عناصر الخطبة
1/التفكر في خلق الله من أجل وسائل تقوية الإيمان 2/تكفل الله بأرزاق الخلق وبعض جوانب تيسيره الرزق للطير 3/في هداية الله للطير في رزقه عبرة للناس في أرزاقهم

اقتباس

السعي في طلب الرزق بصدق التوكل دون ضجر أو كسل من هداية الله الطيرَ في طلب رزقها، وذلك السعي لا يكاد يخيب معه أمل أو عمل، وإن فات فإنما فات لما هو خير وأبرك. وبالصبر والصدق الذي تمثّله الطير يُساق الرزق ويبارك، والتبكير في طلب الرزق من...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

أما بعد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ)[النساء: 1].

 

أيها المؤمنون: التفكر في خلق الله، والتأمل في بديع صنعه وإحكام تدبيره من أجلِّ مغذِّيات الإيمان ومقوياته؛ حين يكون ذلك العالَمُ المحسوسُ المشهودُ دالًا على الغيب الموعود، ومن بديع خلق الله الذي حث على التأمل فيه: الطيرُ المسبحةُ بحمده؛ ففي خلْقها وتدبيرها عجائب تدل على وحدانية خالقها وإحكام تدبيره، ومن القضايا الجديرة بطول التأمل والتفكر والاعتبار: هدايةُ الله الطيرَ في طلب رزقه: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[طه: 50].

 

إذ غدت الطيرُ مضربَ المثل على هناء الرزق، وتيسره، وبركته؛ إذ لم يُر طيرٌ مُطْلَقٌ قد هلك جوعًا، أو لم يصب رزقه يومًا؛ تغدو خماصًا، وتروح بطانًا، وللضعفة منها شأن عجيب، قال مكحول: "كان من دعاء داود -عليه السلام- يا رازق الغراب النعّاب (النعيب صوت الغراب) في عشه؛ وذلك أن الغراب إذا فقس عن فراخه فقس عنها بِيضًا، فإذا رآها كذلك نفر عنها، فتفتح أفواهها، فيرسل الله عليها ذبابًا يدخل أفواهها، فيكون ذلك غذاءً لها حتى تسودّ، فإذا اسودّت انقطع الذباب عنها، فعاد الغراب إليها فغذّاها".

 

أيها المؤمنون: إن من الهداية الربانية للطير في رزقها أنها لا تخشى الفاقة والفقر؛ إذ هي لا تحمل إلا همّ رزقها اليومي، وللمستقبل رزقه الذي تكفل الله به.

 

 أحسن الظَّن بِرَبّ عودّك *** حسنًا أمسى وَسوّى أوَدَك

إِن رَبًّا كَانَ يَكْفِيك الَّذِي *** كَانَ بالْأَمْس سيكفيك غدك

 

وذلك سبب من أسباب هناء العيش، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا" أي: جمعت له الدنيا (رواه الترمذي وحسنه الألباني) قال أبو حازم: "إنما بيني وبين الملوك يومٌ واحد؛ أما أمس فلا يجدون لذته، وأنا وإياهم من غد على وجل؛ وإنما هو اليوم فما عسى أن يكون اليوم؟!"، وقال صلة بن أشيم: "طلبت المال من وجهه، فأعياني إلا رزق يوم بيوم؛ فعرفت أنه قد خِيرَ لي"، ولا يعني ذلك ترك الاحتياط للمستقبل، كلا، بل الشأن في حمل الهمّ، لا بذل السبب.

 

ومن هداية الله الطير: حسن توكلها على ربها في طلب رزقها، بل غدت مضرب المثل في ذلك؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا" (أي: جياعًا) "وتروح بطانًا" (أي: شباعًا)"رواه أحمد وحسنه البغوي).

 

والتوكل الحقُّ الذي وقر في قلب الطير يقينُه ألا رازق له إلا الله، وإفلاسُه مما سواه؛ وذاك سبب لا يخيب معه طلب الرزق أبدًا، سئل الإمام أحمد: أي شيء صدق المتوكل على الله -عز وجل-؟ قال: أن يتوكل على الله، ولا يكون في قلبه أحد من الآدميين يطمع أن يجيئه بشيء، فإذا كان كذلك؛ كان الله يرزقه، وكان متوكلًا.

