عناصر الخطبة
1/ فقد النبي صلى الله عليه وسلم ثلمة 2/ من وصاياه صلى الله عليه وسلم قبل موته 3/ أهمية زيادة الاعتناء بوصاياه الأخيرة 4/ بدعة المولد وما فيه من عجائب 5/ المنة العظمى في بعثته صلى الله عليه وسلم لا في مولدهاهداف الخطبة
اقتباس
لقد تضمن مجموع ما نُقِل من وصاياه في مرض موته عليه الصلاة والسلام أمورا عدة: منها ما يتعلق بالعقيدة وهي الوصية بإحسان الظن بالله تعالى. ومنها ما هو في العبادات وهي الوصية بالصلاة، وبيان ما يقال في الركوع والسجود. ومنها ما له صلة بالأخلاق وحسن المعاملة كوصيته بالأنصار رضي الله عنهم؛ اعترافا بجميلهم، ووفاء لهم على إجابتهم لدعوته، ونصرتهم لدينه
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71]
أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: تعظم المصيبة بالأموات على قدر الانتفاع بهم في الحياة، وتشتد رزية الناس بفقدهم بقدر حاجتهم إليهم.
ومن الناس من يموت فلا يفتقده أحد، بل من الناس من يكون موته راحة للأحياء على الأرض كموت الكافر والفاجر الذي يضر الناس ولا ينفعهم شيئا؛ كما جاء في الحديث: "أن الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ يَسْتَرِيحُ من نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إلى رَحْمَةِ الله، وَأن الْعَبْدَ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ منه الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ" متفق عليه.
ومن الناس مَنْ فَقْدُه ثُلْمَة، وموتُه موتُ أمة؛ كالقادة العادلين المخلصين، والعلماء العاملين الربانيين. والعلم يقبض بقبض العلماء، وعلامة هلاك الناس ذهاب علمائهم، وهو نقص الأرض من أطرافها، وفي عصر الإمام البخاري قال محمد البيكندي: "لو قدرتُ أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل من عمري لفعلت؛ فإن موتي يكون موتَ رجل واحد، وموتَه ذهابُ العلم".
إذا كان هذا يقال في حق من تعلموا الشريعة فبلغوها للناس؛ فماذا يقال في الرسل عليهم السلام وهم أعلم الناس؟ وماذا يقال في فَقْدِ نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وهو أعلم الخلق بالله تعالى، وأنصحهم لعباده؟
لقد كانت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم مصيبة أصيبت بها هذه الأمة، كل المصائب وإن عظمت فهي دونها، وكل الرزايا مهما كانت لا تبلغ مبلغها؛ فأعظم خير حُزْنَاهُ وهو الإيمان كان على يديه، وأعظم شر اجتنبناه وهو الكفر كان حَذَرُنَا منه بسببه عليه الصلاة والسلام.
نفعنا الله تعالى به أكثر من انتفاعنا بآبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وأولادنا وأموالنا والناس أجمعين، وليس لأحد علينا من الفضل والمنة -بعد الله تعالى- قَدْرَ ما له صلى الله عليه وسلم علينا، فكانت وفاته عليه الصلاة والسلام هي أعظمَ مصيبة أصيب بها الصحابة رضي الله عنهم، وهي أعظم مصيبة أُصبنا بها بعد ألفٍ وأربع مئةٍ وتسعةَ عشر عاما من وفاته، وهي أعظم مصيبة يصاب بها مؤمن إلى آخر الزمان؛ فصلوات ربي وسلامه عليه صلاة وسلاما دائمين ما تعاقب الليل والنهار.
لقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم لأمته هذا المعنى العظيم؛ ليسلي أصحابه رضي الله عنهم بفقده حين دنا أجله، واشتد مرضه، وعلم بقرب وفاته؛ كما روت عَائِشَةُ رضي الله عنها قالت: فَتَحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بَابًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الناس أو كَشَفَ سِتْرًا فإذا الناس يُصَلُّونَ وَرَاءَ أبي بَكْرٍ فَحَمِدَ اللَّهَ على ما رَأَى من حُسْنِ حَالِهِمْ ورجاءَ أَنْ يَخْلُفَهُ اللهُ فِيهِمْ بِالَّذِي رَآهُمْ فقال: "يا أيها الناس أَيُّمَا أَحَدٍ من الناس أو من الْمُؤْمِنِينَ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عن الْمُصِيبَةِ التي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي فإن أَحَدًا من أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عليه من مُصِيبَتِي" رواه ابن ماجه.
