ مُسَمًّى ويُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)[هود: ٣].
فَذِكْرُ اللَّهِ -سُبْحانَهُ وَتَعَالَى-، وَمَحَبَّتُهُ وَطَاعَتُهُ، وَالإِقْبَالُ عَلَيْهِ ضَامِنٌ لأَطْيَبِ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَالإِعْرَاضُ عَنْهُ وَالغَفْلَةُ وَمَعْصِيَتُهُ كَفِيلٌ بِالْحَياةِ الْمُنَغَّصَةِ، وَالْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ" انتهى.
وَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ الثَّبَاتَ عَلَى الدِّينِ؛ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي "الْكَبِيرِ" عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "يَا شَدَّادُ بْنَ أَوْسٍ! إِذَا رَأَيْتَ النَّاسِ قَدِ اكْتَنَزُوا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَاكْنِزْ هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ..."(والحديث صححه الألباني).
اللَّهُمَّ نَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ عَلَى الدِّينِ، اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ، وَاسْتَعْمِلْنَا فِي طَاعَتِكَ، وَأَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: شَهْرُ رَمَضَانَ ثَبَاتٌ وَأَجْرٌ، وَغَنِيمَةٌ وَذُخْرٌ لِمَنْ أَحْسَنَ اسْتِغْلاَلَ أَوْقَاتِهِ بِمَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللهِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ، فَقَدْ رَوَى طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَلِيٍّ -اسْمُ قَبِيلَةٍ- قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ إِسْلامُهُمَا جَمِيعًا، فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنَ الآخَرِ، فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَكَثَ الآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً ثُمَّ تُوُفِّيَ.
قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ بَيْنَا أَنَا عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، إِذَا أَنَا بِهِمَا، فَخَرَجَ خَارِجٌ مِنَ الْجَنَّةِ فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الآخِرَ مِنْهُمَا، ثُمَّ خَرَجَ فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ، فَقَالَ: ارْجِعْ؛ فَإِنَّكَ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ.
فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ، فَعَجِبُوا لِذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: "مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ؟"؛ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا كَانَ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ اجْتِهَادًا ثُمَّ اسْتُشْهِدَ، وَدَخَلَ هَذَا الآخِرُ الْجَنَّةَ قَبْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: "أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً؟"، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَ وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ؟"، قَالُوا: بَلَى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ"(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
فَطُولُ الْعُمْرِ مَعَ حُسْنِ الْعَمَلِ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَمِنْ أَسْبَابِ الثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ وَالْفَوْزِ وَالْفَلاَحِ بِأَعْلَى دَرَجَاتِ الْجِنَانِ؛ فَاسْتَبْشِرُوا بِقُدُومِ شَهْرِكُمْ، وَسَلُوا رَبَّكُمُ الْبَلاَغَ وَحُسْنَ الْعَمَلِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56]، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رواه مسلم).
التعليقات