 

والسعي في طلب الرزق بصدق التوكل دون ضجر أو كسل من هداية الله الطيرَ في طلب رزقها، وذلك السعي لا يكاد يخيب معه أمل أو عمل، وإن فات فإنما فات لما هو خير وأبرك، قال الأحنف بن قيس لرجل أوصاه: "إياك والكسل والضجر! فإنك إذا كسلت لم تؤد حقًا، وإذا ضجرت لم تصبر على حق".

 

وبالصبر والصدق الذي تمثّله الطير يُساق الرزق ويبارك، قال الأشج الصيدلاني: "مرّ بي رجل فرأى قلّة الناس عندي وكثرتهم عند غيري، فقال: أتريد أن تكثر مبايعتك ويحسن حالك؟ قلت: نعم، فقال: أصدق واصبر سنة؛ فإن الصدق يستحي لنفسه أن يبطئ عنك أكثر من سنة، ففعلت، فكثر زحام الناس عند حانوتي. ثم مرّ بي فرأى كثرة الناس عندي فقال: احذر، ولا تتكل على ما وهّمتهم من الصدق فتدعوك نفسك إلى ضعف ربحك اليوم، فإنك إن عدت إلى الكذب عاد عليك الكساد، فلم أزل قابلًا لوصيته.

 

والتبكير في طلب الرزق من هداية الله الطير، وهو من أسباب بركة الرزق، روى عن صخر الغامدي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم بارك لأمتي في بكورها"، قال: "وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث سرية بعثها أول النهار"، وكان صخر تاجرًا فكان لا يبعث غلمانه إلا من أول النهار؛ فكثر ماله حتى كان لا يدري أين يضعه"(رواه أحمد والترمذي وحسنه).

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله...

 

أما بعد: فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...

 

أيها المؤمنون: ومن هداية الله الطير في طلب رزقه: أن ألزمه القناعة التي يحقق بها كفايته؛ والتي سَلِمَ بها من منازعة الغير، وتطلعه لما في يده، والتعدي على حقه، وبات بها الطير مضرب مثل في صفاء القلب ولينه وحريته؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير"(رواه مسلم)، والراحة قرين تلك القناعة التي عبّر عنها شقيق البلخي بقوله: "إذا أردت أن تكون في راحة؛ فكلْ ما أصبت، والبسْ ما وجدت، وارضَ بما قضى الله عليك".

 

وحين يخلو القلب من تلك القناعة فإنه يتلّطخ بوَضَرِ الغل والحسد، ويقيَّد بوثاق الذلّ الملازم للطامع الجاشع، ومن هداية الله الطير في الرزق وتسخيره قيامها على شأن صغارها الضعاف، بل قد يمتد ذلك الإحسان إلى ضعاف المخلوقات من غير جنسها؛ كما حكى غيرُ واحد شاهدًا لها، قال أحد الصالحين: رأيت على الدجلة نخلتين إحداهما رطبة عليها رطب والأخرى يابسة، ورأيت طيرًا يأخذ الرطب ويضعه في رأس اليابسة، فصعدت إليها، فرأيت حية عمياء والطير يأخذ الرطب ويضعه في فمها.

 

عباد الله: إن في هداية الله الطيرَ في رزقه عبرةً بالغةً للناس في أرزاقهم التي باتت أكثرَ اهتمامهم وحديثِ نفوسهم ومجالسهم، وسببِ نزاعهم؛ ليأخذوا من تلك الهداية الربانية ما تطيب به الأرزاق، ويهنأ به العيش كما هو حال الطير في رزقه؛ إذ لفّه العيشُ بهمِّ الرزق اليومي، وصدقُ التوكل على الله، والسعيُ الذي لا يعتريه ضجر أو كسل، واهتبالُ أوقات البكور، ولزومُ القناعة، والقيامُ بشأن الضعيف، وجمالُ ذلك وواسطة عقده حسن الظن بالله -جل شأنه-، قال العُمَري: "يا ابن آدم! الطير لا يأكل رغدًا، ولا يخبئ لغد، وأنت تأكل رغدًا، وتخبئ لغد؛ فأحسنت الطيرُ الظنَّ بالله، وأسأت ظنَّك بالله".

 

فكيف تخاف الفقرَ واللهُ رازقٌ *** فقد رزق الطيرَ والحوتَ في البحر

المرفقات
5B94EB9bcN4BsN68re635iSGSLQ4cfJYLNzLaDXj.pdf
FhhMBAz47EfYnKji3VkdIXLfQpRj12UxVnpbKUrV.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life