ومن نصحه عليه الصلاة والسلام لأمته، وشفقته عليهم، ورحمته بهم: وصيته لهم بوصايا عظيمة، والعادةُ أن المريض يُشَغَل بمرضه عن غيره، ورسولُ الله ما شغله ما هو فيه من شدة الكرب، ووطأة المرض، واستقبال الموت عن الوصية للأمة بما يحتاجونه.
وما وصاهم بهذه الوصايا في مرض موته إلا لأهميتها، أو لاحتمال غفلة الناس عنها، أو جهلهم بها، وهذا يؤدي إلى تفريطهم فيها؛ فمن أخذ بهذه الوصايا العظيمة انتفع بها أعظم النفع، فهي آخر وصايا من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
ومن تلكم الوصايا العظيمة: إحسان الظن بالله تعالى؛ كما روى جَابِرٌ رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل وَفَاتِهِ بِثَلَاثٍ يقول: "لَا يَمُوتَنَّ أحدُكم إلا وهو يُحْسِنُ بِالله الظَّنَّ" رواه مسلم.
ومما حُفِظ من وصاياه في مرضه عليه الصلاة والسلام أنه نهاهم عن القراءة في الركوع والسجود، وأمرهم بتعظيم الرب في الركوع، وبالدعاء في السجود؛ كما روى ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: كَشَفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أبي بَكْرٍ فقال: "أَيُّهَا الناس إنه لم يَبْقَ من مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إلا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أو تُرَى له؛ ألا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ اقرأ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أو سَاجِدًا؛ فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فيه الرَّبَّ عز وجل، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا في الدُّعَاءِ؛ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ" رواه مسلم.
وآخر مرة صعد فيها المنبر كانت في مرضه ذلك، أوصى الأمة فيها بالأنصار رضي الله عنهم؛ كما في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قال: مَرَّ أبو بَكْرٍ وَالْعَبَّاسُ رضي الله عنهما بِمَجْلِسٍ من مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ وَهُمْ يَبْكُونَ فقال: ما يُبْكِيكُمْ؟ قالوا: ذَكَرْنَا مَجْلِسَ النبي صلى الله عليه وسلم مِنَّا، فَدَخَلَ على النبي صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، قال: فَخَرَجَ النبي صلى الله عليه وسلم وقد عَصَبَ على رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ، قال: فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ -ولم يَصْعَدْهُ بَعْدَ ذلك الْيَوْمِ-، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عليه ثُمَّ قال: "أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ؛ فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي وقد قَضَوْا الذي عليهم وَبَقِيَ الذي لهم فَاقْبَلُوا من مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عن مُسِيئِهِمْ" رواه البخاري. قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: "كرشي وعيبتي، أي: خاصتي وموضع سري".
وفي حديث ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: خَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَرَضِهِ الذي مَاتَ فيه بِمِلْحَفَةٍ قد عَصَّبَ بِعِصَابَةٍ دَسْمَاءَ حتى جَلَسَ على الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عليه ثُمَّ قال: "أَمَّا بَعْدُ فإن الناس يَكْثُرُونَ وَيَقِلُّ الْأَنْصَارُ حتى يَكُونُوا في الناس بِمَنْزِلَةِ الْمِلْحِ في الطَّعَامِ؛ فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ شيئاً يَضُرُّ فيه قَوْمًا وَيَنْفَعُ فيه آخَرِينَ فَلْيَقْبَلْ من مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عن مُسِيئِهِمْ" فَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَ فيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ رواه البخاري.
وأوصى صلى الله عليه وسلم بثلاث وصايا حَفِظ راويها اثنتين ونسي الثالثة؛ كما روى سعيد ابن جبير رحمه الله تعالى أنه سمع ابنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يقول: يَوْمُ الْخَمِيسِ، وما يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ ثُمَّ بَكَى حتى بَلَّ دَمْعُهُ الْحَصَى، قلت: يا ابَن عَبَّاسٍ، ما يَوْمُ الْخَمِيسِ؟ قال: اشْتَدَّ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ فقال: "ائْتُونِي بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا"، فَتَنَازَعُوا -ولا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ- فَقَالُوا: ما له أَهَجَرَ، اسْتَفْهِمُوهُ، فقال: "ذَرُونِي؛ فَالَّذِي أنا فيه خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إليه" فَأَمَرَهُمْ بِثَلَاثٍ قال: "أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ من جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ ما كنت أُجِيزُهُمْ" وَالثَّالِثَةُ خَيْرٌ؛ إِمَّا أَنْ سَكَتَ عنها، وَإِمَّا أَنْ قَالَهَا فَنَسِيتُهَا" رواه الشيخان، والناسي للثالثة هو سليمان الأحول الراوي عن سعيد بن جبير. وأفاد شُرَّاح الحديث بأنها الوصية بالقرآن، أو الوصية بالصلاة، أو بإنفاذ جيش أسامة، أو النهي عن اتخاذ قبره وثنا يعبد.
أما الوصية بالصلاة فجاءت مع الوصية بالمماليك والإحسان إليهم في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قال: "كانت عَامَّةُ وَصِيَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وهو يُغَرْغِرُ بِنَفْسِهِ: الصَّلَاةَ وما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" رواه أحمد وابن ماجه.
وهذه الوصية العظيمة هي آخر وصاياه؛ كما في حديث عَلِيٍّ رضي الله عنه قال: كان آخِرُ كَلَامِ رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" رواه أبو داود وابن ماجه.
وفي حديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قالت: كان من آخِرِ وَصِيَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ وما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ" حتى جَعَلَ نبي الله صلى الله عليه وسلم يُلَجْلِجُهَا في صَدْرِهِ وما يَفِيضُ بها لِسَانُهُ" رواه أحمد وابن ماجه.
لقد تضمن مجموع ما نُقِل من وصاياه في مرض موته عليه الصلاة والسلام أمورا عدة:
منها ما يتعلق بالعقيدة وهي الوصية بإحسان الظن بالله تعالى.
ومنها ما هو في العبادات وهي الوصية بالصلاة، وبيان ما يقال في الركوع والسجود.
ومنها ما له صلة بالأخلاق وحسن المعاملة كوصيته بالأنصار رضي الله عنهم؛ اعترافا بجميلهم، ووفاء لهم على إجابتهم لدعوته، ونصرتهم لدينه. وكذلك وصيته بالمماليك، ويدخل في ذلك الخدم والعمال وضعفة الناس.
ومنها ما هو من قبيل السياسة الشرعية وهي الوصية بإجازة الوفود وإكرامهم؛ سواء كانوا مسلمين أم كفارا؛ وذلك لتأليفهم على الإسلام، أو لانتفاع الأمة بهم، أو لكفِّ شرهم. وكذا الأمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب، والمقصود بذلك أن لا يكون لهم شوكة وسلطان يقيمون بها دينهم، ويظهرون شعائرهم؛ كما جاء مفسرا في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كان آخِرُ ما عَهِدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: "لاَ يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ" رواه أحمد.
وكون الصلاة آخر وصاياه يدل على فخامة شأنها، وعظيم أمرها، وقد كرَّر صلى الله عليه وسلم الوصية بها كما جاء في بعض الروايات؛ فمن ضيعها أو فرط فيها بتركها أو تأخيرها عن وقتها أو تخلَّف عن صلاة الجماعة، أو قصَّر في استكمال شروطها أو أركانها أو واجباتها - فقد ضيع من وصية النبي صلى الله عليه وسلم بقدر تفريطه.
والواجب على المسلم: العناية بوصايا النبي صلى الله عليه وسلم كلها؛ وذلك بتعلمها، وفهم معانيها، والعمل بها؛ فإنه صلى الله عليه وسلم ما وصى بها إلا لأهميتها، وعظيم مكانتها في دين الله تعالى، فمن أخذ بها حاز الخير في الدنيا والآخرة (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ) [الحشر:7]
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم....
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-: وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه، واعلموا أن التعبير الحقيقي عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم يكمن في اتباع سنته، ولزوم هديه؛ فهو أكمل الهدي وأحسنه (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران:31] (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ) [النساء:80].
ولقد أخطأ كثير من المسلمين في هذا الزمن حين ظنوا أن الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم دليل على محبته.
وفي مثل هذه الأيام تنتشر مظاهر هذه الاحتفالات في مشارق الأرض ومغاربها، وتنقل شعائرها إلى المسلمين عبر الفضائيات والإذاعات؛ مما يرسخ هذه البدعة المنكرة عند كثير من جهلة المسلمين. وتتضمن هذه الاحتفالات إنشاد المدائح التي فيها غلو وربما تضمنت شركا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تغلوا فيه كما غلت النصارى في المسيح عليه السلام.
ومن الموافقات العجيبة في باب البدعة: أن النصارى أحدثوا الاحتفال بمولد المسيح عليه السلام في المائة الميلادية الرابعة، كما أحدث بنو عبيد الباطنيون الاحتفال بمولد محمد صلى الله عليه وسلم في المائة الرابعة الهجرية!!
والعجيب -أيضا- أن الفِرَق الصوفية -ومن وافقها من عامة الناس في الاحتفال بهذه البدعة ومثيلاتها- لم يكن لهم موقفٌ مشرف حين اعتدى كفرةُ الغرب على النبي صلى الله عليه وسلم برسومهم الخبيثة. وفي أول ظهور هذه الرسوم الخبيثة قبل سنتين رصد بعض المهتمين أكثر المواقع الصوفية على الشبكة العالمية فلم يجد فيها إدانة ولا استنكارا لهذه الرسوم ولا شيئا يتعلق بها، وإلى الآن لم نر للمتصوفة الذين يصيحون بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتفلون بمولده وهجرته وإسرائه جهدا يذكر في التعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم أو نصرته أو الذب عن عرضه!! فهل يا ترى انحصر جهدهم في الدعاية لأنفسهم بهذه الاحتفالات التي يبتزون بها أتباعهم، ويخدعون بها عامة المسلمين؟!
إن المنة العظمى من الله تعالى على عباده هي ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وليست بمولده، وبهذا تنزلت الآيات القرآنية؛ فإبراهيم عليه السلام دعا ربه بذلك فقال: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) [البقرة:129] وفي القرآن نص على ذلك (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [آل عمران:164] وفي آية الجمعة (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الجمعة:2].
فالأهمية الكبرى هي لبعثته صلى الله عليه وسلم لا لمولده؛ لأنه مكث بعد مولده أربعين سنة كان الناس فيها على الشرك والجاهلية، ولم يتغير من حالهم شيء.
وما كان الخير العظيم على أهل الأرض، والدعوة إلى التوحيد، ومحاربة الشرك إلا بعد أن بعثه الله تعالى إلى الناس نبيا ورسولا، وهذا بحمد الله تعالى مما أعمى الله تعالى المبتدعة عنه، فاحتفلوا بالمولد وليس هو تاريخ التغيير في الأرض، وعَمُوا عن البعثة وهي تاريخ التغيير في الأرض؛ مما يدل على ضعف رأيهم، وقلة توفيقهم!! ومن أحدث في الإسلام حدثا فهو بعيد عن التوفيق والسداد، وعمله مردود عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هذا ما ليس فيه فَهُوَ رَدٌّ" رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها.
ألا فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون-، واستمسكوا بسنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، والزموا هديه، وخذوا بوصيته، وذبوا عن عرضه، وانصروه بما تستطيعون من أنواع النصرة، وأعلى ذلك وأقواه الدعوة إلى دينه، وإظهار سنته التي أغاضت الكفار والمنافقين فسخروا به وبدينه؛ لعجز باطلهم أمام الحق الذي جاء به، ولا تغتروا ببهرج المحتفلين بالموالد ونحوها ولو كثروا، وزينوا باطلهم، ونشروه في أرجاء الأرض؛ فإن الحق حقٌ وإن قلَّ أتباعه، وإن الباطل باطل ولو كثر أنصاره، والحق يعرف بالدليل من الكتاب والسنة، وليست الكثرة دليلا صحيحا على الحق (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [الأنعام:116]
وصلوا وسلموا على نبيكم.....
التعليقات